مهرجان دبي السينمائي.. تأكيد الحضور الدولي


نديم جرجورة *

سواء أكانت دورة ناجحة أم عادية، فإنها أكّدت قدرة المهرجان على الثبات في موقعه ومكانته. ليس سهلاً على مهرجان سينمائي يُقام في دولة خليجية، ويسعى إلى أقصى انفتاح دولي ممكن، أن ينجح في مهمّته. أي أن يُحقّق طموحاته، أو بعضها على الأقلّ. التداخل كبير بين السينما والسياسة والاقتصاد والإعلام. التداخل هذا أساسيّ في مهرجانات دولية متفرّقة. لكنه يتّخذ طابعاً أَحَدّ في دول عربية، وتحديداً في منطقة الخليج. «مهرجان دبي السينمائي الدولي» يُقيم دورته التاسعة بين التاسع والسادس عشر من كانون الأول الجاري. لا جديد فيها يُثير اهتماماً إضافياً، بقدر ما فيها من ثبات أركان أساسية، أثارت ولا تزال تثير الاهتمام نفسه. دورة أفضت إلى تأكيد حضور المهرجان في المشهد الدولي.

سياسة وسينما

 
لم يؤثّر قرار إدارة المهرجان سحب الدعوات من ثلاثة مخرجين سوريين، لـ«مُناصرتهم» النظام السياسي السوريّ الحاكم، على مسار يوميات الدورة الجديدة هذه. كثرة البرامج والعناوين واللقاءات قادرة على تمرير الأشياء بسهولة. سُحبت الدعوات من عبد اللطيف عبد الحميد (العاشق) وباسل الخطيب (مريم) وجود سعيد (صديقي الأخير) قبل أيام قليلة على بدء الدورة التاسعة («السفير»، 1 كانون الأول 2012). قيل إن هذا نتج من اعتراف دولة الإمارات العربية المتحدة بـ«الائتلاف السوري» الجديد. لن أُثير الموضوع مجدّداً. هناك من ناقش المسألة وفقاً لقناعاته السياسية. لكن، هناك قلّة قليلة جداً ناقشت المسألة بهدوء ووعي. السياسة طاغية أكثر من أي وقت مضى. الانشقاقات الثقافية والسياسية الناتجة من الصراع الدموي في سوريا تمنع نقاشاً هادئاً. موقفي واضحٌ: رفضتُ سلوك إدارة المهرجان الإماراتي، تماماً كما رفضتُ ولا أزال أرفض الموقف السياسي المباشر للمخرجين الثلاثة، والبيان السينمائي المعروف بـ«بيان سينمائيي الداخل السوري». أما السينما، فضاعت بين ممانعين جاهروا بعداء غير مفهوم للمهرجان، وبين مناصرين لغلبة السياسة على ما عداها.

مع هذا، باتت الدورة الجديدة في يومها الخامس. أضواء واستعراضات وضيوف عرب وأجانب. حفلات واحتفالات. برامج حملت العناوين نفسها، بدءاً من المسابقات الرسمية الخاصّة بالأفلام العربية والآسيوية والأفريقية، الروائية والوثائقية الطويلة والقصيرة، وصولاً إلى الاحتفاء بالسينما الهندية، مروراً بـ«ليال عربية» و«سينما من العالم» و«سينما الأطفال» وغيرها. هناك السوق السينمائية، و«إنجاز» لدعم مشاريع متفرّقة. للسينما الإماراتية حضورها أيضاً. هذا جزء من خطّة عمل متكاملة. الإماراتي أولاً والخليجي ثانياً. لهما حيّزهما داخل البرامج المعنية بالسينما العربية، أو في برامج مستقلّة.
القراءة النقدية للاختيارات لا تتبدّل هي أيضاً. كل مهرجان سينمائي يختار أفلاماً متناقضة الأشكال والمضامين. متناقضة الجودة. متناقضة السمات الجمالية. هذا عاديّ جداً. لكن عناوين عدّة في الدورة التاسعة أثارت نقاشات نقدية سليمة، جاذبة آراء إيجابية. فيلم الافتتاح، «حياة باي» للمخرج التايواني الأميركي آنغ لي، أعاد طرح سؤال العلاقة الجمالية بين النصّ الأدبي والاقتباس السينمائي. النصّ الأدبي رواية للكندي يان مارتل صدرت في العام 2001 (صدرت ترجمتها إلى اللغة العربية، بتوقيع سامر أبو هواش، عن «منشورات الجمل» في العام 2006). الاقتباس السينمائي سيناريو وضعه الأميركي ديفيد ماغي. لكن الانتقال من المكتوب إلى السينمائي أعاد طرح السؤال التقليدي: أيهما أجمل، الأدب أم السينما المقتبسة منه؟ أعاد طرح العلاقة الغامضة والمعقّدة بين المكتوب والمُصوَّر سينمائياً. الجواب، بدوره، تقليديّ وقديم قِدَم السؤال نفسه: هناك روايات حافظت على تفوّقها الجماليّ على الاقتباسات السينمائية. هناك أفلام بزّت النصوص الروائية جمالاً وإبداعاً، وأحياناً «جَمّلتها». هذا موجود منذ بداية العلاقة الثنائية بين المكتوب والمُصوَّر. «حياة باي»، الذي يبدأ عرضه التجاري في صالات المجمّع السينمائي اللبناني «أمبير» في 20 كانون الأول 2012، بدا واقفاً عند الحدّ الفاصل بين الطرفين: جزءٌ منه تألّق في اشتغالاته الدرامية والفنية والتقنية (مُصَوَّر بتقنية الأبعاد الثلاثة)، وجزء آخر بدا رتيباً وبطيئاً وعادياً في مقاربته حكايته الأصلية: قصّة بيسين موليتور باتل، التي رواها بلسانه لصديق يسعى إلى كتابة رواية مثيرة للقراءة.

ثنائيات مهزومة

برناردو برتولوتشي حاضرٌ بفيلمه الأخير «أنا وأنت» (سينما العالم). حكاية الهروب من سلطة الأهل، بحثاً عن حرية مجتزأة في قبو المنزل. السمات الجمالية مشغولة ببساطة تقنية. اخترقت الذات الفردية البالغة سنّ المراهقة، وصنعت من لحظة التمرّد الهادئ والمُخادع صورة عن معنى الخيبة والانكسار. أو عن رغبة شفّافة في التصالح مع الذات. لورنزو (ياكوبو أولمو أنتينوري)، ابن الاعوام الأربعة عشر، يجد في القبو المنزلي ملجأ لأيام عديدة، يقيه سطوة أمّه المطلّقة. الصدفة وحدها تجمعه بأوليفيا (تيا فالكو)، أخته من أم ثانية. تحوّل القبو إلى فضاء حرية وصدام وكشف لمستور عالق بينهما. المخدّرات جزء من اللعبة. التطهّر من أردان الحياة. المصالحة. رؤية سينمائية لمعنى المواجهة، مبنية على سرد سلس لتلك الأبعاد المخفية في العلاقات الملتبسة، أو في الذكريات المخبّأة. هذه ثنائية طغت على النواة الدرامية الأصلية للفيلم الإيطالي. لكنها ثنائية مفتوحة على شخصيات أخرى، ظهرت واختفت بطريقة أو بأخرى. هناك ثنائية ثانية شكّلت البناء البصريّ كلّه لصنيع سينمائي ساهمت أربع دول في إنتاجه: «تقاسيم الحب» (إنتاج كندي مصري لبناني إماراتي، 2012) ليوسف الديب (ليال عربية). لا معلومات كثيرة عن المخرج في شبكة «إنترنت». ما قيل في التعريف به في «كاتالوغ» مهرجان دبي قليلٌ هو أيضاً. جاء في «إنترنت» أنه مؤسّس المحطة التلفزيونية «فتافيت» ورئيسها. محطة تلفزيونية مختصّة بفن الطبخ. في الـ«كاتالوغ» جاء أنه أنتج برنامج «قصّ ولصق»، الحائز على «جوائز» (لم تُذكر)، كما أنتج «الآباء الصغار» (2006) لدريد لحام. أياً يكن، فإن «تقاسيم الحب» فيلمه الروائي الطويل. مبنيّ هو على ثنائي واحد داخل منزل. اللقطات كلّها مأخوذة في الداخل. ميرا (دارين الخطيب) عاشقة الفن وليوناردو دافنشي. عمر (نيكولا معوّض) طبيب. البداية في منزلها. التقيا في حفلة ساهرة. كل شيء حصل هناك. حب وتناقض خفي بين الاهتمامات وعلاقة وطيدة. إيقاع هادئ. كشفٌ لغليان انفجر ذات لحظة فاضحاً حقائق. السيناريو عادي. التمثيل أيضاً. هناك صدام بين رؤيتين مختلفتين. الفن التشكيلي حاضرٌ في السياق الدرامي. الموسيقى طاغية في مرافقة الحدث، كما في تقسيم المشاهد إلى سُلَّم موسيقي متعلّق بالمقامات. لم يكن التداخل مقنعاً درامياً. «تقاسيم الحبّ» قصّة حبّ تصلح في الأوقات كلّها. في الأزمنة كلّها. الفيلم بسيط. لكنه مليء بالأفكار والمشاعر.

( السفير )

 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *