الرحالة أمجد الناصر في بلاد ماركيز


موسى إبراهيم أبو رياش *

( ثقافات )


 



يعتبر أدب الرحلات من أمتع أشكال السرد وأغناها وأكثرها تنوعاً وتشعباً وإدهاشاً؛ لما يحتويه من معلومات وحقائق ومشاهدات وأخبار وآراء في المجالات السياسية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية والعمرانية والأدبية والفنية والعلمية وغيرها. ولا نبتعد عن الحقيقة إن اعتبرنا أدب الرحلات أدب شامل لجميع الفنون والعلوم وإن ليس بالعمق والتخصص الذي يمتاز به كل علم أو فن على حدة.
ويتسع أدب الرحلات أو يضيق حسب اهتمامات وخبرات الكاتب وغايته مما يكتب، ففي حين يتوسع البعض فيبحر في كل علم وفن ولون، يقتصر البعض الآخر على جوانب محددة لا يتعداها. وفي كلا الحالتين يبقى أدب الرحلات من الآداب الراقية الممتعة الغنية التي تعد مصدراً لا غنى عنه للباحثين والدارسين للتعرف على أحوال وأوضاع المدن والبلدان التي يتناولها هذا الأدب.
“رحلة في بلاد ماركيز” إصدار جديد للشاعر أمجد ناصر ضمن سلسلة كتاب دبي الثقافية رقم (72)، لشهر نوفمبر (تشرين ثاني) 2012، في 135 صفحة من القطع المتوسط، تناول فيه رحلاته الثقافية والمشاركة في إحياء مهرجانات شعرية في كل من منطقة “أمالفي” الايطالية، وكولومبيا بلاد الروائي الكبير ماركيز.
ما يلفت في “رحلة في بلاد ماركيز” قدرة المؤلف المدهشة في نسج نصه السردي بلغة جميلة، وإحاطته الواسعة بالواقع الثقافي وتشابكاته، وميله الرائع والمؤلم في المقارنة بين العوالم التي يزورها والعالم العربي، بحيث يشعرنا أنهم يتقدمون بقوة، فيما نحن نراوح مكاننا، مع أن المؤثرات واحدة، والأوضاع واحدة، والظروف واحدة، والمعيقات واحدة، إن لم تكن أشد وأعقد في كولومبيا. ويدلل على ذلك بمجموعة من الوخزات المؤلمة هنا وهناك يبثها في ثنايا كتابه، يعرض فيها بالعرب ومثقفيهم وأحوالهم البائسة. ومنها:
– “الزمن عند الإيطاليين يشبه الزمن عند العرب، فهو مطاط ومرن أكثر من اللازم.”(13)
– ويعلق على وقوف الإيطاليين على الآثار الرومانية قائلاً: “وهذا يعني أننا لسنا وحدنا من يقف أمام “الأطلال”، لكن مع فارق واحد، ربما، هو أننا الوحيدون الذي نبكي عليها!”(35)
– ويعرض بالشعراء وانتفاخهم: “يظن الشعراء، دائما، أنهم مركز العالم. لكن للعالم، على ما يبدو، مراكز أخرى.”(38)
– كان يطلق قديماً على العرب الغزاة للشواطئ والمدن الإيطالية والأوروبية “الساراسيين”، ويتساءل أمجد ناصر: “ولكن هل لكلمة “عرب” في الغرب، الآن، وقع أفضل من كلمة “ساراسيين”؟
أغلب الظن أنهم لا يستحقون حتى أن يكونوا “ساراسيين”! فـ”الساراسيون” كانوا، على الأقل، يغيرون أما العرب، اليوم، فيغار عليهم.”(46)
– وحول انطباعاته في أمسية شعرية شارك فيها في جامعة بوغوتا الكولومبية يقول : “كانت القاعة التي سنقرأ فيها مكتظة بالكامل. كان هناك من يقف في الخارج أيضاً. كلهم طلاب. شبان وشابات جاؤوا ليسمعوا الشعر. جمهور كبير. صمت مخيم. لم نسمع هاتفاً محمولاً يرن. لم يدخل إلى القاعة أو يخرج منها شخص بعد بدء القراءات.”(79)
ويبدع أمجد ناصر في وصف المكان، ويقدمه كأنه مشهد سينمائي جميل ومؤثر، ونجد في الكتاب أمثلة عديدة، منها:
– يصف الطريق الجبلية الضيقة الموصلة إلى “أمالفي”: “لم أمر من قبل بطريق ضيقة وخطرة إلى هذا الحد، فهي بالكاد تتسع لمرور سيارة واحدة مع أن السيارات تعبرها بالاتجاهين، طريق منتزعة، بالقوة، من الجبل الذي لا سفح له، فهو يشكل، في بعض أجزائه، ما يشبه زاوية قائمة مع البحر.”(26)
– ويقول عن موقع مدينة “أمالفي”: “ليست “أمالفي” مدينة، إنها جبل، ليست جبلاً، بل صدره فقط. من صدر الجبل الضيق اجترحت هذه المدينة، شقت طريفها وأقيمت بيوتها بين السماء والبحر. من نقطة معينة في الأسفل يخيل إليك، وأنت تنظر إلى البيوت التي تتشبث بأي شي في هذا الجبل، أن بإمكان سكان الصف الأخير من البيوت أن يلقوا أنفسهم، مباشرة، من شرفاتهم إلى البحر، فلا توسط بين الجبل والبحر سوى هذه المنعرجات التي تسمى طرقاً وهذه الاتكاءات التي تنهض عليها البيوت وتسمى أرضاً. تبدو “أمالفي” لمن ينظر إليها من بعيد كأنها مجرد ديكور، بيوت مرسومة على جدارية كبيرة وليست بيوتاً مأهولة بأنفاس بشر يغسل المتوسط عيونهم كل صباح بأزرقه الشفاف.”(29)
– أما مدينة بوغوتا الكولومبية فهي: “مدينة مبنية على حافة جبل، أو على منبسط من الجبل، أو في الجبل، لم أعرف بالضبط لأن الجبال كانت تحيط بنا. السماء منخفضة. الغيوم التي تعبرها كثيفة، بين حين وآخر، هي سبب هذا الإحساس على الأغلب. الشوارع التي مررنا بها تشبه شوارع مدن العالم العربي اليوم غير أن سحن الناس مختلفة. ليست مختلفة كثيراً، لأن بين المارين في شوارع بوغوتا من يشبهنا أيضاً. خلاصة القول إن هناك مزيجاً غريباً ومربكاً بين أوروبية كولونيالية وبؤس تمكن ملاحظته من تجوال سريع.”(78)
– وعن موقع مدينة “مديين” الكولومبية يقول: “مطار “مديين” يبعد عن المدينة نحو ساعتين بالسيارة.. لعدم وجود مكان منبسط أكثر قرباً. فمن المطار أخذنا بالصعود الشاق في طريق ضيقة بالكاد تتسع لمرور حافلة إلى قمة الجبل، ومن ثم رحنا نهبط، ملتفين حول الجبال التي تحيط بمديين، حتى وصلنا إلى المدينة التي تقوم على بسطة من الأرض بين جبال ضخمة شديدة الوعورة.”(95-96)
وتلفت الشرفات أو “البرندات” نظر واهتمام أمجد الناصر في مدن الجنوب الإيطالي وبالذات مدن “نابولي” و “أمالفي”، فهي كالشرفات في بلادنا العربية لها نفس الوظيفة والأهمية والطقوس. فضاء مفتوح على المدى، تؤكد توق الإنسان إلى الحرية والانطلاق والانفتاح على الآخر والتواصل الإنساني والكوني. وهي في الوقت نفسه تشير إلى الطمأنينة التي يشعر بها ساكن الشرفات فلا خوف ولا رعب ولا قلق يمنعه من الجلوس فيها، على العكس تماماً من دول أخرى لا وجود للشرفات في معمارها رغبة منهم –ربما- للعزلة والبعد عن الآخر، وربما تعبر عن الخوف من مجهول قد تكون له الشرفة سلماً.
فالشرفات طراز حياة كاملة، ففيها تشرب قهوة الصباح، وينشر الغسيل، ووسيلة تواصل بين الجيران لتناقل أخبار الحي وأسراره، ومنها تفوح روائح الطعام، وتبدأ أولى خفقات القلوب الصغيرة، وفيها توضع أصص أو “تنكات” الزهور والورود ونباتات الزينة.
ولا أدري –شخصياً- إن كان ثمة دراسات عن الشرفات ومكانتها الاجتماعية وأثرها في التواصل، وآثارها النفسية، بالإضافة إلى علم نفس الشرفات. فهو موضوع يستحق الدراسة والبحث.
مما يسجل لأمجد ناصر تعريفنا بثلة من المبدعين في أثناء رحلاته؛ ففي “أمالفي” نتعرف على الشاعر الأميركي لورنس فيرلنغيتي عراب وناشر الجيل الشعري المشاكس المعروف باسم “البيت” حيث تقترب قصيدتهم من نبض الشارع، وكادت أن تتماهى معه واقتربت بفنون شعبية كانت مقصاة من المشهد الرسمي، فصار الشاعر يكتب ويغني ويمثل شعره. وتتميز قصائد فيرلنغيتي بأنها عبارة عن تعليقات على أحداث العالم، واحتجاج على غطرسة القوة واحتقارها حياة البشر، وتتخذ أكثر الصيغ الشعرية بساطة ومباشرة، بالإضافة إلى نزعة نحو استبطان الواقعة أو الحدث اليومي وربطهما بطريقة غير مباشرة بسؤال الوجود.
كما يعرفنا بالفنان فرناندو بوتيرو من مدينة “مديين” الكولومبية المعروف بأعماله الغريبة وأحجام شخوصه الضخمة، وهو الفنان الذي قفز إلى واجهة الأحداث فيما بعد عندما أقام معرضاً لفظاعات سجن “أبو غريب” شعوراً منه بحجم الجرح الإنساني الذي طال بشراً نُكل بأرواحهم وعبث بأجسادهم وراء القضبان. حيث أنتج 60 عملاً منها 20 لوحة تصور رجالاً مربوطين بسلاسل من كعوبهم في زنازين مظلمة تهاجمهم الكلاب، وسجناء مكدسين في أكوام على الأرض.
أما الكاتب ألفارو سيبيدا ساموديو فقد تعلم في أميركا ونقل إلى أقرانه أعلام الأدب الأميركي ومستجدات الأدب العالمي ونادى من خلال كتاباته بتثوير السرد الكولومبي المحافظ في أساليبه وموضوعاته. وهو صاحب رواية “البيت الكبير” المستوحاة من “مذبحة سانتا ماريا” حيث ارتكبت القوات الكولومبية الحكومية مذبحة عمال الموز لصالح “شركة الفواكه المتحدة” والتي راح ضحيتها عشرات العمال المضربين. حيث تميل هذه الرواية إلى البعد النفسي والاستبطان والقتامة والانضباط اللغوي والعاطفي. وهي رواية كثيفة، سوداء حزينة، أنشودة ذاكرة متقطعة عن عزلة البشر ومصائرهم المتحللة تحت ثقل الضجر والهجران، تًقرأ مرة بعد أخرى ولا يُستنفد غموضها السحري.
وأخيراً يعرفنا على ألفارو موتيس وهو شاعر وروائي كولومبي، بدأ شاعراً ثم تحول إلى السرد بعد تركه عمله، حيث نشر ست روايات في سبع سنوات صنعت منه نجماً، ومن أشهر رواياته وهي الوحيدة المترجمة للغة العربية رواية “عبده بشور الحالم بالسفن” وعبده بشور هذا لبناني حالم يطوف العالم بحثاً عن سفينة أحلامه، وكلما اقترب من تحقيق الحلم يقف القدر حائلاً.
تفصح رواية موتيس عن معرفة عميقة بالعالم العربي جغرافيا وثقافة وتدهش القارئ معرفته بالعالم العربي مدناً وتاريخاً وثقافة.
وتتمبز روايات موتيس بأنها لا واقعية سحرية فيها كما هو معروف عن أدباء أميركا اللاتينية، فهو من الأدباء الذين يكتبون حياتهم وخبراتهم عبر سرد مناسب لهذه الحياة وتلك الخبرات اليومية. سرد غير ملحمي، غير غنائي. غير شامل. اليومي والتفصيلي والمتعين في حياة المدينة الراهنة أبرز خصائصه.
بالطبع لا يهمل أمجد ناصر من كتب هذا الكتاب على شرفه وهو الروائي الكبير ماركيز الذي يحظى بتقدير ومحبة واسعة من أدباء كولومبيا، وهو في المقابل لا يتعالى عليهم.
وبعد، فإن “رحلة في بلاد ماركيز” كتاب جميل مشوق ممتع، يوثق بعض زيارات ورحلات الكاتب، وليست كلها بالتأكيد، وهي دعوة للكاتب أولاً، ولكل كاتب حظي بمتعة السفر الثقافي أن لا يبخل على المكتبة العربية بتسجيل لرحلاته؛ إحياء لأدب الرحلات الجميل، الذي يحظى باهتمام بالغ، ومتابعة جيدة، كونه يبتعد عن القوالب الأدبية التي لا يحبها البعض.


* كاتب من الأردن

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *