أ.د. عبد الرضــــا عليّ
( ثقافات )
ورود الموسوي تصوغ النصّ المفتوحَ باقتدارٍ وتمكّنٍ، فهي واحدةٌ من القابضاتِ على جمرةِ ما سُمّي بـ”قصيدة النثر” على نحوٍ مميّز، وهذا التميّز تفصحُ عنه مؤشّراتٌ عديدةٌ في المضمون، وأخرى في الشكلِ، مع أنّ الشكلَ والمضمون( كما ألمعنا إليهما في دراسات نقديّة سابقة) وجهان لعملةٍ واحدة.
في مجموعتها الشعريّة الثانية الموسومة بـ” هل أتى…! ” الصادرة عن سلسلة “الغاوون” الشعريّة قبل عام تقريباً منجزات فنيّة ولغويّة عديدة يمكن الوقوف عند بعضها وتشخيص هيكلة إدراكها الفلسفي لتلك النصوص بالآتي:
أولاً- تركّز الشاعرة على جعلِ صورها الفنيّة أقرب إلى دائرة الفنّ السردي منها إلى شعريّة التوليد والتداعي، وتتجلّى تلك الصور الفنيّة في مستهلِّ الكثير من نصوصها، وهذا يعني أنّها تُعنى عناية فائقة بصياغة الاستهلالِ لجعلهِ مدخلها المثير في فاعليّتها الشعريّة في الأداءِ والتوصيل، كما في المداخل أو المستهلّات الآتية:
• صامتٌ هو الجسرُ مثلَ قلبِ المدينة
لاأحدَ هناك إلّا هم
عزفُ ناي وحيد
وغريبانِ جاسَهما المكانُ سهواً.(ص:9)
• على سعفاتِ النخيلِ تحطّ ُ عذوقك اليابسة
وتسمعُ غثاءَ الرعاة. (ص:16)
• العطّارُ الذي باع نصفَ وجههِ للغبارِ
مات مختنقاً برائحةِ الكمّون.(ص:23)
• أحلامُها المنزوعة تُشبِهُ قلبَ الليل
فارغاً إلّا من أعقابِ السجائر
وزجاجات العابرين.(ص:33)
• في الليالي الماطرة
يعبرُ الوحيدُ مُنحنياً كجسرِ ذكرياتِه
لم يعُد ما يَسَعُ خطوتهُ الهرِمة. (ص:53) …وغيرها من المداخل.
ويلاحظُ أنَّ هذه المداخل قد أفادت من المخيّل السردي، ممّا يُشيرُ إلى تبادل المنفعة بين الفنونِ، لاسيّما فيما اصطلحَ عليهِ بـ”التقنية الفنيّة.”
ثانياً- تبدو ثيمة الموت في هذه المجموعة على نحوٍ مقصود، بوصفها قدراً مفروضاً على الخليقة، لكنّ الشاعرة في قصيدة ” بلا ضجّة” لا تتعامل مع الموت كونه لغزاً حارت الخليقة بمعرفة كنههِ، إنّما تصطفيه فتُأنسنهُ، وتطلبُ منه أن يكونَ رقيقاً عند زيارتِه لبطلةِ قصيدتِها التي أصرّت على إكمال ما كانت قد ألزمت نفسها به من عمل قبل مصاحبتِها له راضيةً مرضيّة :
يا من تلبَس حزنَ العجائز
وعباءاتِ الأرامل
خُذ بعضَ صُفرةِ الوجوه
لوّن بها سدرتَك
أيّها الموتُ العاري إلّا من الصراخ
وعويلِ الصّغار
دونّ ضجّةٍ وعلى خلافِ ما تريد
سأدوّنُ آخرَ سطرٍ من الكتابِ
وأمضي…
وقد أوردت الشاعرة لفظة “الموت” في اثنتي عشرةَ قصيدةً، فضلاً عن إيرادها في المدخل .⁽¹)
ثالثاً- في هذه النصوص تركيزٌ على تقنيتي المناجاة النفسيّة والسرد الوصفي، ويبدو أنّ الشاعرة حاولت أن توازن بين المعطى الدرامي المكتسب من الفنّ القصصي ، والمعطى الوصفي المكتسب من أحد الأغراض الشعريّة التي جوّدت فيها العرب قديماً وحديثاً.
في المناجاة النفسيّة (كما نزعم) خلاصةٌ لأفكار بطل النصّ، ومواقفه الحيويّة من الحياة، والوجود، وإظهارٌ لمعاناة الأعماق وهي تحاور ذاتها. ومن دون المناجاة لا تستطيع الذات الشاعرة أن تحقّقَ رؤاها الإبداعيّة، وإذا شئنا أن نسمّي الأشياء بمسمّياتها فعلينا أن نوكّد أنّ الدراما قد تتحقّق في المناجاة أكثر ممّا تتحقّق في غيرها من التقنيات ،ففيها تتداخل( في الأعم الأشمل) تقنيات اخرى كـ” التداعي والارتجاع و السرد الوصفي ” على نحوٍ من التماهي والانصهار لتصبّ في بوتقة واحدة يكون تأثيرها فاعلاً في متلقّي النصّ، كما في قصيدة ” هل أتى…!” :
قبل أن تُقلعَ باتّجاه الخريف
قبل أن تَسقطَ سعفاتُك الصفر
وقبلَ أن تسقطَ ثمرةٌ وحيدةٌ لم يلقحها الفقر
تغلق جيوبَ موتِك
تُحكم شَدَّ حزامكَ تحسّباً للحجارةِ ومناجلِ العابرين…
تقرأ سورةَ هل أتى
وتنسى أن الإنسان لَفِي خُسر…
ولعلّ المتلقّي الكريم يُدركُ أنّ الشاعرةَ عمدت في نهايةِ المناجاةِ إلى الاقتباس الإشاري (وليس النصّي) من آيتين كريمتينِ من الذكرِ الحكيم هما:الآية رقم1 من سورة الإنسان في قوله تعالى: { هل أتى على الإنسانِ حينٌ من الدهرِ لم يكن شيئاً مذكورا} والآية رقم2 من سورة العصر في قوله تعالى :{إنَّ الإنسان لفي خُسر} وكلا الآيتين تتحدّثانِ عن الدهرِ والإنسان معاً.
ويبدو أنّ الشاعرة تميلُ إلى الدراميّة أكثر من ميلها إلى الغنائيّة الحالمة، لهذا كانت تقنية المناجاة قد شكّلت نسبةً أعلى من باقي التقنيات، ويمكن ملاحظة ذلك في : “غرباء” و “حقيبة شوق” و “قيامة” و “فقراء” و “راحلون” و “صدى” وغيرها من النصوص.
رابعاً- ثمّة تتابعٌ لغويّ حرصت الشاعرة على تكوينِهِ عامدةً، ونعني به قيامها بجعلِ اللفظين المكرّرين، أو المتجانسين، أو المشتقّين من مصدرٍ واحدٍ يترادفان في الجملة الشعريّة الواحدة ليكوّنا نوعاً من الإيقاع الداخلي المعوّض عن الإيقاع العام ، كما في الأمثلة الآتية:
• يموتُ الموتُ فينا ولن نَهرَم…..ص/13.
• كيما تعودُ الحقيبةُ ملآنةً بالحنينِ وتُخفي حنينَكَ… ص/18.
• هل يعشقُ سرَّ الجوعِ في الجوعى ليسمعَ ناياتٍ تئنّ ُ من بَردِ القصب؟…ص/29.
• الشيءُ يُشبهُ شيئه….. ص/29.
• لا وقتَ للوقتِ……….ص/39.
• تعبَ المساءُ أتعبَ أحداقنا التعبى….ص/42.
• يُنازع بالموتِ موتَه….ص/43.
• فتنزوي خجلاً لا تُري وجهَ وجهِكَ…..ص/44.
• وصوتي؟ هل عادَ يذكرُ صوتَه؟….ص/59.
خامسا- بعض الجمل الشعريّة اعتمدت على ترتيب السلسلة التي عُرفت في الشعر الشعبي بحيث يبدأُ كلّ سطرٍ شعريّ بالمفردة عينِها التي وردت في السطر الشعري السابق، لكنّ الشاعرة لا تطيلُ في ترتيبها كما كان ينبغي، إنّما كانت تقطعها على نحوٍ مفاجئ، ويبدو أن ما في السلسلة من تكرار وموسيقيّة هو الذي قاد الموسوي إلى هذا الترتيب المتسلسل في الجمل، كما في الأمثلة الآتية:
• الصوتُ يُشبهُ اللحن
اللحنُ يُشبهُ النشيج
والنشيجُ بحّةُ ذاك الناي….ص/10.
• المدينةُ موتٌ
والموتُ بابٌ حنّتهُ يدُ العجائزِ بالنُذور
والنذرُ مائدةُ الفقير
والفقرُ كافر…ص/37.
• الليلُ رَبّ ُ الفقرِ
والفقرُ رَبّ ُ الجوعِ
والجوعُ رَبّ ٌ بلا رَبٍّ يحجونَ إليهِ……ص/43.
سادساً- اهتمّت الشاعرة أيضا بتكرارِ بعضِ الألفاظ، أو الأفعال، أو التراكيب لتكوين جرسٍ موسيقيّ أشبه ما يكون بالقوافي الداخليّة في بعض نصوصها النثريّة تعويضاً عمّا خسرته بعضِ صورِ المجموعةِ ولوحاتها من إيقاعات الأوزانِ وقوافيها،كما في تكرارِها للجملة الفعليّة “نسيتَ” في قولها على غير توالٍ:
نسيتَ أنّ الماءَ جفَّ في وجهِكَ الجنوبيّ
نسيتَ أنَّ قناطرَكَ جذوعُ نخلٍ أدمت الحُفاة
نسيتَ أنّكَ نسيتَ على القنطرةِ أسمالك قبل أن تغادر
ونسيتَ أنّكَ من فصيلةِ المُعمِّرين أحزانهم…. ص/17.
وكما في تكرارها لظرف الزمان “قبل” في قولها:
قبلَ أن تُقلعَ باتّجاه الخريف
قبلَ أن تسقطَ سعفاتُك الصفر
وقبل أن تسقطَ تمرةٌ وحيدةٌ لم يلقّحها الفقر… ص/17.
وكما في تكرارِها لمفردةِ التوجّعِ ” آهٍ : اسم فعل مضارع” وحرف الجر “من” في قولها:
آهٍ من الشوقِ
منّا
آهٍ من البحر في عينَيكَ من شوق المسافات بين الموانئ والقرار.
آهٍ من الُبعد مثلَ انجمادِ الصوتِ في الحنجرة…ص/20.
وكما في تكرارها لجملة” لا شيء يشبه ” في قصيدة ” سبحانك” :
لا شيء يُشبهنا
لا شيء يُشبهُ فهمَنا
لا شيء يُشبه اللغة السقيمة فوق هاتيكَ المنابر…ص/28
وكما في تكرارها لكلمة التنزيه المصدريّة ” سبحانَ” الملازمة للإضافة، كما في قولها:
سبحانَ كلِّ أشيائكَ التي تزاحمَ ضدّها
سبحانَ كلِّ ما مرَّ من فيضِ الكلام أعلاهُ
سبحانَ كلِّ أشيائكَ التي لا تُشبهك…ص/30.
وكما في تكرارها لمفردة ” دونــَ(ما) في قصيدة “صدى” :
عبروا دونَ ضجّة أسمائهم
دون اختزال
دونما شيء مثير
دونما إيماءة توشي بطيفٍ أو إياب…ص/61.
سابعاً- النصوص المفتوحة (أو قصائد النثر) لا تكترث بالإيقاعِ العام، أو بما تحقّقه التقفية من سحريّةِ الأداء الصوتي، لأنَّ معظمَ كتّاب هذه النصوص يضيقون ذرعاً بالأوزانِ الخليليّة إمّا عن جهلٍ بها وبالتقفية، أو إمعاناً في جعلِ البون شاسعاً بينها وقصيدة الشطرين،أو قصيدة التفعيلة. لذلك تراهم حريصين على إحداثِ تعويضٍ موسيقيٍّ هامسٍ يتمثّلُ في الإيقاعِ الداخليّ؛ وهو الإيقاعُ الذي تُحدثُهُ التجمّعاتُ الصوتيّة المتجانسةُ أو المتماثلةُ، أو تكرار بعض المفردات والجمل، أو اللجوء أحياناً إلى التدوير السائب.
غير أنَّ الفاحصَ الذكيَّ لهذه المجموعة يلاحظُ أنَّ الموسويّ مالت فيها إلى إيقاعِ الكاملِ المستخدم في شعرِ التفعيلةِ، وهو ميلٌ يُشيرُ إلى أنَّ الشعرَ قرينُ التنغيمِ، وانَّ الحاجةَ النفسيّةَ إلى بعضِ الموسيقى هي أفضلُ للنصوصِ من خلوِّها منها، لأنّها ستكونُ كالصحراءِ الجرداءِ من الخضرةِ السندسيّةِ وظلال الشجر.
إنّ ميل ورود كانَ إلى تفعيلة الكاملِ، سواء اكانت التفعيلة صحيحة (متَفاعِلُنْ= ///0//0) أم كانت مضمرة (متْفاعِلُن = مُستَفعِلُن = /0/0//0)⁽²⁾ أم كانت مرفّلة (مُتَفاعِلاتُن = ///0//0 /0 )⁽³⁾ أم كانت مرفّلة مضمرة (مُتْفاعلاتُنْ = مُسْتَفعلاتُن = /0/0//0 /0) ، أم كانت مذيّلة مضمرة ( مُسْتَفْعِلان = /0/0//0.)⁽⁴⁾ كما في قولها في قصيدة” فقراء ” على غيرِ توالٍ :
الموتُ ينهشُ باللحومِ بلا اكتراثٍ
مُسْتفعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلاتن
فقراءُ يا أمّاهُ نأكُلُ لحمَ موتانا ونشربُ من دماءِ النازحين
مُتًفاعِلن مُسْتَفعِلُن مُتَفاعِلُن مُسْتفعِلُن مُتفاعِلُن مُسْتَفعِلان
يتناقلُ الفقراءُ همسَ حواسِهمْ
مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتفاعِلُن
كم يعشقُ الفقراءُ سرَّ الشائعاتِ
مُسْتفعِلن مُتَفاعِلُن مُسْتَفعِلاتُنْ
وكما في قولِها في قصيدة” صدى” على غيرِ توالٍ ايضاً:
مَسَحَ النهارُ جُفونَهُ تعباً ليخلُدَ للرقادِ
مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلاتُن
كيما أرى وجهي بمرآةِ السنينْ
مُسْتَفعِلُن مُسْتَفعِلُن مُسْتَفعِلان
أم أنَّ في لُغةِ التذكّرِ مُوجِعٌ نَبشُ الصدى؟
مُسْتَفعِلُن مُتَفاعِلُن مُتَفاعِلُن مُسْتَفعِلُن
نُوديتُ أنْ بُلِّغتِ أطرافَ اليبابْ…
مُسْتَفعِلُن مُسْتَفعِلُن مُسْتَفعِلان
إنّي أراهنُ موتهمْ منذُ التقينا هل لعودَتِهمْ محلّ ُ؟
مُسْتَفْعِلن مُتًفاعِلُن مُسْتَفْعِلُن مُسْتَفْعِلُن مُتَفاعِلاتُن
ولعلّ هذا الميلَ إلى موسيقى التفعيلة الذي انسابَ من أسطرِ هذه النصوص المفتوحة سيتطوّر في قابل الأيّام لينتجَ لوحاتٍ من شعرِ التفعيلةِ قائمة ً بذاتِها تساهمُ في تحفيزِ ذائقةِ كتّاب قصيدة النثر ليلتفتوا إلى ما في الموسيقا من أداءٍ سحريّ مثير، وأثرٍ سايكولوجي على النفس، فضلاً عمّا فيها من نغمٍ يحتاجهُ الإنسان بوصفهِ جزءاً من هذا الكون ” المبني بناءً موسيقيّاً ” على وفقِ رأي فيثاغورس.
تحيّة لذاتِ ورود الموسوي الشاعرة وهي تفلسفَ مواقفها الحيويّة على هذا النحوِ من الإبداعِ الرصين ، وتهنئةً لها بمنجزِها هذا ، متمنّين أن تكونَ عواطف نصوصِها القادمة أكثرَ قرباً من غنائيّة الروح، وأكثر قدرةً في إثارةِ عواطف القارئ وجدانيّاً (في كلّ الأمكنة والأزمنة)،وصولاً إلى توسيعِ دائرتِها الإنسانيّة، لأنّ “الفردي وحده هو الذي يثير الفن عندما يكونُ فيه شيء يعبرُعن العام فيعكسه” ⁽⁵⁾
هوامش
(1) تُنظر القصائد الآتية : “غرباء” و “هل أتى…!” و ” رائحة الكمّون” و ” قيامة” و ” جوع” و ” فقراء ” و “راحلون…” و ” المدفنة” و ” مطر” و ” متاجر العزلة” و صدى” فضلاً عن المدخل.
(2) الإضمار زحاف، وهو تسكين الحرف الثاني في ” متَفاعِلُن” فتصير ” متْفاعِلُن” بسكون التاء، وتنقل إلى ” مُسْتَفعِلن” المساوية لها بالحركات والسكنات.
(3) الترفيلُ علّة، وهي زيادة سبب خفيف على ما آخرهُ وتد مجموع فتصبحُ التفعيلة ” مُتَفاعِلاتن”، على وفق التوضيح الآتي:
مُتَـفاعِلن + تن = مُتَـفاعِلُن تن ، وتحوّل إلى ” مُتَفاعلاتن ” المساوية لها بالحركات والسكنات.
(4) التذييلُ علّة، وهي زيادة حرف ساكن على آخر التفعيلة، ويمكن أن نرمز للحرف الساكن الثاني إمّا بسكون (0 ) أو نقطة(.) على وفق التوضيح الآتي:
مُتَفاعِلُن + ن = مُتفاعلان = ///0//00 (المساوية لها بالحركات والسكنات) فإذا دخلها الإضمار( وهو تسكين التاء) أصبحت:مُسْتفعِلان =( /0/0//00)، أو( /0/0//0. ) بجعل رمز السكون الثاني نقطة.
(5) موجز تاريخ النظريّات الجماليّة، 446، تعريب باسم السقّا، دار الفارابي، بيروت 1975م.
* ناقد من العراق يعيش في بريطانيا
الصور على التوالي للشاعرة والكتاب والناقد