ضرار بني ياسين *
كان الإسلام، مثل كل الحركات التاريخية الكبرى، يمثّل في مبتدئه حداثةً واعدة، وجاء وقتٌ أصبح يشكل فيه تراثاً متكاملاً من المعارف والمبادرات الثقافية التي تكاد تكون كلها مكررة. يحاول محمد أركون في هذا الخصوص أن يُبين التباعد الكبير بين الإسلام والظاهرة الإسلامية، وكذا التحوّل المعرفي الذي تأسس في الفكر المعاصر.
ومثلما كان الإسلام هو المسؤول الأول عن التراث الحي التاريخي الذي ما فتئ يفرض حضوره في الذات الإسلامية المعاصرة، ويؤسس لها جزءاً من أفكارها وتصوراتها عن دينها وذاتها والعالم، كان العقل الإسلامي التاريخي أيضاً، يمثّل تجسدات معرفية وأنطولوجية وأيديولوجية، ويضطلع بمهمة إعادة إنتاج هذا التراث الحي ويتكفّل بضمانة استمراريته من موقع قدسية هذا التراث، أو بالأحرى استمرار صلاحية أفكاره في إنتاج الوعي الإسلامي.
كذلك، فإن هذا الإسلام كان في مُبتدأ عصره وتاريخه تدشيناً جديداً للتاريخ، أو بالأحرى على حد قول أركون: «تأسيساً جديداً لنموذج ثقافي غير معروف سابقاً. ومع حقيقة أن هذا التأسيس انبثق من عملية تكرار الخطاب القرآني في الأوساط الاجتماعية–الثقافية، إلا أنه أصبح نتاجاً تاريخياً للقوى المحسوسة المسؤولة عن استمراره عقائدياً وأيديولوجياً» (1). واستمر هذا الظهور للإسلام بحيوية طِوال قرون، إلى أن أصبحت كلمة «إسلام»، بنظره، مدعاة للإشكال وسوء الفهم، بسبب الإسقاطات الكثيرة من المعاني المتناقضة والمختلطة، «فالمسلمون التقليديون يستخدمونها بشكل تبجيلي وتقديسي مُضخّم وخالٍ من أي رؤية نقدية أو حتى تاريخية موضوعية» (2).
ولم يخلُ الأمر من بلبلة معرفية، فقد أصبحت كلمة «إسلام» تُستخدم على أكثر من معنى، فقد تُستخدم بالمعنى الإيجابي المثالي جدا، وربما المتعالي عن التاريخ من جهة، أو المعنى السلبي العدائي جداّ من جهة أخرى (3).
إن الإسلام بوصفه ظاهرة اعتقادية/ معتقدية ذات توجه صوب المطلق، لا يلغي حقيقة تجلّيه في الظاهرة التاريخية والأيديولوجية، الأمر الذي يُحتّم، برأي أركون، فحص مسألة العلاقة التي تربط الإسلام بالدين الصحيح، من وجهة نظر مُفسّريه ومعتنقيه. ويتساءل، بهذا الخصوص، حول توافر إمكانية وجود «طريق علمية للتعرّف على هذا الإسلام، حتى يُجمِع عليه العلماء، أم هل يجب أن نَعدِل لأول مرّة عن النظرة التقليدية ونُقرّ بضرورة التعددية العقائدية، لأن مصدر الإسلام هو القرآن، التي ألهمت نصوصه وما تزال تُلهِم تأويلات شأنها التغير والاختلاف مع تغيّر الزمان والمكان، كما هو شأن كل نصّ غزير المعاني رمزي المقاصد»؟ (4).
وكما أكد أركون فكرةَ التراث الإسلامي الحي الكلّي، فإنه عند الدراسة والنقد والتفكيك يصيّره تراثات، لا تراثاً واحداً، تعايشت وتنافست على مرّ التاريخ، ومن زاوية أخرى يشدّد على فكرة العقل الإسلامي الكلي الذي يتضمن عقولاً متعددة، تخصّ الفِرَق والمذاهب المختلفة.
وبخصوص الإسلام، كمعتقَد، ومنظومة من القيم الاجتماعية والثقافية، فإنه يشير إلى الإسلام بالمعنى الكلّي الذي يدل على المدارس والمذاهب اللاهوتية والفقهية والتفسيرية المختلفة، فضلاً عن شموله جميع الأقوام أو الشعوب التي اعتنقت أحد هذه المذاهب. وبهذا المعنى، فإنه يقبل الحديث عن إسلام واحد، لكنه مؤطر فقط نظرياً على مستوى البحث والدراسة، أمّا في الواقع المعيش فإنه «توجد إسلامات عديدة، متعددة الأوساط الاجتماعية-الثقافية واللغوية التي انتشر فيها الإسلام، والتي تشاطر بعضها بعضاً ذاكرةً تاريخية طويلة» (5).
وهكذا فإنه، بنظر سليمان البدور، لا يمكن التحقق من وجود «وحدة في النظر بين المسلمين، لا في فهم الإسلام-الوحي ولا في طريقة تلقيه، كما أنه ليس هناك ما يقابل مفهوم الأمة الإسلامية في الواقع، ولذلك يبقى هذا من الناحية المنطقية، بلا «ما صدق» (6).
يتضح أن أركون سعى من خلال اعتماده مصطلح «الإسلامات»، إلى تجذير فكرة التاريخية في الممارسة الواقعية للإسلام في أوساط مجتمعاته، وإلى أن يرصف طريقاً إلى تأكيد أن ما ينطبق على الإسلام التاريخي الكلاسيكي الوليد مع القرآن، ينطبق أيضاً على الإسلام المعاصر، فكلاهما نتاج للممارسة التاريخية، مثلهما مثل أي شيء على وجه الأرض. إنه، بمعنى واضح، نتاج الممارسة التاريخية لفاعلين اجتماعيين شديدَي التنوع والاختلاف، كما أنه ناتج عن أفعال تفسيرية وتأويلية واسعة.
ينطلق أركون في تحديد معنى الإسلام، من لحظة القرآن التي يعدّها المسؤولة عن البلورة التاريخية للمفهوم، وذلك عن «طريق احترام التسلسل الزمني للآيات، وعن طريق مَوضَعَتِها ضمن سياقها الاجتماعي-التاريخي الأول الخاص بالدائرة اللغوية والثقافية العربية» (7). وما من شك، عنده، أن الباحث يجد نفسه في موقف معرفي يتطلب منه الفصل بين نمطين من الإسلام يجدان أساسهما التبريري في قلب النصوص القرآنية: أولهما الإسلام الشرعي والطقوسي الغالب تاريخياً وسوسيولوجياً، وثانيهما الإسلام المدعو بالروحاني، المُهمش من طرف الأول.
ويحاول النمط الأول المكرور من الإسلام، بكل ما يستطيع، السطو على القيَم والطاقات الخلاّقة للخيال الديني الخاص «بكبار الشهود على التجربة الإنسانية للإلهي» (8). ومن الممكن تلمّس تجلياتها في الإسلام الثاني. يشاء أركون أن يتحدث، هنا، عن إسلام صافٍ مُعبأ بالرمزانية الروحية المتحررة من قيود المعتقد وطقوسيته، والتي تكشف عما يمكن أن يكون تجربة صوفية خاصة بالإلهي، بيد أن المعضلة التي تعرقل الوصول إلى مثل هذا الإسلام الصافي تكمن في الاستحالة الواقعية للاتصال بأولئك الشهود الذين تحدّث عنهم أركون، لمعرفة كيفية تشغيل الخيال الخاص بتجربتهم الفريدة مع الإلهي وغرسها من جديد في روحانية مجددة في عالم الإسلام المعاصر.
يمكن للباحث أن يصل إلى هذين النوعين من الإسلام، بالتبحّر في البحوث المُنتَجة من قِبَل المستشرقين، ويبقى السؤال يدور حول «كيف وأين حدثت الانقطاعات أو التواصلات بين الإسلام التاريخي والإسلام المثالي؟» (9). والواضح أن أركون يقر بمدى صعوبة هذه المسألة، التي تستلزم من الباحث معلومات كافية ليست في حوزة يده، يمكن، بفضلها، التمييز «بين الدين المُعاش، لكن المفهوم بشكل غير مُطابق وغير صحيح، والدين غير المُعاش وغير المفهوم بشكل متكافئ، والدين المُعاش، لكن الخاضع للتحليل العلمي، وأخيراً الدين المُعاش والسائر نحو الوصف المتكافئ والتفسير المتكافئ والصحيح» (10).
قدم أركون تعريفه الخاص للدين الذي يصْدُق، برأيه، على الإسلام، فيقول إن الدين «هو نظام من العقائد/ واللاعقائد، أو نظام من الاعتقاد/ واللااعتقاد» (11). أمّا الاعتقاد عنده فهو «الانتساب الفكري إلى عقيدة ما، دون البحث عن أسباب هذا الانتساب، أو صلاحيته» (12). وفي إطار هذا التعريف يُحاول أركون، كما يبدو، أن يُدخل التمييزات الأربعة السابقة في نطاق البحث العلمي، ليكشف عن التجليات الخاصّة بالإسلام، لا سيما عند نمطين يلحظهما الباحث في الفكر الإسلامي: نمط الإسلام كدين عند مستوى لَحظة الخطاب النبوي الشفهي، ونمط صورة تجلّيه في كل التوظيفات المفروضة لاحقاً من قِبَل المسلمين. إن الإهابة المعرفية التي يُلقيها على البحث العلمي الذي يخصّ مشروعه في نقد العقل الإسلامي تحاول فرض كل التدخلات العلمية الضرورية الكفيلة بفكفكة كل الأسيجة والاختزالات والتفخيمات التي رافقت كلمة «إسلام» وإزاحتها.
ذهب أركون في هذا الخصوص، إلى ناحية العقل اللاهوتي الفقهي، فوجد أن مجموعة المبادرات التنظيرية الفقهية قد شُرعت في مُمارسة عملها عن طريق تدشين الاعتقاد بشكل غير مسبوق، كبنية عقلانية فوقية على أساس تدخّل أو إدخال العقل أكثر في فهم الإيمان/ الاعتقاد (13)، ويَلْحَظ أن تاريخ هذه البُنى الفوقية اللاهوتية لا يتطابق مع تاريخ الدين الحق، على مستوى تحديده وتعريفه القرآني، «فهذا التحديد القرآني يشمل كل الطبقات الاجتماعية، ويعبّر عن كل المستويات وأنماط الثقافة السائدة التي انتشر فيها الإسلام، وظلّ مُلتحماً بالحسّ العملي الذي يشرط تماسك كل فئة من الفئات الاجتماعية. أمّا الدين المُعقْلَن بعد دخول الفكر الإغريقي إلى الساحة، فلم يشمل أساساً إلاّ النُخب التي تعرف الكتابة والثقافة الفصحى، العالِمة الرسمية المسيطرة» (14).
والواضح بنظر أركون أن مفعول التنظيرات الفقهية الكلاسيكية كان حاسماً في الفكر الإسلامي: فعلى مستوى الثقافة العالمة، قُدّم الإسلام كإنموذج مُتعالٍ، أي فوق المجتمع تماماً، خلافاً للرأي العلمي الحديث الذي يفرض الفكرة التي تقول إن الدين كلّه في المجتمع (15)، ولا يمكن تصوّره خارج إطار المجتمع وتصوراته، وكل الأنطولوجيا الطقوسية المرافقة له.
إن الدين كلّه في المجتمع، ومن المجتمع، ليس لأنه في نصوصه التأسيسية إنتاج وعي اجتماعي -تاريخي، وإنّما على أساس كل التفاسير والتأويلات التي حصلت على النص/ الوحي، كما أن التجسيدات العملية من قِبَل المؤمنين هي المسؤولة عن إعادة إنتاج تجليات تطبيق الدين، واستمرار الوحي، من خلال هذا الدين في وضعيات تاريخية متكررة.
لا ريب في أن التصورات الأصولية النصوصية الخاصة بالإسلام الأولي تنأى عن هذا التحديد العلمي، وتُحِيل المجتمع إلى مُتخيّل إسلامي يُقدَّم للناس بوصفه التطبيق الحرفي للسلوك الفردي والجماعي، الذي دشنه النبي الكريم منذ مُبتدأ الوحي، ولم ينفكّ هذا المتخيل يستوعب هذه التصورات لكي يُنتج في كل مكان تاريخاً إسلامياً (16)، يتشكل سراطياً وفق قواعد أساسية تمثل جوهر الإسلام وتتطابق مع هذا المُتخيل (17).
الملاحَظ أن هذا الاتجاه في الترسّخ وتوجيه أعمال ومبادرات ذلك الجيش اللجب من التيولوجيين والفلاسفة والقضاة والمؤرخين والأدباء، استمر إلى أن وصل إلى بناء الإسلام الكلاسيكي ومعرفة كيفية تشكله المجعول منه «أنموذجاً أعلى للحياة الفردية والعمل الجماعي المُوجّه نحو الله، والذي يشمل معاً القانون الديني والتيولوجيا (علم الكلام)، والنظرية والثقافة والحضارة» (18). وأصبح هذا النمط من الإسلام، المشحون بالخيال الجماعي، والرمزانية الإيمانية، السلاحَ الفعّال لأنظمة وقِوى سياسية عديدة، ودخل في تاريخ الرأسمال الرمزي لكل الفاعلين الاجتماعيين. ويرى أركون أن هذا العمل التاريخي قد شابَهُ عيب كبير، من ناحية اختزال الإسلام إلى وظيفة صمام أمان أيديولوجي، فإن لم تحصل مُبادرة تُنجز كل مسؤوليات القراءة النقدية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية الخاصة بكل ميراث الإسلام الكلاسيكي، فإننا نؤخر من عملية فهم الوعي الإسلامي عبر التاريخ (19).
بالنسبة لأركون فقد أمكن تقديم تصوّر خاص بالإسلام الأولي/ الكلاسيكي بمساعدة أربعة عوامل حاسمة:
أولاً: فعّالية وحيوية الخطاب القرآني وبنيته المجازية المنفتحة على المطلق، وتعددية المعنى.
ثانياً: فعالية القوة الحاملة والمُثيرة للشعائر الدينية، التي تتم بواسطتها عملية التجسيد المستمر -بالنسبة للمؤمنين وللأمة كلّها- للمضامين المعنوية واندفاعات الأمل الأخْرَوي، التي أدخلها الخطاب القرآني لأول مرّة، والتي وسّعها وضخّمها الخطاب الإسلامي في ما بعد.
ثالثاً: تأسيس واستمرارية الدولة المركزية، التي حملت على عاتقها مهمة الدفاع عن الدين الحق، ثم استمدت منه شرعيتها.
رابعاً: تشكل مُتخيل سياسي-ديني للإسلام أثناء المرحلة التأسيسية له (610-632 م) (20).
هكذا، من وجهة نظر أركون، تشكَّلَ الإسلام وتراثه الحي، الذي يُنسب إليه أنه قدّم للأمة كلّها جميع الحقائق والقيم ومعايير السلوك؛ بحيث أن كل مُمارسة أو فكر جديد لم يُصدّق عليه التراث ينبغي أن يُرفض، باسم البدعة، لأن «صراع الفقهاء واللاهوتيين ضد البِدَع يهدف إلى حماية العقائد (الأرثوذكسية)، وتمامية التراث الإسلامي في مواجهة الأفكار والعادات والتقاليد التي شكّلت هي ذاتها حضارة الإسلام الكلاسيكي» (21).
وبحسب أركون، فإن فهم الكيفية التي تَشكل فيها الإسلام الكلاسيكي، لا يقتصر على معرفة تعبيراته ومصطلحاته العقائدية، وهو الأمر الذي يتواصل فعله حتى اليوم من قِبَل مؤرخي الأفكار. ولا بُدّ للفهم أن يستقيم من وضعية معرفية جديدة، تبدأ من فحص مواقعية القوى الاجتماعية المسؤولة عن إنتاج هذه التعابير، وعن كيفيات استخدامها، طمعاً في فرض نفسها أمام القوى المتنافسة التي كرّست الانتقال من نظام اجتماع-ثقافي سابق إلى نظام جديد، أو من تشكيلة أيديولوجية إلى تشكيلة أخرى (22).
ومع حقيقة اختلاف هذه المواقعيات، فإن المُلاحَظ، بالنسبة لأركون، أن تأسيس التراث الحي، أي: الإسلام الذي يتجاوز التاريخ، والمُستلَهم من قِبَل أجيال المؤمنين، وفي مقدمتهم المجتهدون من الفقهاء والأئمة، قد خضع إلى نوعٍ من التأصيل العام، الذي يشمل تاريخ المؤمنين الأرضي أو الدنيوي كله، والشيء المُختَلِف بين هؤلاء هو الوسائل والمنهجيات التي يتبعونها من أجل الاستملاك الكامل لهذا التراث الحي (23)..
لقد ترسّخ، بناءً على هذه الديباجة التأسيسية، فكرة مفادها أن الإسلام «كيان جوهري قائم، يُولّد نفسه تلقائياً عن طريق النصوص التي كانت أساساً له، كما أنه يفرض صبغته على المجتمعات والثقافات التي قبلت به. فالإسلام المعاصر مثل الإسلام الكلاسيكي الناشئ عن القرآن وأعمال النبي محمد، كلّها تشكل المحاصيل المتحولة والمتغيرة للفاعلين الاجتماعيين، وهي متفاوتة، كما أنها في تعرضها للمقتضيات والظروف التاريخية المعقدة بمرور الزمان وتغيّر المكان، تجعلنا نُؤثر أن نتحدث عن إسلام فرضي (أقنومي) -إسلام جامد وجوهراني- مُنبَث من النصوص والمعتقدات، بدلاً من أن يكون مُصاغاً بقالب عقائدي وأيديولوجي بفعل قوى وعوامل واقعية وملموسة» (24).
الأمر الخطير الذي تفرضه هذه الديباجة، من وجهة نظر أركون، ليس ذلك التصميم الاعتقادي الخاص بنوع الإسلام الصحيح، بمقابل الإسلامات الهرطوقية أو البدعوية فقط، وإنّما الأخطر هو تقديم أنموذج لإسلام مُتخيل، ومبتور واستيهامي، يُغاير الفهم الخاص الذي يمكن أن تقدمه لنا علوم الإنسان والمجتمع. فبحسب هذا التصميم الاعتقادي يُختزل الإسلام إلى مجرد تجليات طَقسية شعائرية وشكلانية، تخصّ وظيفة أمن وحماية «الهوية الجماعية المُعلنة على رؤوس الأشهاد بكل افتخار وعنجهية، أكثر مما هي خاصة بإيمان شخصي صميم داخلي» (25). الواضح إنه، هنا، يُصار إلى تقديم إسلام مُختزَل إلى شعارات تعبوية مُحركة للجماهير، تتخللها ممارسات طقسية مُفرّغة من شحناتها وطاقاتها الروحية الخلاقة، لتصبح كلها مُمارسات تتولد في حمأة التنافسات والصراعات الأيديولوجية الصريحة على «الأملاك والأرزاق والسلطة».
إذا أمكن الانتقال إلى وضعية المعرفة العلمية بخصوص فهم الإسلام التاريخي، فإن أركون يقرر بأنه لم تبرز إلى الآن، تلك المُجابهة الضرورية على المستوى الإيبستيمولوجي، بين «معنى مُتعالٍ لكل فعلٍ بشري، ومعنى تاريخيته، ما بين التصوّر والواقع، ما بين الأسطورة والتاريخ». ولم تظهر (تلك المجابهة) بعد في الوعي الإسلامي، و «لم تُعرف بصفتها مشكلة محورية تخص كل معرفة بشرية مرتبطة بممارسة تاريخية» (26). وعليه، فإنه بالنسبة للموقف العلمي ينبغي قلب المنظور اللاهوتي القديم الذي سيطر على كتب المِلل والنحل، والدخول في المنظور الاجتماعي والتاريخي الذي يخصّ الفهم الصحيح للإسلام. وعندئذٍ -كما يعتقد أركون- يمكن فهم الامور على حقيقتها، والخروج من نطاق التصورات المُسيطرة علينا منذ العصور الوسطى، الفارضة لأنموذجها المعرفي الخاص بالإسلام (27)..
ولمّا كان الإسلام يُمثّل في الواقع الرأسمال الرمزي الأعظم للمشروعية التي تطلبها كل الفئات والقِوى الداخلة مصائرها في تاريخه ونصوصه، فإن الصراع على تفسيره وامتلاكه أو حتى احتكاره كان عنيفاً. وقد خلق هذا الوضع، برأي أركون، نمطاً من المزاودة المحاكاتية عليه بين المسلمين، وهذه عملية حصلت منذ زمن بعيد، «منذ الفتنة الكبرى، فكل فرقة تدّعي أنها تمثل الإسلام الصحيح دون سِواها استمرت هذه المزاودة المحاكاتية والصراعية، وما انفكّت تظهر في مختلف السياقات التاريخية والاجتماعية» (28). وراهناً، يُلحَظ، بوضوح، أن الحركات الأصولية تقوم بمثل هذه المزايدة المحاكاتية، لأنها تعي جيداً أن الصراع يدور في أساسه حول أعلى ذروة في العالم، ذروة الشرعية والمشروعية (29).
يبدو أن من أخطر ما يكتشفه أركون، في هذه التجليات التاريخية الخاصة بالإسلام، هو التحول الذي طرأ على «التفسير التقليدي، والمُمارسة الأخلاقية القضائية والسياسة في القرآن، والتجربة الدينية التي عاشها النبي، إلى جُملة من التعاريف، ومن القواعد الجامدة، ومن السلوكات الضاغطة» (30). وهذه وضعية يسميها أركون، «وضعية الانتقال» من الدين القُوى حيث التجربة الروحية الفردانية المنفتحة على كل الرمزانية المكثفة للمطلق الإلهي، إلى الدين الأشكال والطقوس والمراسم، والتي قلّما لفتت انتباه المفكرين المسلمين المعاصرين (31).
وعلى أساس وضع الأمور في نصابها المعرفي بوساطة طريق الفهم والنقد التاريخي، وتوسيع الفضاء المعرفي لانبثاق وعي إسلاميٍ جديدٍ أو مُجدَد، فإنه ذهب إلى تأكيد خطورة الخلط ما بين الإسلام كدين، والإسلام كإطار تاريخي وتراث حي ممتد عبر قرون، ولذا فإن دراسة الوحي بما هو مبتدأ الإسلام ينبغي أن تحصل في تجلياته اللغوية الأولية، ضمن الشروط التاريخية والأنثروبولوجية. فهذا المنهج يُعيد «فحص ظاهرة الوحي، خارج التعريفات العقائدية، التي ما تزال تصوغ القوة المحرّكة ذات الجوهر الأيديولوجي لما يُسمى: الديانات المنزّلة» (32).
الواضح أن سعي أركون يروم إلى توسيع مساحة الفهم الحديث للظاهرة الدينية عموماً، والظاهرة الإسلامية خصوصاً؛ لذا فإنه يضع على نفسه، وعلى غيره، من الباحثين شروطاً ابتدائية، تنطلق من وظيفة النقد التاريخي واللاهوتي والفلسفي للأرثوذكسيات الإسلامية بكل أنواعها، وذلك كشرطٍ ضروري لا مفرّ منه، من أجل تغيير الوضع الراسب في أرض الإسلام (33). وهذه عملية لا تغفل عن ضرورة واشتراطية ربط الدين ببقية العوامل والقِوى التي تؤثر على المجتمعات البشرية، وتُسهم في تحريك التاريخ، خصوصاً أننا نشهد اليوم صعوداً متنامياً للأفكار الأشدّ دوغمائية عن الإسلام، المنتعش على يد الحركات الأصولية. ولأجل إنجاز هذه المهمة ينبغي تجاوز المنهجية الوصفية أو السردية للإسلاميات الكلاسيكية، نحو بديل معرفي يتصل بالمنهجية الحديثة، التي تُتيح لنا الانتقال من منهجية التاريخ الراوي الفيللوجي إلى منهجية التاريخ الإشكالي النقدي (34).
هوامش
(1) أركون، نحو نقد العقل، ص 271.
(2) المصدر نفسه، ص 245.
(3) المصدر نفسه، ص 245.
(4) أركون، أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، ص 111.
(5) أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل، ص 189.
(6) البدور، سلمان، التراث والمعاصر ورؤية جديدة لفلسفة عربية معاصر، ص 11.
(7) أركون، نحو نقد العقل، ص 251.
(8) المصدر نفسه، ص 261-262.
(9) أركون، الفكر الإسلامي.. قراءة علمية، ص 116.
(10) المصدر نفسه، ص 116.
(11) أركون، قضايا في نقد العقل، ص 219.
(12) المصدر نفسه، ص 219.
(13) المصدر نفسه، ص 145.
(14) المصدر نفسه، ص 145.
(15) أركون، الفكر الإسلامي.. قراءة علمية، ص 172.
(16) أركون، الفكر الإسلامي.. نقد واجتهاد، ص 109.
(17) أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 224.
(18) المصدر نفسه، ص 149.
(19) أركون، الإسلام اليوم بين نهجه المُتوارث والعولمة، بحث ضمن كتاب «المناهج والأعراف العقلانية في الإسلام»، ص 297.
(20) أركون، الإسلام.. الأمس.. الغد، ص 122.
(21) أركون، الفكر الإسلامي.. نقد واجتهاد، ص 172.
(22) أركون، الإسلام… الأمس واليوم، ص 144.
(23) المصدر نفسه، ص 224.
(24) المصدر نفسه، ص 224.
(25) أركون، نحو نقد العقل، ص 316.
(26) أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 126.
(27) أركون، قضايا في نقد العقل، ص 117. هامش 1.
(28) أركون، الإسلام.. أوروبا.. الغرب، ص 11.
(29) المصدر نفسه، ص 11.
(30) أركون، من مفهوم الإسلام إلى كيف الكلام عن الإسلام اليوم، ص 47.
(31) المصدر نفسه، ص 47.
(32) أركون، نافذة على الإسلام، ص 23.
(33) أركون، الإسلام.. أوروبا.. الغرب، ص 100.
(34) المصدر نفسه، ص 100.
( الرأي الثقافي )