كوثر الحكيري *
بعيدا عن الشعارات والخطابات الحماسية، يراهن المخرج اللبناني “زياد دويري” على رؤية فكرية تتجاوز الأخلاقي والسياسوي في طرحه لخلفيات أعقد الصراعات السياسية والإيديولوجية وهو الصراع الفلسطيني_الإسرائيلي في آخر أفلامه (الصدمة)
و”زياد دويري” عرفناه في تونس من خلال فيلمه “بيروت الغربية” الذي أنجزه وهو شاب همه اقتراح فيلم ذاتي يروي من خلاله فصلا من صباه فوجد نفسه أمام تجربة تحرك الأقلام وتسيل الكثير من الحبر وتجعل من صاحبها نجما قبل الأوان _ربما_ حظي باهتمام الصحافة العالمية التي رأت فيه عنوانا لبداية جديدة في السينما اللبنانية تقلب الطاولة على المخرجين التقليديين…
كان كل شيء يوحي بأن “زياد دويري” سيكون واحدا من رموز السينما اللبنانية والعربية وسيتمكن من العثور على تمويل لمشاريعه التالية دون صعوبات، لكن سرعان ما نسي العالم اسم هذا المخرج الذي كان عليه أن يتحايل على الظروف لإنجاز مشاريعه السينمائية وآخرها فيلم “الصدمة” مقتبس من رواية الكاتب الجزائري “ياسمينا خضرا” الحاملة للعنوان نفسه، وبطولة الممثل الفلسطيني “علي سليمان” بطل “الجنة الآن” لهاني أبو أسعد (الفيلم الحائز على جائزة القولدن غلوب) و”الزمن الباقي” ل”إيليا سليمان”، والحائز على جائزة أفضل ممثل في الدورة الأخيرة لأيام قرطاج السينمائية عن فيلمه “الجمعة الأخيرة” للمخرج الأردني “يحيى العبد الله” إضافة إلى الممثلين “ريموند المسيليم”، “إيفجينيا دودينا”، “يوري كافرييل”٬ “كريم صالح”٬ و”دفير يينيديك”، “ريا سلامة”٬ و”رمزي مقديري”…
عرض فيلم “الصدمة” ضمن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في الدورة الثانية عشرة للمهرجان الدولي للفيلم بمراكش وهو الفيلم العربي الوحيد داخل المسابقة إضافة إلى الفيلمين المغربيين ” يا خيل الله” للمخرج “نبيل عيوش” الحائز على جائزة أفضل إخراج من الدورة الأخيرة لمهرجان الدوحة السينمائي بعد خروجه صفر اليدين من قسم “نظرة ما” ضمن الدورة الخامسة والستين لمهرجان “كان السينمائي”، و”زيرو” للمخرج “نور الدين الخماري” الذي حقق الكثير من الشهرة بفيلمه “كازانيقرا”…
حياد أو تحيز
استنادا إلى رواية “الصدمة” للكاتب الجزائري “ياسمينا خضرا” كتب المخرج “زياد دويري” سيناريو فيلمه رفقة زوجته “جويل توما” واختار نهاية للفيلم مختلفة عن الرواية منتصرا فيها للحياة، رافضا موت البطل كما في الرواية…
وعلى الرغم من تعلقه الشديد بلبنان، إلا أن “زياد دويري” لا يجد حرجا في الهروب من قيد الجغرافيا لتكون فلسطين مسرح أحداث فيلمه الجديد “الصدمة”، فلسطين المحتلة أين يعيش الدكتور “أمين الجعفري” وهو جراح حامل للجنسية الإسرائيلية من فلسطينيي 48 يعيش حياة هادئة مع زوجته المسيحية، يتحصل على جائزة رفيعة في الطب من أكبر المؤسسات الإسرائيلية ليكون بذلك أول عربي ينال الجائزة ويفتح بالنسبة إليه الأمل في إمكانية العيش المشترك والآمن في أرض تحولت إلى حقل من الألغام…
تتغير حياة الدكتور مع عملية انتحارية داخل مطعم في “تل أبيب” يتسبب في قتل حوالي سبعة عشر مواطنا إسرائيليا أغلبهم من الأطفال… يتأثر الدكتور “أمين الجعفري” بالحادثة ويدينها قبل أن يجد نفسه متهما بسبب زوجته التي عثروا على جزء من جثتها داخل المطعم وأكد الطب الشرعي أنها بطلة العملية الانتحارية…
لا يصدق الدكتور أن زوجته المسيحية غير المتدينة المحبة للحياة يمكن أن تتورط في مذبحة كهذه… يستميت دفاعا عنها، رافضا فكرة أنها كانت تخونه، ولعل في صمتها على ما قررت فعله خيانة أيضا، ولا يهدأ إلا عندما يتسلم رسالة منها كتبتها قبل رحيلها تقول له فيها إنها لا تستطيع إنجاب أطفال بلا وطن يحميهم، لم تطلب منه السماح ولكنها كتبت تقول له “لا تحقد علي”، ففي حقده عليها موتها الحقيقي…
بسبب هذه الرسالة يقرر الدكتور “أمين الجعفري” الذهاب إلى “نابلس” التي نسي الطريق إليها، فاندماجه في المجتمع الإسرائيلي أنساه عائلته هناك… كان هدفه البحث عمن جند زوجته التي تحولت دون أن ينتبه إلى انتحارية فجرت نفسها داخل تل أبيب…
في رحلة بحثه تلك يعيد “أمين جعفري” اكتشاف فلسطينيته، ويتعرف على حبيبة القلب كما لم يعرفها من قبل ليكتشف أن مجزرة جنين هي التي غيرت الكثير في زوجته وجعلتها تتحول إلى انتحارية لا يقبل في البداية أن تكون شهيدة صورها في كل ركن من الأرض الفلسطينية ثم يتصالح تدريجيا مع هذه الحقيقة ويرفض الاعتراف للطرف الإسرائيلي بما اكتشف من حقائق في رحلة بحثه عمن جند زوجته، ويقول ببرود “لا أريد المساهمة في المزيد من القمع ضد فلسطين”
صور جزء من الفيلم في “تل أبيب” بتمويل قطري، بلجيكي، مصري، فرنسي ولبناني، فنيا اعتمد فيه المخرج “زياد دويري” على تقنية الفلاش باك والاقتصاد في اللغة مع توظيف للقطات القريبة للتعبير عن المواقف الإنسانية المؤثرة والمفارقات الصادمة التي اعترضت الدكتور “أمين الجعفري”…
لكن مضمون الفيلم خلف الكثير من الأسئلة فالمخرج “زياد دويري” صور الإسرائيلي علمانيا، متحضرا، متسامحا، لا يجد حرجا في دعم العبقرية العلمية للطرف العدو أما الفلسطيني فهو بدائي وجاهل ويبدأ بالعدوان ولا يجد حرجا في قتل الأطفال… ولذلك كان تصوير مشهد العملية الانتحارية في المطعم الإسرائيلي مؤثرا في المقابل صور “جنين” في لقطة واحدة عابرة تشي بتحفظ المخرج ومن خلاله كائنه السينمائي “أمين الجعفري” في إعلان موقف واضح من الصراع الفلسطيني_ الإسرائيلي… كان واضحا أن المخرج يتعامل بالكثير من الحياد البارد يصل حد التحيز للطرف الإسرائيلي وهو أمر ينكره المخرج “زياد “دويري” في حوارنا معه…
( الصريح التونسية )