دفاعاً عن ‘الشرف العقليّ’ في الجامعة الأردنيّة


د. بلقيس الكركي *

هذا التعبير، ‘نهاية الشرف العقليّ’، هو لأبي إسحاق الكِنديّ، أوّل فلاسفة العرب المسلمين، في زمن بعيدٍ كان يعرفُ فيه العلماء والمتعلّمون، أن البحث في المفاهيم وحدودها أي تعريفاتها هو أوّل الطريق نحو هذا ‘الشرف’، هذه ‘العفّة’، وهذا ‘الحياء’. لم تكن أخلاق العلماء لتسمح لهم بالتقليد، أو باجترار مفاهيم وأقاويل حول العالم والإنسان، عقلاً وجسداً.
ووفق هذا التصوّر للعلم والعلماء، تكون الوقفة الاحتجاجيّة التي دعا إليها الزميل الدكتور أمجد قورشة تحت عنوان’ نداء لدعم العفّة’ احتجاجاً على ‘الفيديو المسيء’ الذي أشرفت عليه الزميلة الدكتورة رلا قوّاس، متّهما إيّاه بـ’خدش الحياء’، و’فضح الأردن’، و’نشر الرذيلة’، و’تدمير سمعة الجامعة’ ‘تحت غطاء الحريّة الأكاديميّة’؛ تكون هذه الوقفة وما سبقها وما تبعها من تعليقات سلبيّة على الموضوع، والدعوة إلى محاكمة د. رلا وفصلها من الجامعة، أكثر إهانة للشرف، والفضيلة، وخدشا لحياء الفكر والإنسان، رجلاً وامرأة، وأكثر إساءة لما ينبغي أن تمثّله الجامعة أو أيّ مؤسسة تصف نفسها بالأكاديميّة، من أي فيديو حول التحرّش مهما كان مضمونه. الفرق أنّ أحداً ممّن يشعرون بالإهانة من هذه ‘الوقفة المسيئة’ بحقّ العلم، بل وبطعنات كثيرة في صميم جوهرهم كأكاديميّين معلّمين ومتعلّمين، لا يطالب بمنعها أو محاكمة القائمين عليها، رغم الغضب العارم الذي يصيب كلّ من يرى المحاولات الدؤوبة لاحتكار الحقيقة واختزالها بتوجّه واحد يلقى رواجاً سهلاً عند أغلبيّة متعطّشة لليقين، وهو ما يدمّر الجامعة أي جامعة من أساسها الذي يصنع سمعتها، إذا ما كان حقّاً أنّ الأساس في أي علم، ونتيجته أحياناً، هو الإدراك بأنّ الطريق إلى أيّ يقين طويل.
ليست القضيّة عندي، كأستاذة جامعيّة، متعلّقة بأن تبقى د. رلا في العمادة أو لا تبقى، أو بأن يكون فيما فعلت سعيٌ مبطّن لـ’بطولات وهميّة’ تصنعها بالتعاون مع ‘جهات خارجيّة’ كما جاء في أحد الاتّهامات الكثيرة التي كيلت لها. فهي قد ترغب هي في الردّ على هذه الأمور أو لا ترغب، طالما أنّ بعض الاتهامات، للأسف، يطال نواياها المبطّنة، وتُستخدم فيه لغة لا تختلف في ابتذالها وسوقيّتها كثيراً عن اللغة التي اعترضت عليها الطالبات في الفيديو، إذ ليس الابتذال مقصورا على كلمات وألفاظ تدور حول الجنس، كما ربّما ليس من فضيحة تشوه سمعة بلد، أي بلد، أكثر من الجهل، خاصة إذا كان مُمَنهَجاً مُمأسسَاً.
المؤلم حقّاً أنّ الابتذال، مرة أخرى، يطال المفاهيم والأفكار، ويتساوى في فهمها واستخدامها واجترارها الأمّيّ البسيط والبروفيسور العتيد، فلماذا إذن الجامعة؟ ذلك، ربّما، هو الانتهاك الحقيقيّ للشرف والعفة والحياء. على المفاهيم هذه أن تُبحَث، تاريخاً ومعنى وفلسفة وأثراً، لا أن تُستَخدم بمعانيها العموميّة سلاحاً بدائيّاً ضدّ محاولة من طالبات الجامعة للتعبير عن شيء ما، ولمهاجمة الوسيلة التي اخترنَها، واتهامها بـ’غير العلميّة’، وكأنّ طريقة الردّ عليها أكثر علميّة والتزاماً باحترام الفكر والحقيقة. في هذه الجزئيّة يُحسب للطالبات أنّهنّ لم يحاولن فرض مفاهيم أو أفكار معلّبة على أحد، بل كتبن ما يسمعن، في محاولة للتعبير عن ضيق ما، ولم تظهر طالبة واحدة أو أستاذة تُنظّر لتصور محدود عن التحرّر، أو تختزل مفهوم الحرية في اللباس أو غيره كما اختزل المهاجمون مفاهيم العفّة والحياء. بالتأكيد، لا بدّ لهنّ ولزملائهنّ الغوص أكثر في أسباب هذه الظاهرة و’حقيقة’ ما يحدث، لكنّهن آثرن البدء بالـ’حقيقة’ بأحد معانيها (factum) المتعلقة بالوقائع، وتبقى مفاهيمها الأخرى المتعلقة بالـ’حق’ (veritas, aletheia (truth)) بحاجة ربّما إلى أشكال تعبيرية أخرى كالكتابة الأكاديمية والإبداعيّة. والكتابة في هذا الموضوع لا يمكن لها التميز إذا ما استهلك الكاتب كلمات ومعاني مهما كانت؛ من أخلاق وحرية واعتداء وحقيقة وامرأة وجسد وتشييء وعفة وشرف.
الأساس، في أي تعلّم وتعليم، هو التعقّب؛ ‘تعقب المقدمات غاية التعقّب’ على حدّ تعبير الفارابي الذي أعطى ‘الخواصّ’ هذا الوصف، وترك للعوامّ صفة ‘الاقتصار على ما يوجبه بادئ الرأي المشترك’. وكم من المؤسف أن نجد حملة شهادات عليا، مسؤولين عن ‘التعليم’ في بلادنا، وقد طالهم هذا الوصف الأخير، ولديهم فوق ذلك الجرأة لمهاجمة ما لا يعجبهم استنادا إلى ما ينقصه التعقّب، ولمحاولة فرض آرائهم، جارين وراءهم جيوشا من الطلبة الذين، لا بسبب شيء سوى قلّة الاطلاع، يعتقدون أنّهم هكذا يحمون عاداتهم وتقاليدهم العربية الإسلامية. وكأنّ هذا التراث العظيم بدأ بـ’افعل’ و’لا تفعل’ بدل ‘اقرأ’؛ وكأنّه لم يتّسع اتساعه الجميل المعروف، لأبي نواس كما لأبي العتاهية، ولرابعة العدوية كما لبنت المستكفي، وللغزالي كما لابن رشد، ولأكثر من مفهوم لله والإنسان والأخلاق؛ وكأنّ ‘حجّة الإسلام’، أبا حامد الغزالي، لم يبحث قبل أن يقل ويعترض ويهاجم، وكأن سعادته لم تكن بادية في ‘المنقذ من الضلال’ بسبب ‘ما استجرأ عليه’ من ‘الارتفاع عن حضيض التقليد إلى يفاع الاستبصار’، حتى ‘انحلّت’ عنه ‘رابطة التقليد’، و’انكسرت’ عليه ‘العقائد الموروثة’، إذ ‘حرّك باطنه’ منذ صباه لدرك ‘حقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات’. لم يكن يغادر، كما يقول، حتّى ‘زنديقا معطّلا إلاّ وأتجسّس وراءه للتنبّه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.’ لقد كان الغزالي أكاديميّا معلّما في بغداد ونيسابور، وكان بإمكانه شنّ حملة واسعة لـ’دعم عفّة’ بغداد ضدّ فحش الجواري والشعراء والزنادقة، وأن يتّهم من لا يتفق معه بأنه يعمل وفق أجندات شعوبية، وأن يستغلّ طلبته في سبيل ذلك أبشع استغلال. لكنّه بقي يطلب العلم حتّى آخر رمق من حياته، وليست المسألة فيما وصل إليه بل في موقفه من العلم ابتداء، وفي أخلاقه في التعامل مع من لم يعجبه رأيهم، إذ لم يمنعه ما رآه في خصومه من جحود ‘لتفاصيل الأديان والملل’ واعتقادهم أنها ‘نواميس مؤلفة وحيل مزخرفة’، من أن يعترف لهم بـ’رزانة عقولهم وغزارة فضلهم’.
ربّما هذا هو مفهوم ‘الشرف’، ‘الشرف العقليّ’، الذي ينبغي الدفاع عنه من قبل الأكاديميّين؛ عن عفّته وصفائه من الاستبداد والاحتكار والابتذال. إنّ لطلبة الجامعة الحقّ في التفكير في كلّ شيء، ومعرفة كل شيء، ولهم على أساتذتهم التوجيه والنقد والانتقاد مهما كان صارما طالما أنّه في حدود المعرفة والمنطق ولا يتجاوز ذلك إلى فرض وجه واحد من الحقيقة، أو إلى قمع رغبتهم في تجريب أشكال مختلفة من التفكير والتعبير طالما أنّ ذلك يعكس تعطّشا ‘لدرك حقائق الأمور’ (الغزالي). وهو شرف تحترمه قوّاس جيدا، وأنا من ضمن كثيرين درسوا معها ورأوا بوضوح كيف يمكن أن تجتمع الصرامة العلمية مع احترام الاختلاف.
هو ربّما ‘الجهل المقدّس’ الذي يؤلم كلّ من يرى مظاهره في مكان يفترض أنّه يعمل على محوها وتكريس قداسة الفكر وطرق الحقيقة المتشعّبة بكلّ آلامها وتعقيداتها. وإذا كان يصعب على أي أستاذ في العلوم الإنسانيّة ألاّ ينحاز أحيانا لما توصل إليه من تصورات وألا تبرز أمام طلبته مواقفه من القضايا التي يبحث فيها ولا يزال، فإنّه يحاول داخل قاعة الدرس، عفّةً وحياء، أن يبقى أستاذا، معلّماً، لا داعية لأي شيء سوى العلم والعقل على اتساعهما، ولشروطهما من حريّة الفكر والرغبة والفضول، وإلاّ تكون النتيجة أخطر على عقل الطالب الجامعيّ من الأمّيّة والجهل الكاملين.
رحم الله الغزالي الذي كتب في ذلك…. إنّ ‘البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، والعمى أقرب إلى السلامة من بصيرة حولاء’. وللزميلين قواس وقورشة خالص الاحترام.


* أكاديمية وباحثة اردنية


( القدس العربي )


 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *