الحرية.. الدين.. والدولة


د. سهير سلطي التل *

( ثقافات )


 



 
بدعوة من مركز ثقافات للدراسات والأبحاث / إنتلجنسيا، وبالتعاون مع منظمة فرديرش ناومن من أجل الحرية، أقيمت ورشة عمل فكرية حول الحرية والأديان، بمشاركة لفيف من المفكرين والمشتغلين بقضايا الفلسفة واللاهوت والسياسة، تلاها وبعد شهر تنفيذ إحدى توصيات الورشة بعقد ورشة فكرية أخرى، حملت عنوان ( المصطلحات الناظمة لعلاقة الدين بالدولة).
قدمت في الورشة الأولى مجموعة أوراق عمل، حملت عناوين مثل ( الحرية والدين: علاقة تطوير أم إعاقة؟) للدكتور عمر الحافي، وأخرى بذات العنوان للدكتورة ليلى جرار، و ( أثر الأديان على القوانين والتشريعات المتعلقة بالحرية) قدمها الأستاذ جمال القيسي ، وتحت عنوان ( الحرية بوصفها عابرة للأديان) قدمت كل من الأستاذة هيفاء حيدر والأستاذة سوزان عفيفي ورقة خاصة بها، أما الورقة الأخيرة فقد قدمتها الدكتورة نادية سعد الدين وحملت عنوان( الحريات والأديان، بين الماضي والحاضر).
في سياق البحث في العلاقة بين الدين والحرية وما اعترض هذا البحث من إشكالية في المفاهيم ولتأثر الحوار بالمعاش اليومي من تغيرات سياسية متسارعة، دارت أعمال الورشة الثانية حول مفهومي الدولة والعلمانية، وما بينهما من مفاهيم فرعية فقدم كلا من الأستاذ مازن الساكت والدكتور عامر الحافي ورقتان حول (مفهوم الدولة) وقدم الدكتور وسام سعادة ورقة حملت عنوان (نحو دليل للمصطلحات الناظمة لعلاقة الدين بالدولة) وقدم الدكتور محمد أبو رمان ورقة حملت عنوان( بين الدين والدولة حوار في التغيير).
انطلقت غالبية الأوراق المقدمة من الحوار الشائك الدائر حاليا في المجتمعات العربية انطلاقا من أحداث فرضتها متغيرات ( الربيع العربي) وقدمت سلسة تعريفات لمفاهيم مثل الحرية، والدين، والمقدس، والحق، والقانون…الخ،من مصادر متنوعة، كما استندت في غالبيتها على قراء للتاريخ في تحليل علاقة الدين بالدولة من خلال النموذجين الإسلامي والمسيحي، كما حاولت الإجابة على أسئلة من نوع: مكانة الدين في المجتمع، هل يمكن فصل الدين عن المجتمع والدولة؟ طبيعة الحرية، طبيعة المقدس،هل تستطيع الحرية احتضان الدين؟ هل يستطيع المقدس ضمان الحريات ؟
ومن أبرز الأفكار التي تم تداولها في الورشتين :
أولا: في المفاهيم
1- الدين:
– إن مصطلح الدين لا يعني الدين الحق وحده بل تعني : ما يدين به الناس وما يعتقدونه، حقا كان أم باطلا وبهذا لا تعني كلمة الدين الإسلام وحده.
– في النصوص الدينية ما يكفي لحماية الحريات الخاصة والعامة، وبالتالي فإن إشكالية العلاقة بين الدين والحرية لا تكمن بالنص الديني بذاته، بل في فهم الإنسان لهذا النص والعمل بمقتضى هذا الفهم.
– اعتبار البعض من المفكرين والساسة الدين مرجعية فكرية، أدخله في سياق الفعل السياسي المباشر، وبالتالي فان الإشكالية ليست في الدين بحد ذاته، بل في أسلوب إقحامه في السياسية وشكل الاستفادة منه كمرجعية، وأثر ذلك كله على الحريات.
– ممارسات الأحزاب والقوى السياسية على مختلف مرجعياتها الدينية وغير الدينية أدت إلى وجود أزمة ثقة بين الأطراف مجتمعة،
2- الحرية
– إن فكرة الحرية صعبة الإدراك أو الوصف، فالحرية والتحرر يدخلان في دائرة الفعل والإرادة وبالتالي يدخلان في أفق لا محدود بالنظر إلى تنوع الحياة الإنسانية، وإذا كان الإنسان يسعى للتعبير عن ذاته بالكلمة والفكر والفعل، فانه يسعى أيضا للتحرر من أي قيد يحد هذا التعبير، لكنه يدرك من جهة أخرى أنه يمارس حريته في نطاق رابطته بالآخر، فالحرية لا توجد خارج الجماعة، وهي أيضا لا تفصل الفرد عن الجماعة، بل تضع عليه بعض القيود، بقصد ضمان حرية الآخر، وذلك من خلال العقد الاجتماعي
3- الدولة:
– يتجاوز التعريف مكوناتها الأساس ( الأرض والسلطة والسكان)، إلى التمييز بين الأشكال المعاصرة للدولة وما طرأ عليها من تحولات من خلال أدوار الدولة المعاصرة، بما فيها من نماذج أبرزها نموذج الدولة الرأسمالية ( الملكيات) ونموذج الدولة مركزية التخطيط ( الاشتراكية، أنظمة الحزب الواحد)، والدور الاقتصادي التنموي، الذي أدى مهام التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، في كل منهما، وصولا إلى نموذج دولة العولمة، التي تقترح الحريات السياسية والديمقراطية وتبني اقتصاد السوق وشراكة المجتمع المدني والقطاع الخاص لإنجاز مهام التنمية الإنسانية بتجلياتها المختلفة
– إن مصطلح الدولة ليس سياسيا ولا دينيا بل هو مصطلح قانوني، وانتماء المصطلح إلى حقل القانون هو ما يحدد الفارق بين مفهوم الدولة بالمعنى المعاصر وبين معنى الدولة بالمعاني الأقدم، التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي، ويشير أيضا إلى ضرورة التمييز بين مفهوم الملكية العقارية لأراضي الدولة ومفهوم سيادة الدولة، ليضيف، أن عنصر السيادة هو العنصر الأساس في مفهوم الدولة، وهو المؤسس لمفهوم المواطنة، من خلال سيادة القانون، الذي يطرح بدوره إشكالية العلمانية، كشكل ناظم للعلاقة بين الدولة والمواطنين، والمؤسس على مبدأ المساواة القانونية الكاملة بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية.
4- العلمانية
– إن قراءة التجربة الإنسانية التي أنتجت الدولة العلمانية، تؤشر إلى وجود أكثر من شكل لهذه الدولة، وفي كل هذه النماذج كان ثمة علاقة بين المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة، وهذا يعني أن العلمانية هي شكل تنظيم العلاقة بين الدين والدولة . أو أنها أسلوب تحقيق المساواة أمام القانون.
5- – أفكار تم تداولها
– قبول الجميع بما فيهم الإسلاميين لفكرة الدستور، وأن الجدل الدائر بين التيارات الإسلامية يقوم حول شكل الربط بين المرجعية الدستورية والمرجعية الدينية كمرجعية فوق دينية، وما تطرحه الأشكال المتداولة من اقتراحات.
– إن غالبية أحزاب الإسلام السياسي وتياراته المعتدلة، لا تسعى لإقامة دولة دينية، بل سعت وبشكل غير مباشر لتهميش دور رجال الدين، فقياداتها الفكرية والسياسية شخصيات عامة، تبنت مرجعيات فكرية دينية، وقد تلقت تعليمها خارج المؤسسة الدينية،( الأزهر) ومثالها الساطع سيد قطب، وأيمن الظواهري وغيرهم، كما أدركت بعض هذه القيادات والأحزاب، أن الإسلام لم يعد قادرا على حماية نفسه بنفسه، فتبنت فكرة الدستور لحماية الشريعة، وذلك لتضمين القوانين ما يلزمها لإعادة العمل بأحكام الشريعة، وهؤلاء يدركون أيضا أنهم سيواجهون الكثير من المعضلات الفكرية في مواجهة قضايا سياسية واقتصادية، وقد لا توجد لديهم مشكله في إيجاد حلول لها من خارج إطار الفكر الديني، لذلك يركزون على مجالي الأحوال الشخصية لتطبيق أحكام الشريعة، للتعويض عن المجالات التي يدركون أنهم لا يستطيعون تطبيق أحكام الشريعة فيها، وانتهى إلى تأكيد أن التحدي الحقيقي ليس مواجهة التيارات الإسلامية المعتدلة بل في احتمال صعود التيارات السلفية المتشددة.

