أماكن من فوق


جمال الغيطاني *

… ها هو خليج العقبة، شق أزرق عميق، تدخل الطائرة إلى مصر من الشرق إما فوق شرم الشيخ أو دهب هذه المرة يمكنني تحديد دهب، صخور سيناء أكثر كثافة لكنني أجد ألوانها أقرب إلى مرتفعات شبه الجزيرة، ما يدل على الأصل الجيولوجي المتقارب، أطيل التحديق إلى خليج العقبة، من هذه النقطة في الفراغ يمكنني رؤية آخره حيث تلتقي حدود ثلاث دول، مصر وإسرائيل والأردن، هناك طابا التي دار حولها النزاع القانوني الذي كسبته مصر، إلى جوارها أم الرشراش التي كانت تتبع مصر وضمتها إسرائيل في زحفها العتيد وأصبحت تعرف بإيلات، أفكر في رجال الصاعقة المصريين، في إبراهيم الرفاعي الذي خطط وهاجم هذا الميناء العسكري مرتين، في هناك ضفدع مصري اسمه عندي مجهول الآن. قرأت اسمه شهيدا في مدرسة الضفادع البشرية زمن حرب الاستنزاف، اسم معلق في لائحة شرف كانت بمدخل المدرسة، هذا الشاطئ المحاذي للبحر قطعته بسيارة نصر صغيرة في أغسطس، في قيظ لاهب بصحبة ابني محمد الذي كان عمره سبع سنوات وقتئذ، عقب انسحاب إسرائيل مباشرة، كنا برفقة الفنان المصور محمد عبدالرحمن رحمه الله رجل عقب أزمة قلبية عام تسعة وثمانين، أذكره كثيرا واستعيده دائما، في هذه الرحلة اكتشفنا كارثة ما عرف بسلك العقيد زيدان نشرنا تفاصيلها في جريدة الوفد وقت رئاسة تحرير المرحوم مصطفى شردي لها، وكان عقيد من الأمن المركزي قد قام بتحريك السلك الشائك الذي يفصل الحدود حتى لا يرى جنوده النساء العرايا في الفندق الإسرائيلي، وعندما انتبهت جهات سيادية إلى ما جرى وأعادت الأمر إلى ما كان عليه نشبت أزمة بين مصر وإسرائيل، ولولا حنكة الديبلوماسية المصرية لفقدنا طابا مرة أخرى، قصة غريبة نشرنا تفاصيلها وقتئذ، وأسهم بالنشر في حلها كان مصطفى شردي صحافيا عظيما، جريئا رحمه الله.
سرعان ما يولي خليج العقبة، أمواج من المرتفعات الصخرية تتخللها مخرّات السيول والوديان تحت القوى الكونية التي دامت ملايين السنين، تجاعيد الكوكب، تستمر الطائرة في الهبوط، ألمح خليج السويس، يتمثل أمامي إبراهيم الرفاعي شغلني هذا المقاتل العظيم، كتبت عنه عشرات التحقيقات الصحافية في قصة قصيرة ثم رواية، ظهرت طبعتها الجديدة الأسبوع الماضي عن دار الشروق، حصلت الرواية على جائزة الدولة التشجيعية عام تسعة وسبعين، أي منذ واحد وثلاثين عاما، دفع لي ممدوح الليثي خمسمئة جنيه، خصم أكثر من ربعها ضرائب، ولم تعد الرواية ولم تخرج إلى الناس كتمثيلية سهرة ولا مسلسل، ثلث قرن، الرفاعي غير مرغوب فيه، سيرته لا تعني أحدا، لكن جلبت لي هذه الخواطر المرارة، لكن ما فرّج عني ما أخبرني به ابني وقد رويت له عن الرفاعي كثيرا، قال لي إن مجموعة من الشباب أسسوا موقعا لإبراهيم الرفاعي على الإنترنت، جمعوا فيه كل ما كتب عنه، وما يتعلق بالمجموعة 39 قتال التي لو وُجد مثلها في إحدى الدول التي تدرك قيمة الذاكرة لخرجت الأقلام والكتب والسير.
الشاطئ الغربي من سيناء، الطور، رأس سدر، أنظر يمينا، ألمح أجساما صغيرة طافية، إنها السفن الخارجة أو الداخلة إلى قناة السويس، أما القناة نفسها فتبدو كأنني أراها في خريطة مجسمة، انحناءة بور توفيق، السويس، ثم تمتد إلى الشمال، يمكن من الطائرة الرؤية حتى البحيرات المرة، والسويس ما أغزر الذكريات، كانت الطائرات المعادية تجيء من الشرق زمن حربي الاستنزاف وأكتوبر، إنه المشهد الذي كان يراه طيارو الأعداء، فلأرجيء ذلك إلى حديث آخر.
أصفر وأزرق وأخضر، ألوان ثلاثة اساسية نتصارع في مصر ورؤيتها من أعلى تفسر أمورا، ونشير إلى دلالات شتى، خاصة الصراع بين الأخضر والأصفر، تتجه الطائرة بسرعة إلى الأرض، أحيانا تهبط مباشرة عند القدوم من الشروق، وأحيانا تتجه إلى منطقة سقارة، تستدير هناك لنمر فوق النهر، منطقة المعادي، القلعة، مدينة نصر، ثم يكون هبوطا، نرى ألوانا أخرى، تصبح جزءا من الأطياف التي كنت أراها من فوق، الألوان تحت غير ما تبدو عليه من أعلى، مع أنها نفس الألوان، فما أغرب ذلك.
من ديوان الشعر العربي:
وما ازدهيت وأثوابُ الصِّبا جدد
فكيف أزدهي بثوب من ضنى خْلقٍ
«المعري»

 

( الرأي الكويتية )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *