محمد رفيع *
( ثقافات )
في العربيةِ، تتسلّلُ النونُ، بنقطتها واستدارتها، إلى أخطر الأشياء. فهي محشورة في: «أنا ونحن، وأنت وأنتم، وانتنّ وهُنّ» وغيرها، وفي كلّ ما في نون الذات، الفردية والجماعية، من تنويعات مفرطة وباذخة. تخفُّ وتثقلُ، تسكن وترتفع، وهي تقي، لتتحمل الكسر الموجع في نون «الوقاية». وفي تحولاتها، انها ترتدي قناع «التوكيد»، الثقيل منه والخفيف، وتكون «ساكنة وتنويناً»، لتُكمل أقنعة التنويع اللازمة. أما حين تريد غواية أصحابها، فانها تأخذ شكل «نون نسوة»، بكل ما فيها من خفة ورشاقة.
هي «النون» وفي كل اللغات، لا تكفُّ عن تحوّلاتها. تنبسط تارة، وتستدير أخرى، وتتسنن في «اللاتينية»، لتأخذ شكل الماء، مُرجعة المعنى إلى أصل فرعوني يدل على «الماء».
وفي العبرية، فهي الحرف الرابع عشر، الذي أخذ منه «يوشع بن نون» كنيته. وهذا الأخير، هو من تزعم التوراة بأن «الربّ» كلّمه، بعد موت النبي موسى. وهو خادم النبي، بزعمِ التوراةِ، الذي أصبح قائداً لـ»بني إسرائيل» بعده، طوال الحقبة التي تم فيها الاستيلاء على معظم «أرض كنعان»، وهو ما يزال بعد مقيماً في «سهل مؤاب».
وتُمعِنُ أسرار «النون» في التكتّم والتمنّع على المعرفة، لتتصدّر إحدى سور القرآن الكريم: «نون والقلم وما يسطرون»، التي قال فيها بعض المفسرين انها «من الأحرف المقطّعة في بدايات السور»، وأنها «نص حكيم قاطع له سرٌّ». وشرحها آخرون بأنها تعني «الدواة» أو «المحبرة»، وهو ما يؤكّد ما جاء بعدها من تلازم الأشياء والمعاني: (القلم، يسطرون). وشاء بعض الاخباريين الإمعان في خفائها، فقالوا إنها «الحوت». أما الفراعنة، فرمزوا لحرفها، في المصرية القديمة، بخط عمودي متكسر، باعتبارها ترمز إلى الماء، ومنه أخذت اللغات اللاتينية شكل حرف النون. أما اللغة المسمارية، فظلت «النون» فيها تعني: «الحقيقة، العلم، والعقل»..!.
لكَ أن تستديرَ مع «النون» كما شاءت، أو كما شئت. فهي ماء فرعوني يسري «تحت التبن». وهي وعاء، يحتضن سائلاً ومداداً، لكَ أن تختار من ألوانه ما يشتهي الجَمال والأسرار. وهي السرُّ الخفيُّ، الذي يربط الحقيقة والعلم والعقل، بخيط تراه بصائرُ، وتخطِئهُ عيونٌ كثيرة..!.
وفي راهن أيامنا، تستدير النون، لتختم معاني «الأسماء» ، في الشرق المستباح بطوله الباذخ. فهي في الصين واليابان، وفي إيران، وباكستان وأفغانستان، إلى آخرِ ما شئتَ من أسماء، تستعير نصفَ كَمالِها من لازمة «ستان»، لتبقى النون خاتمة الأصوات، في الشرق المثخن بعذاباته وجراحه، وما يسيل من «نوناته» من مداد قانٍ، فاضَ على الأرض والزرع والضرع والإنسان..!؟.
لا تُشبهُ النونُ سواها. فبِها تبدأ: «الناس»، لتصل إلى آخر ما في «النسور»، و»النور» من فضاءات تحليق. وفيها ينتهي: «الحزنُ»، «والحنينُ»، و«الأنينُ»، و«الفِلسُ»، و«الطينُ».. و«فلسطينُ».
* روائي وكاتب من الأردن