– إذا دخل الدين في الدستور بصفته ركيزة القوانين، فإن الحريات لن تكون إلا بحجم المساحة التي تسمح بها الأديان، والدين هنا أكثر الأمور إشكالا وجدلا ، لكونه نصوصا مرنه قابلة لتفسيرات متعددة حيث لا يوجد إجماع لحل معضلة ما.

– إن إشكالية الدين بعلاقته بالحرية تكمن فيما يتضمنه من مقدس يحول دون حوار بنّاء على أرضية مشتركة، لكن المقدس مفهوم واسع يشمل ما هو أبعد من الدين، ومثال ذلك تقديس الوطن.

– الحل لإشكالية هذه العلاقة الشائكة في اعتماد مبدأ الدولة المدنية.

– لدولة المدنية مفهوم ملتبس أو قد يودي إلى التباس، كاستبداله بمفهوم الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية.

– إن مفهوم المواطنة المتضمن في مفهوم الدولة يتطلب البحث في مفهوم الوطن.

6- مداخلة أخيرة
ترتكز هذه المداخلة على اعتبارين أساسين :
الأول : اعتبار الدين، بوصفة منظومة اعتقاديه، مكون أصيل من مكونات أي ثقافة مجتمعية، علما أننا ننظر إليه كمفهوم ديناميكي قابل للتطور، بالتفاعل مع البني المجتمعية الأخرى ويمثل انعكاسا لها، وبهذا المعنى لا أحد يستطيع، أو يرغب بتجاهل مكانته ودوره في الثقافة المجتمعية.
الثاني: اعتبار كل ما ينضوي تحت مفهوم حركة الحركة الإسلامية على تنوع اتجاهاتها الايدولوجية وأشكال تنظيماتها وتياراتها، حركة سياسية خرجت من رحم البدايات كحركة دعوية إحيائية وتحولت إلى الفعل السياسي المباشر سواء أعلنت عن هذا التحول أو لم تعلنه.
في التحليل: إن الإشكالية الأساسية تكمن في العلاقة بين المتغير والثابت في كل من مفهومي الحرية والدين، فإذا اتفقنا على أن الدين يستمد مكانته ودوره من المقدس باعتباره لصيقا بطبيعته من حيث الوجود، والمقدس ثابت بحكم طبيعته، وإذا اتفقنا من جهة أخرى على اعتباره – أي الدين – أحد مكونات الثقافة المجتمعية السائدة، وهي بطبيعتها، متغيرة بتغير السياقات التاريخية والاقتصادية – الاجتماعية التي تنتجها، فان هذا التغير سيشمل حكما الدين، وبالتالي مكانته ودوره، لكننا سنواجه معضلة التناقض البنيوي بين مفهومي المتغير والثابت.
ولا يختلف الأمر بالنسبة للحرية، فإذا اتفقنا على اعتبارها جزءا من إنسانية الإنسان، لصيقة بوجوده، فهي ثابتة، وإذا اتفقنا من جهة أخرى على إنها – أي الحرية – تجلّ لا يظهر ولا يعبّر عن ذاته، إلا من خلال الوجود الإنساني المجتمعي، وهو متغير بطبيعته، فسنقع في المعضلة ذاتها.
هذه المعضلة تقتضي العودة إلى مفهوم الثابت، الأمر الذي يتطلب دراسة كل من الظاهرتين في سياقاتهما التاريخية والثقافية والاقتصادية- الاجتماعية التي أنتجتهما، وحددت مكانتها وأدوارهما، وبالتالي ضرورتهما للحياة الإنسانية في سياق تطورها التاريخي، إن مثل هذه القراءة ستقودنا إلى الإجابة، بان لا أحد يستطيع القطع بان الإنسان عرف ومارس الحرية كقيمة مطلقة مرتبطة بالوعي والإرادة، وفي أي مرحلة من مراحل تطوره البيولوجي والاجتماعي؟ وسنرى أيضا إن الإنسان بحث عن المقدس منذ طفولة العقل البشري، لحاجات نفسية واجتماعية، تغيرت إلى حاجات اقتصادية- اقتصادية اجتماعية، أدت بدورها إلى تغير مفهوم المقدس وبالتالي مكانته ودورة في الحياة البشرية، الذي لم يتجاوز وفي كل الأحوال دوره كأحد أدوات ضبط سلوك الكائن البشري في إطار الجماعة.
إن تهافت مفهوم الثابت في بُنيّة كلا من الحرية والدين، يقود إلى معالجة الإشكالية من زاويتها العملانيّة باعتبارها صراعا على مساحة الوجود والمكانة في السياقات المجتمعية والبنى الثقافية المعبّرة عنها – أي السلطة – الأمر الذي يبرر نقل الحوار إلى حقلي السياسية والقانون، فتصبح العلاقة بين الحرية والدين إلى صراع على الوجود والمكانة، في بنيّة العقد الاجتماعي المرتجى، الدستور، وأطرافه، القوى السياسية والاجتماعية المختلفة والمتنوعة، باختلاف وتنوع المصالح المعبرة عنها.
هذا الفهم يقتضي أيضا طرح مجموعة تساؤلات حول خريطة البنى الاجتماعية وطبيعة مصالحها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ ومن هي القوى والتيارات السياسية المعبرة عنها؟ وما مساحة السلطة التي تهدف إلى امتلاكها للتأثير في حركة المجتمع، وهل تبحث هذه الأطراف عن التغيير الجذري في البنى القائمة أم تريد إصلاحها؟ وما هي أدواتها لإحداث هذا التغيير؟ وأخيرا السؤال ما هو دليل الصواب الذي يتبناه خطاب كل من هذه القوى للدفاع عن رؤيته.
كما يقتضي الاتفاق على أن بناء عقد اجتماعي جديد، يؤسس لدولة حديثة، يتطلب اعتماد مبادئ معيارية متفق عليها من قبل جميع الأطراف المعنية، منها: مبدأ القبول بالآخر، الذي لا يتوقف عند قبول أطراف الصراع من قوى سياسية واجتماعية بوجود آخر، بل يتجاوزه إلى الاعتراف والاستمرار في التعبير عن ذاته فكرا وتنظيما، وأيضا حقه بالوصول إلى أدوات الصراع وامتلاكها، هذا القبول يشكل صلب فلسفة الديمقراطية باعتبارها أداة إدارة الصراع التي تضمن طابعه السلمي، كما يعني تجاوز مفهوم حكم الأغلبية إلى مفهوم حكم الأغلبية التي تحمي حقوق وحريات الأقلية أو المعارضة، من جهة،ويقتضي من جهة أخرى،اعتماد مبدأ وحدة دليل الصواب، باعتماد الدليل العقلي/العلمي/التجريبي، وإبعاد المقدس كدليل لصواب الخطاب، باعتباره مقدسا متنوعا بتنوع المعتقدات الدينية سماوية كانت أو غير سماوية.
إن قراءة تجارب قوى الإسلام السياسي باعتبارها القوى صاعدة توشك على إعادة صياغة بنى الدولة والمجتمع، تعيدنا إلى طرح الأسئلة السابقة ومحاولة الإجابة عليها مثل:
ممن تتشكل القاعدة الاقتصادية-الاجتماعية المفترض أن تعبر عنها قوى الإسلام السياسي وتياراته المختلفة وبخاصة المعتدلة منها؟ وما هي حدود مصالحها الاقتصادية – الاجتماعية والثقافية والسياسية؟ والى ماذا تنحو؟ الإصلاح أم التغيير الجذري؟ ثم كيف ترى هذه القوى هذه المصالح؟ باللجوء إلى عملية تغيير جذري في البنى المؤسسية القائمة أم إصلاحها؟ وما هي أدواتها لتحقيق هدفها؟ وبعد ذلك كله، ما هو الدليل الذي تستعمله هذه القوى والتيارات للإقناع بصواب خطابها.
إن إجابة هذه الأسئلة تتطلب القراءة الدقيقة لمجموعة كبيرة من التجارب ( دول وتنظيمات وتيارات) تم التطرق إلى بعضها في الأوراق المقدمة، لكن وبشكل عام نتوقف عند بضعة ملاحظات أولية منها:
– مع التطورات الاجتماعية والسياسية محليا وعالميا، ومن الناحية النظرية على الأقل، نادرة هي القوى التي تنتمي إلى الحركة الإسلامية الوسطية أو المعتدلة، التي تعلن رفض مبدأ الدولة كإطار ناظم للعلاقة بين الشعب والسلطة، وقد قبلت بالديمقراطية كأداه للوصول إلى السلطة بما فيها مراكز صنع قرار وإحداث التغيير من داخلها كأداة، وقد قبلت بشكل أو بآخر بمضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان،وما تلاه من اتفاقيات ومواثيق دولية تضمن كافة الحقوق والحريات للأفراد والجماعات، ولا أحد ينكر أن قوى وتيارات الإسلام السياسي المعتدل وبخاصة في مناطق (الربيع العربي الذي نجح فيها هذا التيار في الوصول إلى السلطة كتونس ومصر) طورت خطابها السياسي وضمنته العديد من مصطلحات حداثيّة كانت تعتبرها إلى وقت قريب، مستوردة وتغريبيّة وغير معترف بها، كمصطلحات: الديمقراطية والدولة، والقبول بالآخر والشراكة وغيرها، فضلا عن قبولها التعاطي مع مفهومي الدولة ككيان قائم، والوطن كقيمة، على حساب مفهوم الأمة، الذي- ربما- أُجّل، ولكن لم يتم التراجع عنه كليا.
– دليل صواب الخطاب لدى جميع القوى والتيارات السياسية دولا ومنظمات وتيارات هو (المقدس) سواء عُبّر عن هذا المقدس بنص قرآني أو السنة النبوية أو اجتهاد الأئمة، وهم بشر منحوا عبر التاريخ بعضا من سمات القداسة، وثمة أدلّة كثيرة على محاولات تكفير الكثير من المفكرين لأنهم انتقدوا إجتهاد الصحابة والخلفاء الراشدين والأئمة، والسؤال هل يمكن اعتماد (المقدس) كدليل لصواب الخطاب؟ وفيما لو اعتمد هذا الدليل بالنسبة للبعض، فكيف اعتماده في حوار مع خطاب الآخر الذي ينتمي إلى مقدس أخر أو سياق معرفي مختلف؟
في نقد الخطاب: مشروع الدستور المصري نموذجا
لست بصدد تقديم مراجعة قانونية دستوريه لمشروع الدستور المصري الجديد، ولا أريد الدخول في متاهات الصراع السياسي بين القوى المصرية التي تنظر إلى المشروع من زوايا متنوعة، مثل هوية اللجنة التي أعدته وكيفية إعداده وما إلى ذلك، بل سأنظر في بُنيّة خطاب مشروع الدستور باعتباره خطابا سياسيا قانونيا معبرا عن العلاقة بين الحرية والدين، في إطار مؤسسة الدولة كإطار ناظم للعلاقة بين الفرد والسلطة، بما يضمن حقوقه وحرياته من جهة، وبما ينظم العلاقة بين المؤسستين الدينية والعامة من جهة أخرى، باعتماد المعايير المذكورة أعلاه وهي مبدأ القبول بالآخر بما يتضمنه لفهم الديمقراطية بأبسط معانيها باعتبارها حكم الأغلبية التي تحمي حقوق الأقلية، والثاني وحدة الدليل باعتماد دليل يخرج من إطار المقدس إلى البشري العقلاني، كما أنني سأكتفي بقراءة ما يتعلق بكل من الدين والحرية في المشروع المنشور من خلال مراجعة نص الديباجة وبواب المبادئ العامة والحريات.
أولا: أول ما يلحظه المدقق نوعية اللغة التي كتب بها الدستور، فقد كان ظاهرا إتكاء النص الدستوري على لغة عربية مستمدة من لغة الخطاب السياسي الديني، فقد جاء في ديباجة الدستور حرفيا (……مجاهرا بحقوقه الكاملة في العيش الكريم والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، التي شرعها الخالق قبل أن تشرعها الدساتير والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان) ، كما جاء في المبدأ الثالث ( حرية المواطن في كل جوانب حياته فكرا وإبداعا ورأيا وسكنا وأملاكا وحلا وترحالا، وعن اقتناع كامل بان هذه الحرية حق سماوي وضع الخالق أصولها وثوابتها في حركة الكون، وخلق الإنسان حرا، وجعله ارقي مخلوقاته على الأرض وأكثرها ذكاء وحكمة) ، وهو في هذا النص ونصوص أخرى يؤكد على الدين الإسلامي كمصدر للحرية وناظم لها.
ثانيا: وقع الخطاب في التناقض عندما نص في المبادئ الأساسية وفي المادة الثانية أن( الإسلام دين الدولة ……ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع) ثم وضح المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية بالمادة 219 بالنص أن (مبادئ الشريعة تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنة والجماعة) بما يعني منحها الأولوية القصوى وفتحها على متاهة عدد هائل من المرجعيات تبدأ بالنص القرآني الكريم ولا تنتهي عند آخر فتوى معتمدة من قبل السلطة القائمة على التشريع، فضلا عن تجاهله لمكونات المجتمع من أصحاب المعتقدات الأخرى،
فإذا كانت عبارة دين الدولة تعني دين الشعب ( الكل)، وتفترض أن (كل الشعب) يدين بالإسلام على مذهب أهل السنة والجماعة، فإنها تقع في مغالطة التعميم وتجاهل جزء لا يستهان به من هذا الكل، وهم أتباع أديان ومذاهب أخرى.
ثالثا: يتجلى هذا التناقض مرة أخرى عندما حصر مشروع الدستور، دور الأديان الأخرى بالتدخل في حياة الأفراد الشخصية وحق اختيار قياداتهم الدينية، إذ نصت المادة الثالثة على( أن مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، واختيار قياداتهم الروحية. ) وتجاهلت تفسير كلمة مبادئ كما فعلت بما يتعلق بمبادئ الشريعة الإسلامية، كما تجاهلت كليا حق المذاهب الإسلامية الأخرى، فإذا قبلنا الفرضية التي تفسر خص تنظيم الأحوال الشخصية للأفراد بمبادئ شرائعهم الدينية، باعتبارها شأنا خاصا، فالمشروع يقر بأن الانتماء الديني والمذهبي، شأن شخصي خاص، واعتباره جزءا من كل، لكنه يعود ويعتبر هذا الجزء- الشأن الخاص- شأنا عاما وذلك بربط عملية التشريع برمتها وبمختلف مجالاتها التي هي (شأنا عاما)، باعتماد معتقد واحد الذي سبق وان اعتبره (شأنا خاصا)، فكيف يمكن قبول الخاص باعتباره شانا خاصا عندما يتعلق بالأحوال الشخصية لغير المسلمين وأصحاب المذاهب الدينية الأخرى، وقبول هذا الجزء بصفته (كلا) عندما يتعلق بعملية التشريع، وهذا التحليل ينطبق أيضا على المادة العاشرة التي تنص على ( أن الأسرة أساس المجتمع قوامها الدين والأخلاق الوطنية، وتحرص الدولة والمجتمع على الالتزام بالطابع الأصيل للأسرة المصرية ….. وترسيخ قيمها الأخلاقية….) وذلك على النحو الذي ينظمه القانون، والمادة الحادية عشرة التي تنص على أن ( ترعى الدولة الأخلاق والآداب والنظام العام……………..) فعدا عن استعمل عبارات فضفاضة مثل الدين، الطابع الأصيل، القيم الأخلاقية، الآداب العامة، تحتمل الكثير من المعاني، وتنضوي بعمومها تحت عناوين الشأن الخاص، يحيل إليها العديد من المواد الواردة ببقية أبواب الدستور بما فيها من مواد.
رابعا: وأيضا يتجلى هذا التناقض عند تحديد هوية النظام السياسي، نصت المادة السادسة (يقوم النظام السياسي على مبادئ الديمقراطية والشورى والمواطنة التي تساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات العامة، ……. ولا يجوز قيام أي حزب سياسي على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أوالدين). ويتجلى هذا التناقض بالجمع بين مفاهيم الديمقراطية والشورى والمواطنة والمساواة، فمبدأ الشورى غير ملزم بينما يتضمن مبدأ الديمقراطية عنصر الإلزام، أما مفهوم المواطنة المختلف كليا عن مفهوم الرعية فهو غير محدد، وبما أن مفهوم المواطنة يتضمن حكما مبدأ المساواة أمام القانون، فهل يضمن المصدر الأساسي للتشريع (الفقه السني) مبدأ المساواة أمام القانون؟ على الأقل في مجالي العقوبات والإرث والأحوال الشخصية؟ ولا مكان هنا، والنص الدستوري يلزمه بالنص الشرعي، تجاهل النص القرآني الصريح الذي لا يقبل الاجتهاد والتأويل، الذي يحدد مبادئ القصاص وأشكاله وحصص الإرث، ومكانة النساء، علما بان الأصل الشرعي لم يُلغ العبودية إنما حث على الحد منها، فضلا عن وجود العديد من الأحكام الفقهية المتعارضة سواء بالتأويل أو الاجتهاد لمكانة أهل الكتب السماوية والمعتقدات الأخرى ومكانتهم وأسلوب معاملتهم.
خامسا: أعطى الخطاب مكانه خاصة للمؤسسة الدينية السنيةّ المتمثلة بالأزهر الشريف، كما تظهر المادة الثانية، إذ نصت (…..الذي كان له على امتداد تاريخه قواما على هوية الوطن، راعيا للغة العربية الخالدة والشريعة الإسلامية الغراء، ومنارة للفكر الوسطي المستنير) وزادت بان أعطتها دورا استشاريا مرجعيا، إذ نصت المادة التاسعة على أن ( الأزهر الشريف هيئة إسلامية مستقلة جامعة ……… ويتولى نشر الدعوة الإسلامية وعلوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم ويؤخذ رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف في الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية) وبذلك يكون قد أعطى مساحة معتبرة للمؤسسة الدينية في بنية الحياة السياسية، على حساب مساحة المؤسسة التشريعية المنتخبة، كما تجاهل دور المؤسسات الدينية الأخرى، بما يُعبّر عن انتقاص من حقوق أتباعها.
سادسا: استكمالا لمسألة الحريات نجد أن باب الحريات، وفي الفصول الأول والثاني والثالث، ذكر العديد من المواد التي تطرقت لطائفة واسعة من الحقوق والحريات الشخصية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغير ذلك، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: الحق بالكرامة، الحق بالجنسية، الحق بالمساواة، الحق بممارسة الحرية الشخصية، الحق بحماية الحياة الخاصة، وسرية المراسلات، الحق في حماية حرمة المنازل والجسد والحياة الآمنة، والحق بحرية التنقل والإقامة والهجرة، والاعتقاد، وممارسة الشعائر الدينية، وحرية الفكر والتعبير والإبداع وتداول المعلومات، والحق بالتنظيم والتجمع ،وحرية وسائل الإعلام وإصدارها، والحق بالملكية الشخصية والصحة والتعليم وغيرها، وربطها بالمادة الثامنة التي تنص على أن تكفل الدولة وسائل تحقيق العدل والمساواة والحرية………….ثم عاد وقيدها بحدود القانون، والقانون مصدره الأول والأساسي الشريعة السنية حسب المادة 219، وأيضا المادة 81 التي تنص (…….وتمارس هذه الحقوق والحريات بما لا يتعارض مع المبادئ الواردة في باب الدولة والمجتمع بهذا الدستور) وهي المبادئ التي تحدد هوية الدولة ودينها التي سبق مناقشتها، لينقض الخطاب مبدأ المساواة ومن ثم مبدأ المواطنة وبالتالي يقوض المرتكز الرئيس لمفهوم الدولة.
سابعا: دليل صواب الخطاب الذي اعتمده خطاب مشروع الدستور هو المقدس الخاص بجماعة واحدة من مكونات المجتمع المتعدد المتنوع، ولكل دليله المستمد من مقدسه الخاص به، فكيف يمكن إدارة حوار مجتمعي باعتماد خطاب يعتمد صوابه على مقدس والمقدس أصل ثابت ممتنع عن الحوار.
وبالخلاصة نستنتج من هذه القراءة أن خطاب مشروع الدستور المصري الجديد، يُعبّر عن خطاب سياسي قانوني متهافت، لتضمنه مجموعة تناقضات لا يستهان بها، ولاعتماده دليلا للصواب لا يمكن قبوله على المستوى العام.
من جهة أخرى تجاهل هذا الخطاب بوصفة خطابا مُعبّرا عن الحركة الإسلامية السياسية بطبعتها المصرية، ما سبق أن قبل من مفاهيم، وعمل على تضمينها لخطابه المعلن، كمفاهيم الحرية والديمقراطية، بالالتفاف على أول مبدأ من مبادئ فلسفة الديمقراطية وهو الاعتراف بالآخر وحقه بحماية وضمان حقوقه وحرياته، كما أخل بمبدأ المساواة أمام القانون الذي يؤسس لمفهوم المواطنة، وبذلك قدم نموذجا لمفهوم الدولة يتعدى فيها المعتقد الخاص بمؤسسة دينية أو بدونها، على مساحة المؤسسة العامة التي تمثلها الدولة، نموذج استفاد من الالتباس الذي يحمله مصطلح الدولة المدنية ذات المرجعية الدينية، ليعلن عن دولة دينية أحادية المذهب، فهل يكشف لنا هذا النموذج عن طبيعة إشكالية العلاقة بين الدين وبين الحرية؟








شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *