موسى عباس في روايته ” بيلان “:البداوة والتهجير.. وغبار الفرات



عبدالرحمن مطر *

( ثقافات )





تبدو رواية بيلان للكاتب السوري موسى رحوم عباس ، بمثابة شهادة أدبية توثق لحدث تاريخي ، جرى في الفترة الممتدة مابين منتصف الستينيات واواخر سبعينيات القرن الماضي،بما لذلك الحدث من تداعيات سياسية واجتماعية واقتصادية ، على جماعات بشرية ، موطنها التاريخي ، ضفاف الفرات في الشمال السوري .
1
يرى عباس في سيرة تلك الجماعات البشرية، ” منطقة كسرة مريبط ” الحقيقة الوحيدة في الرواية . لكنها الحقيقة الجوهرية باعتبارها الثابت / المكان . لكن أحداثا أخرى في الرواية هي ايضا حقائق، بتبدل الاشخاص والاسماء.فالغمر الذي داهم مناطق الفرات الاعلى ، بدءاً من تحويل مجرى نهر الفرات 1973 ، والتهجير السكاني نجم عنه ، وانقلاب 1970..كلها حقائق ز لتاتي الرواية ، كانها سيرة وطن ومجتمع ، في مرحلة ما ، ولذلك معطياته الهامة في السرد الروائي ، الذي اراده موسى عباس ان يكون معرفياً ، هادئاً على وقع حياة البداوة ، والقرى التي تتاخم السماء والقيظ والغبار ، في رتم مضجر الى حدّ السأم .



لكن القارئ لن يأخذه الملل وهو يقرأ ” بيلان عباس ” ، فالحدث الروائي ينساب بهدوء وسلاسة ، كحال الفرات اليوم ، يبوح بسرٍّ يشد القارئ بنهمٍ اليه ، لاكتشاف كنه العلاقات الاجتماعية وانعاسات الحالة السياسية ، وتواتراتها في المنطقة ، على الجماعات البشرية الراكنة الى نفسها، رغم جذورها الحضارية الضاربة في عمق التاريخ باعتبارها أول مستوطنة بشرية ، ومنشأ الزراعة والمدنية منذ العصر النطوفي الثالث، دون أن يشير الروائي الى ذلك ، إلاّ لماحاً ، حين يقول ان هذه الارض التي سيغمرها الفرات، ويهجّر أهلها الى المجهول ، هي اول أرض منحت البشرية القمح والرغبف ، وفي ذلك دلالة بالغة الأهمية .



” بيلان ” وادٌ يتوسط القرية ، ويقسمها جغرافياً ومذهبياً . حيث يشكل انتماء القرية الى طريقتين صوفيتين ، سبباً رئيساً للخلاف الدائم . وعلى جانبي هذا الوادي تجري أحداث الرواية التي تؤرخ للتحول الاجتماعي ، الذي طرأ على المنطقة جرّاء بناء سد الفرات ، وما نجم عن ذلك من آثار لاتزال تعاني من وطأتها منطقة الشمال السوري .
واذا كان د.عباس يتناول في بيلان سيرة اجتماعية ، ِفإن الموقف السياسي من سياسات القهر والقمع الذي انتجته الدولة الوطنية ، يبدو جليا في النص ، في حين يحمّل الكاتب بعض شخوص الرواية ، الاعتراض على دور الشرطة ،التي تملأ المكان أكثر من أي شئ آخر ، في ان ” التراخوما وحدها ، مستوطنة وحدها في المنطقة ، أكثر من الشرطة ” ! تلك إحالةٌ هامة ، سنجد لها اضاءات اخرى على دور الشرطة والمخفر في انقلاب 1970 ، والمظاهرات التي جرت في المنطقة ، موجدة ذلك الرابط بين ” الفاشيست والشرطة ” ، اضافة الى نهج القمع والقهر الذي اتبعته أثناء عملية التهجير القسري التاريخية ، وصولا الى تراجع السلطات المركزية ، عما يسمى المشروع الرائد لإسكان أهالي بيلان ، في مزارع نموذجية بديلة ، لتصبح تلك الجماعات البشرية ، ولعشرات السنين ، وقوداً لصراعٍ دفين مكبوت ، بين السلطات المركزية ، وبين العرب والأكراد ، حين قامت بتهجيرهم الى ريف القامشلي . وقامت بمصادرة الأراضي وإعادة توزيعها ، بعد إدماج العرب في مناطق الأكراد .



2


تعيدنا ” بيلان ” د.موسى عباس الى رواية ” المغمورون ” للأديب الراحل عبدالسلام العجيلي ، الذي تفرّد آنذاك بتناول حدث الغمر . وبيلان في واقع الأمر تقدم لنا صورة الحياة الاجتماعية والسياسية ، في منطقة مريبط قبل الغمر وصولاً الى التهجير ، وانتشار السكان في العشوائيات ، التي عمرت بهم وبمشكلاتهم ، وصولاً الى مقتل اهم شخوص الرواية ” حسينيو” .
يتناول عباس جملة من القضايا التي ارتبطت بتاريخ المنطقة : مجازر الأرمن ، بناء سد الفرات ، التحولات السياسية الوطنية والاقليمية ، إضافة الى انتشار الفقر والعوز ، والمرض والجهل .. والمخبرين .
وثمة إضاءات هامة ، مثل موقف “حسينيو” من كل شئ تحاول السلطة فرضه على الناس ، ومواقف المهندس صالح ، وعلاقته الأثيرة بميرنا ، واشاراته العجولة الى الماركسية والقومية ، بصورة لا يجنح فيها الى ابراز ابعاد أيديولوجية في النص السردي ، لكنه لايغفل الدور الايجابي لأدوار كل من الخواجة موريس ، والخال آرمين .
يُكثر عباس


في نصه الروائي ، من الاستهلالات المقتبسة من ماركيز ، ليدلل بها على أبعاد انسانية وايديولوجية ، نجح في الابتعاد عن تحميل النص السردي بها ، ليبقى بعيدا عن السقوط في فخ النص السياسي ، الذي صارت الرواية السورية تتسم به اليوم .
يكتب موسى عباس روايته بلغة بسيطة هادئة ، كمن يدخن سيجارة على ضفاف الفرات بشرود وذهول ..يمشي الهوينى في يوم طويل لا ينتهي ، لأن النص يطرح موضوعاته بشفافية رائقة ، ولغة جميلة بعيدة عن الحشو واللغوّ ، الذي يمكن ان ينال من الفكرة الجوهرية ، التي نعتقد أن الكاتب قد نجح في إيصالنا إليها . وهي بذلك تشكل إضافة جدية الى المشهد الروائي السوري الحديث .



موسى رحوم عباس – بيلان –دار بيسان للنشر / عمان2012
@


 


 * كاتب من سوريا


 الصور على التوالي للمؤلف عباس وللناقد مطر

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *