بيت الديب أو تميمة الحظ …!


عزت القمحاوي *



فاز الكاتب الروائي المصري الزميل عزت القمحاوي بجائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الامريكية في القاهرة على روايته ‘بيت الديب’. في هذه المناسبة ألقى القمحاوي كلمة هنا نصها:

لا يمكن أن يكون المرء سعيداً اليوم، لكنني أشعر بالغبطة لاقتران اسم روايتي باسم نجيب محفوظ في عيد ميلاده.
نشرت ‘بيت الديب’ في ظل ثورة على نظام رعى التطرف بفساده. وهاهي تفوز بالجائزة في ظل ثورة على التطرف الذي تبادل مع نظام مبارك الكرسي والزنزانة. وكما فشل الإرهاب في النيل من روح محفوظ سيفشل في النيل من روح هذه البلاد، مهما كانت قوة الإدارة الأمريكية التي رعت حفل تسليم مصر من العسكر إلى ما يسمى بالإسلام السياسي.

أشكركم جميعاً على الحضور
أشكر لجنة الجائزة التي شملت روايتي بالعطف ترشيحاً ثم اختياراً، ولولا ذلك ما كنت في هذا الموقف اليوم.
أعتقد أن كل لجان التحكيم يجب أن تفعل هذا وألا تقتصر مسؤوليتها على فحص ما يُقدم إليها؛ فهناك العديد من الكتاب لا يتقدمون إلى الجوائز بأنفسهم، ووجود جهات تملك حق الترشيح لا يقدم ضمانة على أن ما يُعرض على اللجنة هو كل ما يستحق النظر خلال عام.
لقد بدأ تقليد الحصول على موافقة الكاتب المسبقة للترشيح من جهات تخشى مواقف الرفض التي قد تواجه الجائزة، وتوسع هذا التقليد ليشمل معظم الجوائز العربية؛ ففقدت بذلك الإجراء الاحتياطي الكثير من بريقها.
الخوف لا يليق بمن يتطلع إلى مهنة قاضي الأدب. ولم تُهدم جائزة لمجرد أن كاتباً رفضها، نوبل نفسها واجهت هذا الموقف، ولم تتأثر، ويواصل حكامها الاجتهاد، يفاجئون الفائز والساحة الأدبية العالمية في كل عام، ولا تحظى اختياراتهم أبداً برضا الجميع.
على أية حال، أنا سعيد بهذا الفوز لروايتي بعد أن احتسبتها بين شهداء ثورة يناير؛ فقبل الثورة بقليل صدرت ‘بيت الديب’ في لبنان، وكان من المفترض أن أراها في يناير، لكنها ضاعت مع كتب دار النشر التي كانت قادمة لمعرض ألغته أحداث الثورة.
وعاشت الرواية مع قرائها مجردة من عطف كاتبها. لم يكن لديّ حتى فضول رؤية الغلاف؛ ولم أشعر بأسف على مصير رواية تهتم بجانب من التاريخ، في وقت أعتقد فيه بأنني أشارك بجسدي في كتابة تاريخ جديد.
لكنني في الحقيقة كنت قد عشت مع ‘بيت الديب’ تاريخاً طويلاً يصلح مدخلاً لتأمل الكتابة ومصائرها.
بدأت كتابة هذه الرواية عام 1999. قطعت شوطاً طويلاً، ثم انسدت السبل في وجهي، وانفتح بدلاً من ذلك ممر لكتاب ‘الأيك’. أخذت أكتب بسرعة كأنه يُملى علي. ومنذ ذلك التاريخ كنت لا أُخرج الرواية الناقصة إلا وينفتح طريق رواية أو كتاب آخر.
تحولت ‘بيت الديب’ إلى تميمة حظ أو ‘راقوبة’ وهذه كلمة من بيئتي الريفية تعني البيضة التي يتركونها للدجاجة لكي تتعرف بها على المكان الذي ينبغي أن تضع فيه بيضتها التالية.
وفي عام 2009 وجدت الدجاجة أن بمقدورها الرقود على راقوبتها. أسلمتني الرواية نفسها بعد أن أجبرتني على إلغاء ما كتبته من قبل. أخذت ألعب بمتعة وأسف؛ لأنني كنت أكتب في نهايات الأسبوع ثم أترك الكتابة مضطراً بسبب مشاغل العمل، بينما تحتاج رواية تضم عدداً كبيراً من المصائر المتشابكة إلى معايشة مستمرة.
وجاء التفرغ في حادث عابر سعيد، إذ أقصيت عن إدارة تحرير جريدة ‘أخبار الأدب’ منتصف العام 2010 فتمكنت من الاعتزال في بيتنا الريفي، مع أبي وأمي وشخصيات ‘بيت الديب’ وبغير ذلك ما كان لهذه الرواية أن تنتهي.
تنتمي ‘بيت الديب’ إلى رواية الأجيال؛ النوع الذي اعتقدنا أحياناً أنه انتهى في الحقب الكلاسيكية، ولكنه ـ فيما يبدو يبدو ـ احتياج إنساني. وإذا كان الروائي يكتب لمحاولة فهم فوضى الوجود وهشاشته؛ فإنه يلجأ إلى رواية الأجيال بالتحديد عندما يرى أن الوجود مهدد من أساسه.
وقد كان هذا التهديد لوجود مصر واضحاً خلال السنوات الأخيرة من حكم مبارك. ولذلك فإن ‘بيت الديب’ ليست رواية الأجيال الوحيدة في تلك الحقبة، وأشير هنا فقط إلى سبق ‘أوراق العائلة’ للراحل محمد البساطي، ‘ملحمة السراسوة’ لأحمد صبري أبو الفتوح و’الطنطورية’ لرضوى عاشور و’ألم خفيف’ لعلاء خالد.
اشتركت هذه الروايات في هاجس تثبيت التاريخ، وافترقت في قربها وبعدها من تقنيات كتابة رواية الأجيال الكلاسيكية.
في ‘بيت الديب’ كان الاختصار هاجسي الأساسي كي أقدم أربعة أجيال في حجم يطيقه قارئ اليوم، وهو ما جعلني أحتال على الزمن الروائي. تحاشيت خطية التاريخ المتصاعد، واستخدمت الأقواس التي تتيح اختصار الطريق.
هاجسي الثاني كان طبيعة المكان الريفي وشخصياته، وأشدُ ما يؤذيني كقارئ تربى في قرية، أن تبدو حكايات الريف مجرد حواديت بسيطة منعزلة عن العالم، بلا هم وجودي كذاك الذي يمكن أن تحمله رواية المدينة.
الهاجس الثالث كان الفصل الواضح بين الخير والشر في عديد من الكتابات التي تتعلق ببشر الريف.
هل استطعت تقديم هموم وجودية واهتمامات تتخطى حدود المكان الريفي؟ وهل تمكنت من تقديم شخصيات يتمازج فيها الخير والشر، تشبه الإنسان؟
من حسن حظي، أن الإجابة على هذه الأسئلة ليست مسؤوليتي، بل مسئولية النقاد، وبينهم أعضاء هذه اللجنة الذين أعتز بثقتهم. وأثق في الوقت ذاته بأن لجنة أخرى كانت ستختار عملاً آخر. هذه هي طبيعة الأدب، وهذه هي عظمته: التعدد والتجاور. وعلى الكاتب الحق أن يعرف أن للإبداع خطاً وللجوائز خطاً، وأنهما قد لا يلتقيان أبداً.
من يدرك هذه الحقيقة لا يعبر الدنيا من دون أثر. وقد عرف تاريخ الأدب كثيراً من الكتاب لم يزعزعهم الإهمال، وعرف كثيراً ممن لم يربكهم الضوء. قلة نادرة جربت الكتابة تحت الظرفين، ومن هذه القلة نجيب محفوظ، صاحبُ المقام، صاحب الجائزة، الذي دخل التجربتين وخرج منهما منتصراً.
هو أحد معلميّ في الكتابة بلا شك. ودروس الكتابة يمكن تحصيلها من كل الكبار على امتداد تاريخ واتساع جغرافيا الإبداع، لكن درس محفوظ الذي يجب ألا يُضيّع هو الإخلاص للكتابة بوصفها وظيفة عضوية لا يستطيع الكاتب العيش بدونها.


وأشكركم جزيلاً

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *