رشاد أبو شاور *
حين ظهر الشيخ راشد الغنوشي في مطار قرطاج، تونس الدولي، بين مستقبليه، بعد سنوات النفي التي قضاها في لندن، طمأن أهل تونس بأن حزب النهضة لن يستأثر بالسلطة، وأنه شخصيا لن يرشح نفسه لرئاسة الحزب، لأن الطريق يجب أن يفتح للشباب، وطمأن النساء التونسيات أن حقوقهن لن تمس.
كلام جميل لاقى ثناء وترحيبا في تونس وخارجها، بل إن كثيرين تمنّوا على إخوان مصر أن يسيروا على خطى إخوانهم في تونس.
هرب بن علي، وخلع مبارك، ولكن مؤسسات الفساد لم تسقط، ولذا كان لا بدّ من مواصـــــلة الثورة حتى تحقيــــق الأهداف، ولكن ما جرى كان مخالفا، بل ومأساويا، والمشهد السياسي في تونس، ومصر، لا يستدعي الشرح، فالصراع على أشده، والحاضر والمستقبل محفوفان بالمخاطر.
في ذروة نشوتهم بالإمساك بكل السلطات، بدأوا في تونس يتحدثون بالصوت العالي عن (الدولة الإسلامية)، وفي مصر انتقلوا إلى صياغة الدستور على وفق رؤيتهم، وبدون الأخذ بعين الاعتبار أن الدستور في كل بلدان العالم لا يصاغ انطلاقا من هيمنة حزب واحد، وإنما بمشاركة كل قوى المجتمع، أحزابا، وقوى مجتمع مدني، وكافة المكونات الوطنية، حيث لا يعامل أي مكون على اعتبار أنه (أقلية) دينية، أو عرقية، وإنما انطلاقا من المواطنة التي يتساوى بالتمتع بها كل أبناء الوطن الواحد نساء ورجالاً.
في دورة الانتخابات الرئاسية الأولى لم يفز مرشح الأخوان المدعوم من السلفيين، وبرز في مقدمة المتنافسين المناضل حامدين صباحي، رغم أنه لم يوزع على الفقراء والمحتاجين زيتا وسكرا، ووعودا بالجنة لمن يمنحه صوته، والوعيد بالنار لمن يحجب صوته عنه.
أكثر من مرشح حصل على ملايين الأصوات، وكان هذا برهانا على أن الأخوان ليسوا وحدهم في الميدان، فهم رغم قدم (حزبهم)، واستثمارهم للمساجد، ودعم لا يخفى من دول رجعية عربية، وما بين أيديهم من ثروات، لم يتمكنوا من تفويز مرشحهم في الجولة الأولى، وفي انتخابات الإعادة فاز الدكتور مرسي، مرشحهم، في مواجهة الجنرال شفيق (الفلولي)، ولكن ليس بأصواتهم، بل بالأصوات التي منحتها له قوى تتناقض فكريا وسياسيا مع الأخوان وحلفائهم السلفيين.
لكن نشوة الفوز ضاعفت من غرورهم، وضخمت من تقديرهم لقوتهم، وها هي تدفعهم لفرض رؤيتهم على الشعب المصري كله، دون أن يأخذوا بعين الاعتبار أن مصر لا يمكن أن تحكم بحزب واحد، مهما كانت قوة هذا الحزب.
في تونس التي ظن حزب النهضة أنها أسلست له القياد، عادت (الثورة) لتفجر من جديد..وأين؟ في المدينة التي اندلعت شرارة الثورة من جسد ابنها (البوعزيزي): سيدي بوزيد، المظلومة أيام بن على، والمهمشة في أيام (النهضة)!
لم تملأ أزهار الربيع العربي بلاد العرب، ولا البلاد التي تمكنت ثوراتها من طرد، وخلع، رئيسيها الفاسدين، لأن الثورات لا تنتصر لمجرد سقوط رأس النظام، فالثورات تغيير جذري، وتحوّل تاريخي، وإعادة بناء، وتأسيس لمستقبل مغاير، يبني فيه المواطنون وطنهم العادل، الحر، بمشاركة الجميع، وليس باستئثار شريحة حزبية تفرض رؤيتها على المجتمع انطلاقا من (وصايتها) الدينية التي تدعي أنها مفوضة إلهيا، وأنها الوصية الوحيدة على جوهر الدين، رغم أن جهات (دينية) أُخرى لا توافقها على ادعائها، وتقدم نفسها منافسة، ومخالفة، وهذا ما يدلل على أن كل المكونات الدينية تتصارع خارج (الدين)، وهاجسها توظيف الدين سياسيا لمصلحتها.
بعد تونس، ومصر، رأت جماعة الأخوان المسلمين أن الرياح مؤاتية للهيمنة على السلطة، ورأت في (ثورات) اليمن، وليبيا، ما يبشر بزمن الأخوان، ولعل هذا الشره في شهية الأخوان قد تأجج مع اندلاع الحراك الثوري للشعب السوري المطالب بالتغيير، وإنهاء الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية.
القفز على الثورات، هذا ما يمكن أن يوصف به (الربيع) العربي، الذي يشبه ما يسمى ب(الفجر الكاذب)، وهو فجر مخادع يورط السارين الذين يظنونه الفجر الحقيقي، فقط لمجرد بعض الشحوب في الليل، وهو غير الفجر الحقيقي الذي تبدأ فيه خيوط الضوء البيضاء في الحلول مكان الخيوط السوداء، مبشرة بقرب دنو نهار جديد، وشروق الشمس التي تبدد الظلام تماما.
لم تكتمل الثورات، وبسرعة تمّ الانتقال إلى مرحلة الانتخابات، في تونس، ومصر، وما أن (لقف) الأخوان السلطات حتى بدأت خسائرهم، بعد أن أسفروا عن نواياهم في الهيمنة على كل السلطات، وإدارة الظهر للقوى التي كانت السبّاقة في النزول للميادين.
الشيخ راشد الغنوشي نفسه، في لندن التي زارهــــا مؤخرا للمحاضرة فيها، أعلن باعتداد، وبكلام غير الذي سمع منه في مطار قرطاج: الإسلاميون سينتصرون في الوطن العربي، وستكون لهم اليد العليا!
ترى على من سينتصر الإسلاميون، أي الأخوان؟ على أنظمة حكم مزمنة، خرّبت البلاد، ودمرت كل مناحي الحياة فيها، أم على الشعوب العربية التي ثارت، وضحت، و..بالاستئثار بالسلطة، وإدارة الظهر لمن نزلوا إلى الميادين، وقدموا الشهداء، ليلتحق بهم الأخوان، ثمّ ليقفزوا على السلطة، ويبدأوا في وضع الدساتير التي تضمن لهم البقاء طويلاً في الحكم، بحيث تكون صناديق الاقتراع للمرة الأولى هي الأخيرة!
الدستور حين يوضع بالتوافق يكون ضمانة لوحدة المجتمع، وللسلم الاجتماعي، ولوضع علامات على الطريق للمستقبل، لمجتمع يتساوى أفراده جميعا بالمواطنة، فلا رعايا، وإنما مواطنون سادة، رجالاً ونساءً.
لسنا نريد لمصر وتونس الذهاب إلى المتاهة، فإدارة الظهر، والاستعلاء، والتنكر للقوى المجتمعية، ورفض الحوار الجدي مع أبناء الوطن، سيؤدي إلى صراع حاد تناحري يمزق نسيج الشعب، ووحدته، وهو ما سيؤدي إلى سوء المآل.
عندما يتم التشبث بالسلطة، وتحويلها إلى ممتلكات خاصة للإخوان، ويكرس الرئيس نفسه مطلق الصلاحية، لا يسأل، ولا يحاسب، وحتى لو لوقت محدود، فإن هذا يعني: الدكتاتورية التي ستتكرس بخطاب ديني يقوم على التكفير، والنبذ، والقهر، والاستبداد!
الأخوان يبررون (حقهم) باحتكار السلطة، بما لاقوه من عسف، واضطهاد، وكأنهم وحدهم من اضهد، وتعذب، وسجن، وعانى من أنظمة الاستبداد!
ليس أمام الأخوان من سبيل سوى الاستجابة للأصوات المحذرة، المنذرة، الداعية للحوار، التي ترتفع من جديد في الميادين..في تونس، وفي مصر.
الانسياق وراء وهم بناء دولة الخلافة الممتدة من تونس إلى مصر، وليبيا، واليمن، وسورية، ومن بعد الهيمنة على الأردن، بحيث تمتد دولة الخلافة السنيّة من تونس إلى تركيا..ركض وراء سراب، وأحسب أن حراك الشعبين التونسي العريق بمؤسساته المدنية، بأحزابه، وبالاتحاد التونسي للشغل، وما تتمتع به المرأة التونسية من حقوق، وما بلغه الشعب التونسي من وعي، ومن عشق للحرية، سيحول دون هيمنة النهضة، وهو أيضا ما سيحصل في مصر.
توجهات الأخوان انكشفت، وهم بدأوا مسيرة الخسارة، وكم أود لو أنهم يعودون عن غيهم، ويمدوا أيديهم للأيدي الممدودة لهم، والتي تطالبهم بالحوار، وكتابة دستور يليق بمصر، وبناء مؤسسات لمصر الشعب العريق، والبلد العريق، المنتظر منه الكثير، وليس دستورا للإخوان والسلفيين الذين عاشوا دائما في كنف نظام مبارك بشعار: عدم الخروج على الحاكم، وإطاعة أولي الأمر!
لا يمكن لمصر أن تخرج من المأزق الراهن المتفجّر إلاّ بالوحدة الوطنية، فاقتصادها يمر في ظروف صعبة، والأمن مفقود، والخراب الذي تركه نظام مبارك مستفحل، وسيناء تحتاج لوحدة شعب مصر..فهل الأخوان وحدهم قادرون على مجابهة كل هذه التحديات؟!
* روائي فلسطيني يعيش في الأردن
( القدس العربي )