حاوره : شاكر نوري
يجمع الأديب صلاح نيازي، في كتاباته، بين الشعر والسيرة الذاتية والنقد الأدبي والفني والترجمة. وهو أحد أبرز الرموز الثقافية العراقية المهمة، التي تركت بصمتها المؤثرة، في المشهد الثقافي في البلاد. وفي كل منها، ملامح غنى فريدة..
«مسارات»، يبحث في حواره مع نيازي، في عمق صفحات كتاب حياته الإبداعية ومضمونها، والتي أفرزت أعمالاً عديدة، منها: في الشعر: «ابن زريق وما شابه»، في السيرة الذاتية: «غصن مطعّم بشجرة غريبة». في النقد: «الاغتراب والبطل القومي». إضافة إلى الكثير من الترجمات المهمة.
أغنت ترجمات الأديب صلاح نيازي، المكتبة العربية، بباقة مهمة من الأعمال، إذ قدم حتى الآن، ثلاث مسرحيات لشكسبير، ومسرحية «ابن المستر ونزلو» لترنس راتيكان. وأيضاً: «العاصمة القديمة» لكواباتا، رواية» يوليسيس» لجيمس جويس. والأخيرة أعقد عمل في اللغة الإنجليزية على الإطلاق، تقع في ثلاثة مجلدات. لكن نيازي نجح في تقديم ترجمة جاذبة وسلسة لها.
لدى مروره في دبي، بينما هو ذاهب في زيارة إلى بلده: العراق، حاور «مسارات»، نيازي، حول جملة موضوعات وقضايا فكرية، مسلطاً الضوء على مضمون تجربته الإبداعية.
أنت تكتب الشعر منذ سنوات.. لكن نشاطك لا يقتصر عليه، هل ترى نفسك في موضع المثقف الشامل؟
لا أدري كيف يمكن تصنيف المثقف، ولكن هذه الأشياء لا يمكن أن نفهم كيف تبدأ أو تنتهي.. فلا ندري كيف تنطلق أنهار الشعر ثم تنتهي. وكذا كيف يبدأ النقد وينتهي. وهناك نماذج عالمية في هذا الصدد، منها على سبيل المثال: ت. س. اليوت، فهو ناقد كبير، وأيضاً شاعر ومسرحي من الطراز الأول. كما انه كتب أطروحة في الفلسفة لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة. وهو مترجم من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية.
لا شك في أن الاهتمام بجميع هذه الميادين المعرفية، أمر طبيعي لمن يعيش في الغرب. فبودلير، الشاعر، ناقد كبير في الرسم، وعمل بالطاقة الشعرية نفسها في المجال الفني.
هل تجد أنك مُترجِم؟
أقول، وبكل تواضع، إنني لا أعد نفسي مترجماً. لكن ما حدث هو أنني درّست الترجمة في جامعة أدنبرة في بريطانيا، لمدة قصيرة. وأخذت معي بعض الترجمات العربية لشكسبير، وكذلك كتباً أخرى. وأثناء التدريس عثرت على أخطاء في الترجمات التي كانت بين يداي. وهي أخطاء لا يمكن السكوت عنها.
وبذا بدأت ترجمة مقاطع من شكسبير، لتكون كنماذج وليس في قالب أو إطار مشروع كتاب خاص. ومن ثم ترجمت أجزاء من «يوليسيس» لجيمس جويس. وكان يعتمل في بالي أن أترجم مائة صفحة فقط.. ونشرتها، حينها، في مجلة الاغتراب الأدبي. وفوجئت بأن انهمرت عليّ رسائل إشادة وإعجاب، وهذا ما جعلني أستمر في الترجمة.
لماذا يوجد في عالم النشر لدينا في العالم العربي، ترجمات خاطئة؟
ألقيت مرة، محاضرة في المغرب، بعنوان: «أهمية الترجمة الرديئة».. وهي تحكي عن الموضوع نفسه. ولو أخذنا مثالاً، كتاب «ألف ليلة وليلة» باللغة الإنجليزية، في النسخة التي ترجمها ريتشارد بيرتن، سنجد في بحثنا حول أسباب ضعف الترجمة، أن بيرتن نفسه، لم يكن يتقن اللغة العربية، بل كان يستمع إلى قصص «ألف ليلة وليلة»، من خلال حكايات وأحاديث المصريين، أي باللهجة المصرية المحكية.
وهكذا نقل القصص إلى الإنجليزية، مترجمة من اللهجة المصرية.. وبناءً عليه، انتشرت حكايات الليالي العربية تلك، عالمياً. وكانت فعلياً، سبباً في تطور الرواية الغربية والتي أثرت على «البيكارست»: النموذج الإسباني للرواية، وهو أساس الرواية الغربية قاطبة، كما هو معروف.
ونجد أيضاً، أن الأديب المصري لطفي المنفلوطي، لم يك يعرف اللغة الفرنسية، ولكنه ترجم بعض النصوص الفرنسية. وكذلك فعل فيتجرالد، والذي ترجم «رباعيات الخيام» بينما هو لا يجيد الفارسية. تمثل تلك النماذج، حقيقة، أحد أشكال الترجمات الرديئة الشائعة، في الوقت الحاضر.. وعلينا الان أن نتساءل: ما هو الفرق بين المترجم القديم والحديث؟.. ماذا قال المؤلف وكيف نقل المترجم ذاك المعنى؟
إننا معنيون في بحثنا ونقاشنا في ضوء التساؤلات تلك، أن نؤكد بداية، أن المترجم الحديث يترجم التقنية وليس فقط المعنى، وذلك بينما كان المعنى هو المهم سابقاً. ولذلك نرى ترجمات رديئة وبعيدة عن الأصل. وأظن أن كل مترجم لا يعرف تقنيات الكاتب، تقصر ترجمته أو تضعف أو تهزل أو تبتعد عن الأصل.
ماذا عن المشكلات الأساسية التي واجهتك في ترجمتك رواية جيمس جويس: «يوليسيس»؟
شرعت العقبات تواجهني في نقل هذا العمل إلى العربية، منذ الكلمة الأولى، ففي حقبة وزمان جيمس جويس، انتشر ما يطلق عليه تيار الوعي أو تيار اللاوعي. وهو ما خلق أمامي تعقيدات جمة، جراء تمسكي بتقصي أمانة النقل ودقته التعبيرية.
ولذا حرصت على تجسيد جميع مفردات الإحالات والتخييلات والتصويرات في العمل، وحاولت أن أترجم الأسلوب أيضاً. وهي مهمة كانت صعبة جداً، لأن لغة جيمس جويس ليست إنجليزية خالصة، لأنها جديدة.. وكان التحدي الأكبر إذاً: كيف نترجم لغة إنجليزية جديدة إلى العربية؟
أعتقد اني استندت في ترجماتي، إلى ميزات مهمة في اللغة العربية، إذ تشتمل على تعابير ومصطلحات ومفردات، دالة وفريدة في تنوعها ومباشرتها في عكس أدق المشاعر.. لكن، هل نجحت.. أو فشلت؟.. لا أدري أتمنى أن أكون أفلحت فيما أنجزته.
ماذا عن مآخذك على ترجمة طه محمود طه لرواية «يوليسيس»؟
هناك جانب مهم هنا، علينا التنبه إليه. فطه محمود طه، ربما تكون لغته الإنجليزية جيدة، ولكن الأيرلندية لديه، قاصرة، والسبب يعود إلى عدم ظهور كتب تشرح النصوص الجويسية. وأما الآن فظهرت كتب أخرى عن الكلمات العامية الأيرلندية التي استخدمها جويس.
وأنا أجد نفسي محظوظاً لإطلاعي على هذه الكتب، إذ استطعت ان أتلافى الأخطاء السابقة، وبفضل المصادر تلك، تيسرت لي القدرة على أن أقترب من المعنى. والشيء الآخر، هو أن طه لم يستوعب بإلمام شامل، نظرية عن جيمس جويس. فجويس استخدم في روايته ربع مليون كلمة قاموسية، من ضمنها العربية والإيطالية والسنسكريتية وغيرها من اللغات. ولم يلتفت طه إلى ذلك، بل حاول ان يترجم الحوارات باللهجة المصرية الدارجة.
ولم يدرك النظرية الحقيقية، فكان يتوجب أن يقرأ عن يوليسيس، وعن جويس والفترة الثقافية في زمانه، وكذلك الصراع البريطاني الإيرلندي، والبروتستانتي الكاثوليكي، ذلك حتى نفهم النص. كما يجدر أن نقرأ الأوديسا والإلياذة وشكسبير: خاصة هاملت.
وبما أنني ترجمت هاملت، وبذا أعرف قيمة كل كلمة من الكلمات فيها. أفادتني كثيراً في ترجمة «يوليسيس». ومن المعروف أن هاملت لم يكتبها شكسبير بل مثلت في عام 1600 ميلادية، وكان يراها على خشبة المسرح، وعندما ضاعت المسرحية، أعاد كتابتها.
كيف لجأت إلى دراسة اللغة الأجنبية؟
كانت هوايتي الفعلية، منذ البدايات، دراسة القاموس والتعرف على الكلمات كما الأصدقاء.. ودائماً أفكر في أول شخص نطق هذه الكلمة أو تلك.
كيف تتواصل مع الشعر في زحمة الترجمات والنشاطات النقدية؟
الحياة كما تعلم مراحل.. وكانت أشعاري، في الزمن السابق، في العراق، ردود أفعال. بمعنى أن أشاهد نخلة باسقة مثمرة، فأكتب عنها. أو ان أرى امرأة ممشوقة القوام، فأتغنى وأتغزل بصفاتها. لكن، وبمرور الزمن، تحولت ردود الأفعال إلى مواقف وجودية، وإلى مواقف تأملية فلسفية.
ويساعدني في ذلك، المقامات المتنوعة التي تنتجها الثقافة الأوروبية، والثقافة الإنجليزية على وجه الخصوص. فالعرب مثلاً، اختصروا كل شيء تقريباً للتعويض عن الفنون الأخرى، من رسم وموسيقى بينما تطور الرسم في أوروبا إلى درجة معروفة، وكذلك المسرح والأوبرا. هذه كلها تدخل ضمن اللاشعور في التكوينات الشعرية الحديثة، أي القصيدة التي فيها امتلاءات تغتذى من مصادر ثقافية متنوعة.
ماذا عن أعمالك المقبلة؟
لديّ مشروع كتاب ضخم بجزأين، عن كيفية القراءة. والعنوان الفرعي يغوص في عمق البعد التطبيقي. وتناولت في الجزء الأول ثلاثة موضوعات، ومنها في الأول: قراءة قصيدة قديمة.. وذلك حتى نبتعد عن الحفظ عن ظهر قلب. وهو جزء مخصص لطلبة الجامعات، كي يتعودوا على تحليل القصائد. كما هي الحال، في بريطانيا لدى دراسة الشعر. والغريب أن الطلبة يسألون: ما الذي يحفظه من الشاعر الفلاني؟
ففي بريطانيا لا يسأل أقرانهم عن حفظ القصيدة، بل عن تحليلها. وفي القسم الثاني، تناولت موضوعة الترجمة، فأخذت ترجمات هاملت وماكبث ويوليسيس وهولدرلن، لعبدالرحمن بدوي، وأعطيت أمثلة عملية عن فهم النصوص.
كيف هي طبيعة طموحاتك وانت تشارف على الثمانين من العمر؟
كما يكره شكسبير الطموح، يمكنني أن أقول إنني لا أبحث عن النجاح، وإنما أخشى الفشل. وهناك مثل إنجليزي يقول: (إذا قفز الإنسان الطموح على الحصان بقفزة عالية، فإنه سيقع على الجانب الآخر).
صلاح نيازي
د. صلاح مشرف نيازي. أديب عراقي. ولد عام 1935، في الناصرية. وهو حاصل على الليسانس في اللغة العربية وآدابها من جامعة بغداد. وعلى شهادة الدكتوراه من «SOAS « في جامعة لندن. يقيم حالياً في العاصمة البريطانية، منذ العام 1963. ويرأس تحرير مجلة «الاغتراب الأدبي». اشترك في العديد من المؤتمرات الأدبية العربية والعالمية، منها: مسرح خيال الظل – في لندن، البينالي الشعري العالمي – في بلجيكا.
ومن دواوينه الشعرية: كابوس في فضة الشمس، الاغتراب والبطل القومي، نزار قباني رسام الشعراء. ومن ما ترجم إلى العربية: رواية «يوليسيس» لجيمس جويس (ج1)، مسرحية «ماكبث» لشكسبير. كما
كتب مجموعة دراسات في الصحف والدوريات. وترجمت بعض قصائده إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيرانية والألمانية.
( البيان )