الكتابة بـ”لغة ميتة”!


أمجد ناصر*


ينسِب الكاتب وعالم النفس المصري مصطفى صفوان -المقيم في فرنسا منذ عام 1948- لأدونيس قوله إنه يحبّ الكتابة بـ”لغة ميتة”!، ويستشهد صفوان بأدونيس ومؤلفه “الكتاب” في معرض كلامه عن الطلاق بين العربية الفصحى والعاميات و”الدورالذي تؤديه الكتابة في تأبيد الاستبداد”.
ويقول صفوان: “والواقع أني سمعت أدونيس مرة يقول إنه لن يكتب أبدا بغير العربية الفصحى، لأنه يحبّ الكتابة بـ”لغة ميتة”!”. ولكنه يؤكد أيضا أن “الكتاب” هو من الأعمال الأكثر ثورية التي تسنى له قراءتها في الأدب العربي، وهو “مكتوب بأسلوب فائق الرقي، بحيث يمثل نصا تعسر قراءته حتى بالنسبة إلى الأشخاص المثقفين، فضلا عن الغالبية العظمى من الشعب الأمي، لهذا ليس مستغربا أن يبقى “الكتاب” نصَّا منسيا”.

وبسبب بقاء نص أدونيس “الكتاب” منسيّا عند القراء العرب، أو في العالم العربي، فإن مصطفى صفوان يصل إلى نتيجة مؤداها “هذا المثال من الكتابة بالعربية الفصحى هو ما دفعني، منذ ذلك الحين، إلى ترك الكتابة بالفصحى والتحول إلى الكتابة بالعامية المصرية. وهكذا يتضح اختياري ترجمة “عطيل” (مسرحية شكسبير) بالعامية المصرية، أي إتاحة الفرصة أمام الشعب لقراءة الكتّاب الكبار باللغة التي يتعلمها في المهد والتي يقضي حياته -منذ الميلاد وحتى الممات- يتحدث بها”.

هذا الكلام عن أدونيس ومصطفى صفوان واللغة العربية يأتي في مناسبة سن “اليونسكو” يوما للاحتفال باللغة العربية (18 ديسمبر/كانون الأول من كل عام)، وذلك بعد نحو أربعين سنة على تصويت الأمم المتحدة باعتبار العربية إحدى لغاتها الرئيسية.


لم أقرأ في الواقع، كلاما لأدونيس مشابها لما نسبه إليه مصطفى صفوان. على الأقل ليس على هذا النحو الذي يخرج اللغة العربية تماما من الحياة ويسجّيها في تابوت ذهبي ماثل للدفن، أو جاهز للعرض في متحف التاريخ.

قد يكون أدونيس قال ما ينسبه إليه صفوان مازحا أو مناكفا، أو ربما مجاملا لما يعرفه عن مصطفى صفوان من موقف “شعبوي” ضد اللغة العربية الفصحى، ولكنه بالتأكيد لا يعنيه بالمعنى سابق الذكر، وإلا ما وضع “الكتاب” (الذي يستشهد صفوان برفعته اللغوية)، فضلا عن عشرات الأعمال الشعرية والنثرية المكتوبة بلغة عربية قوية بقدر ما هي حيّة، ورفيعة بقدر ما هي نابضة وقادرة على التعبير عن خلجات ذاته وتعقيد أفكاره، فكيف يمكن لأدونيس أن يكتب “الكتاب” (موضوع إشادة مصطفى صفوان الغامرة) بالعامية السورية أو اللبنانية أو المصرية؟ يصعب تصوّر ذلك، بل يستحيل.

ثم إنني أعرف من أدونيس نفسه أنه (وبعض أعضاء هيئة تحرير مجلة “شعر”) لم يتفق مع دعوة صاحب مجلة “شعر” ورئيس تحريرها يوسف الخال إلى الكتابة بالعامية اللبنانية، بدليل أن اللغة العربية الفصحى ظلت هي السائدة في نصوص المجلة وتغطياتها، وإن حملت بعض الأعداد قصائد بالعامية اللبنانية لشعراء يكتبون أساسا بالعامية، مثل ميشيل طراد وطلال حيدر.

المتابعون لمسيرة مجلة “شعر” يعرفون أنها واجهت إشكالات جوهرية بين أعضائها وفي علاقتها بالمحيط الثقافي العربي، من بين تلك الإشكالات “قضية” اللغة التي أدت -من بين أسباب أخرى- إلى انفراط عقدها، بعدما أسهمت تنظيرا وإبداعا في نقل القصيدة العربية من حال إلى آخر.

وفي هذا الإطار يورد الباحث المغربي حسن مخافي فقرة من رسالة متأخرة وجهها أدونيس إلى رفيقه يوسف الخال يقول فيها: “اختلفنا على سبيل المثال في مسألة اللغة. من جهتي لم أكن أستطيع فيما أرى انهيار العالم من حولي وانهيار القيم التي تعبر عنه، إلا أن أكتب وكأنني أسكن في نبض اللغة العربية، وقد رد لجسدها بهدوئه الأصلي. هكذا كنت أرى أن الكتابة باللغة الدارجة إحدى علامات ذلك الانهيار. ومن هنا كان حرصي الكامل على أن أكتب باللغة نفسها التي أسَّست لثقافتنا”.

وتحدّث أدونيس في ندوة له بالرباط عن اللغات واللهجات في العالم العربي داعيا إلى تمكينها واحترامها من دون أن يعني ذلك التخلي عن الفصحى أو التضييق على مكانتها، وقال ما نصّه: “إنها لغة بديعة، وأنا مغرم بها إلى درجة أني أتساءل: هل نحن العرب نستحق هذه اللغة العظيمة؟”.

وليست الدعوة إلى اعتماد العاميات العربية بديلا عن الفصحى وليدة اليوم، ولا هي من ابتداع مصطفى صفوان، بل لعله يكون من آخر الداعين إليها بعد فشل كل الدعوات السابقة إلى استنباط “لغات” محلية منها، كما حصل للاتينية في أوروبا مع بداية عصر النهضة.
 
دعاوى العامية



بالإمكان رصد إرهاصات الدعوة إلى إحلال العاميات العربية محل الفصحى انطلاقا من الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ففي العام 1880 دعا مدير دار الكتب المصرية المستشرق الألماني ويلهم سبيتا إلى اعتماد العامية المصرية بديلا عن الفصحى واستبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية، وقدّم في كتابه “قواعد العربية العامية في مصر” جدولا مقارنا بين الحروف العربية وما يقترحه مقابلها من حروف لاتينية.

وقد فعل الشيء نفسه بتعاقب، ثلاثة على الأقل من المستشرقين البريطانيين هم: وليام ولكوكس، مهندس الري البريطاني، الذي واصل دعوة سبيتا فنشر سلسلة من المقالات بهذا الخصوص في مجلة “الازدهار” (1893) متسائلا: لِمَ لا يتوافر المصريون على مخترعات الآن؟ ليجيب سريعا: ذلك أنهم يفكرون بلغة ويكتبون بلغة أخرى!

وأعقبه في الدعوة إلى العامية كارل فولرس، الذي خلف سبيتا في إدارة دار الكتب المصرية، فدبَّج كتابا عنوانه “اللهجة المصرية الحديثة”، ثم وضع سيلدون ويلمر، الذي تولى القضاء في المحاكم الأهلية في القاهرة، مؤلفا يعزف فيه على النغمة ذاتها عام 1901 بعنوان “العربية المحلية في مصر” مناديا بجعل العامية المصرية لغة للكتابة الأدبية، وداعيا أيضا إلى استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية.

وقد تسلم زمام هذه الدعوة بعض المثقفين المصريين بتفاوت واختلاف في مواقفهم من العربية وطريقة كتابتها، من أبرزهم: أحمد لطفي السيد وسلامة موسى ولويس عوض وعبد العزيز فهمي، مع التنويه بالدعوة المبكرة للتفكر باللغة العامية والكتابة بها التي صدرت عن رجل النهضة الشيخ رفاعة الطهطاوي.

أما أكثر النبوءات مدعاة إلى الفزع على مصير العربية فتلك التي أطلقها عام 1929 المستشرق الفرنسي الشهير لويس ماسينيون في محاضرة له بجمع من الشباب العربي في “الكوليج دي فرانس”، حيث قال: “إن لا حياة للغة العربية إلا إذا كتبت بالحرف اللاتيني”!

وفي وقت متأخر عن مصر بعض الشيء، يمكن رصد دعوات مماثلة في لبنان أقدمها، حسب علمي، دعوة الأب مارون غصن (1925) إلى تبني العامية لغة واللاتينية حرفا، ثم تلاه نفر من الكتاب والشعراء اللبنانيين أبرزهم أنيس فريحة وسعيد عقل ويوسف الخال.

ليست دعوة المحلل النفسي اللاكاني مصطفى صفوان لإحلال العامية (لغة الشعب) محل الفصحى (لغة السلطة) عرضية في بحثه عن البنى التي تؤبد الاستبداد في العالم العربي وتجعل من العرب غير أحرار، بل جوهرية. فمن بين “أبرز مقومات الاستبداد التي يعالجها صفوان في كتابه “لماذا العرب ليسوا أحرارا؟” (دار الساقي، ترجمة مصطفى حجازي، 2012) العلاقة بين اللغة والكتابة، وسلطات الاستبداد”.

اللغة أساسية في “بنى” الاستبداد و”مقوماته”، ولكنّ ذلك قد يكون بـ”اللغة العامية” نفسها إن أصبحت لغة السلطة، فالعربية الفصحى ليست أداة قمع بحد ذاتها. ليست جدارا (بحسب قولة يوسف الخال) بنفسها. فقد تكون العكس أيضا: أداة تحرر وهدم للجدار، وهذا ما فعلته الثقافة العربية في مواجهة الاستعمار الأجنبي والاستبداد المحلي على امتداد القرن العشرين.


الأمية أمر لا يمكن رده إلى وجود العربية الفصحى، بل إلى فشل “الدولة الوطنية” في التنمية البشرية مثل فشلها في التنمية المادية وفشلها في التحرر من التبعية

معجزة الفصحى
لكنّ ذلك لا يعني أن العربية الفصحى لا تعاني من إشكاليات وتعقيدات في نحوها وصرفها قد تسهم بتهميشها، في التداول العام، مستقبلا. هناك إشكالات تتعلق بنحو العربية وصرفها، وعلاقتها -كلغة عموما- بالعلوم والترجمة انتبه إليها مثقفون عرب عديدون في القرن العشرين ودعوا إلى “تيسيرها” من دون أن يصلوا إلى حد تبني العامية، لكن -للأسف- لم تؤخذ أطروحاتهم على محمل الجد، ويخطر في بالي، هنا، المفكر والمعجمي والمترجم العراقي الراحل هادي العلوي.

مشكلة العربية ليست في كونها “لغة النخبة” (في مواجهة لغة الشعب) بل في كونها منطوقة ومتداولة في مجتمعات متخلفة على معظم الصعد، خصوصا العلمية منها. إنها لمعجزة حقيقية أن تظل “الفصحى” على قيد الحياة كل هذا الوقت في عالم عربي انقطع أكثر من خمسة قرون عن أي إنتاج أدبي أو علمي أو اجتهاد ديني يذكر.

أن يتمكن بضعة مثقفين عرب في مطلع ما نسميه “عصر النهضة” العربية من أن ينفخوا في رماد العربية الفصحى فإذا بها تشبُّ مرة أخرى وتتوهج بعد قرون من الترمّد والموات الحضاريين، فذلك يعني أنها لم تستنفد قدرتها على البقاء وطاقتها، المختزنة، على التجدد.

وبالعودة إلى موضوع اللغة كأداة قمع في يد السلطة -على نحو ما يطرحه مصطفى صفوان- فهو قد يحدث في بلدان لا تعرف “الازدواجية” اللغوية مثلنا، وأكثر ديمقراطية بالتأكيد من بلداننا.

فليس نادرا أن يسمع المرء شكوى أبناء المدن الداخلية والمناطق العمالية في بريطانيا من تهميش “لغتهم” و”ثقافتهم” لحساب لغة البي بي سي وثقافتها الرفيعة (لغة جنوب إنجلترا)، وأظن أن الأمر نفسه ينطبق على “لغة” أبناء الضواحي وأحياء المهاجرين في المدن الفرنسية. ففي هذين البلدين هناك من يتحدث، أيضا، عن “إزدواجية لغوية”، ولكنها، حتما، ليست على النحو المستفحل الذي نعرفه عربيا.

يريد المفكر مصطفى صفوان لـ”الشعب الأمي” أن يطلع على نتاج شكسبير باللهجة العامية المصرية.. ولكنه ينسى أنه أمّي! والأمّي لا يقرأ ولا يكتب حتى بالعامية! إنَّ الأمّية أمر لا يمكن رده إلى وجود العربية الفصحى، بل إلى فشل “الدولة الوطنية” في التنمية البشرية مثل فشلها في التنمية المادية، مثل فشلها في التحرر من التبعية.

أن يكون هناك ما يقرب من 40% من الشعب المصري لا يقرؤون ولا يكتبون في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين، فتلك هي الفضيحة بعينها.


( الجزيرة نت )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *