ممدوح فراج النابي
عَبْرَ مسيرة الرِّوَايَّة الزمنية، ظلت الرِّوَاية وفيَّةً لعنصرِ الخَيالِ، وفي المقابل ظلَّت صورة الرِّوَايَّة والرِّوَائي معاً لدى المتلقي، مرتبطة بالتَّسْلِيَّة، كما بقى ولاء الرِّوَايَّةِ للخيال – وهو العنصر الذي قامت عليه – وهي تسرد تاريخاً، فالخيال لم ينفصل عن السَّرد، بل رَاحَ يرمِّمُ ثغرات وفجوات التاريخ.
وفي المقابل لم يكن الوصف الذي لَحِقَ بالرِّوَائي أو الوظيفة التي أرسى بها هذا الجنس، عَامِلَ هَدْمٍ بقدر ما كان عَامِلَ بناءٍ، فتعدَّدت الوسائل التي زادت من رَحَابة الخيال، وجذب جمهور المتلقي. كما سعى الكثيرون منهم لتجاوزَ الوظيفة التي التصقت بالرواية عند ظهورها كنوع من التَّسليّة إلى وظيفة تنتمي إلى حقول معرفية أخرى كالمعرفة والتوثيق، والمثال الواضح لهذا رواية ‘العطر’ للألماني ‘باتريك زوسكيند’ التي صدرت عام 1988، ترجمها إلى العربية نبيل الحفار، وقد نقلت كاتبها إلى مصاف الكِبار بعد ترجمتها إلى أكثر من لغة، وفي ذات الوقت غيَّرت من المفهوم النمطي عن الرِّوَاية، بما قدمته من معلومات دقيقة تكاد تكون مرجعاً في الروائح وصناعة العطور.
-1-
عبر أربعة أجزاء متفاوتة بين الطول والقصر، يتتبع الرَّاوي حياة بطله ‘جان باتيست غرنوي’ منذ ولادته وسط القمامة، أمام عربة السَّمك من أمّ قاسية كرَّرت الفعل أربع مرات من قبل، وفي المرَّة الأخيرة تمَّ إعدامها، ثم رفضه من قبل المرضعات لنهمه في الرضاعة وعدم وجود رائحة له كبقية الأطفال، إلى أن يعهدَ به ‘الأب تيرير’ إلى ‘مدام غايار’ الشَّابة، المفتقدة لحاسة الشَّمِّ وأيَّة عاطفة مهمة، ثم عمله عند الدَّبَاغ ‘غريمال’ تاجر الجلود، حتى التحاقه بتاجر العطور بالديني، وظهور مواهبه الحقيقية في مزج العطور وتركيبها، حتى أنه بدا قادراً على تزويد عطاري فرنسا بالعطور دون أن يكرِّر نفسه أو يبتكر شيئا غير ذي قيمة، فتبدأ مرحلة الروائح الطيبة والشُّعور بالحرية، وانعتاقه عن البشر، بعدما زكمت أنفه روائح باريس وأزقتها المختلطة بالغائط، وفضلات الأسماك وروث البهائم، وهي أَشبه بمرحلة التوحُّد مع الذات، فعلى قمة بركان ‘بلومب دو كانتال’ المنتصب على ارتفاع ألفي متر عاش حياة الإنسان البدائي، يتغذى على الأعشاب والأوراق، والحيوانات الميتة، وصولاً إلى مدينة ‘غراس’ مركز إنتاج وتجارة مواد العطارة والعطور من مختلف أنواع الصَّابون والزيوت وفيها يبدأ غرنوي في تطبيق ما تعلَّمه عند العطار بالديني، بعد التحاقه بالعمل لدى مدام ‘أونوريه أرنولفي. فقد بدأ بتطوير أدواته وتقنياته باستخراج روائح ما لا حياة فيه، كالحجارة والمعادن والزجاج والماء. وقد نجح فيما فشل فيه (من قبل) عن طريق التقطير، باستخدامه طاقة الدُّهُون القويَّة على الامتصاص، فاصطاد الذباب الشِّتوي واليرقات والجرذان والقطط الصَّغِيرَة، يغرقها في الدُّهن السَّاخن، وكان في الليل يتسلَّلُ إلى الاسطبلات يحلِّلُ البقر والماعز والخنازير الصغيرة. ومن الحيوانات تسلَّل بحذر شديد نحو البشر، وقام بتجريب أشكال عديدة للحصول على روائح البشر كأن يضع قطع قماش مغمسة بالزيت أو بالدُّهن، تحت الكراسي في أحد الحانات، وبعد مضي أيام يقوم بجمعها ويتفحصها، وكرَّر الأمر في الكاتدرائية، وكانت النتائج خليطاً غير متلائم من ‘عرق المؤخرات ودم الحيض وطيات الركب الرطبة والأيدي المتشنجة ممتزجاً بزفير آلاف الحناجر المشاركة في الترتيل وبدخان البخور المرِّ المقبض'(ص214)، ثم واصل عملية الفحص، ففي مشفى الرَّحمة ظفر بأول رائحة فردية بعد أن تمكَّن من الحصول على شراشف سرير لمريض كان مصاباً بالسُّلِّ، لكن التَّجربة الأكثر إثارة هي إقناعه شحاذة مقابل فرنك واحدٍ بأن تستلقي عاريةً ليوم كامل مضمَّدَة في أقمشةٍ مُغَمَّسَة بمختلف أنواع الزيوت والدُّهون، وبعدها، تسلَّل بحذر شديد نحو البشر، لتجريب أشكال عديدة للحصول على روائح البشر ومنها بدأ الوجه الثاني وجه القاتل، وفي مدينة ‘غراس’ بدأت الأخبار تترى عن وجود جثة لفتاة عارية، ومقصوص شعرها، وملابسها مختفية، ولأنَّ الفتاة جميلةٌ وغير مغتصبة، زاد الرعب والغموض لغياب سبب القتل.
-2-
عبر هذه الرِّحْلَة تظهر التحوّلات في شخصية البطل، وهذه التحوّلات تفسِّر لنا سببَّ عودته إلى موطنه الأول ليقدَّمَ نفسه لآكلي البشر. المسار الأول في هذه التحولات، هو حالة الرفض التي قوبل بها من الآخرين، فهو لديه قابلية للحياة إلا أنَّ الآخرين لا يريدون له الحياة، لذا يمكن وصفه بأنَّه شَخص يقاوم الموت، قاومه وهو طفل يوم أن قذفته أمه تحت الطاولة ليكون مصيره كإخوته الأربعة، فقاوم بصراخه الذي نبّه إلى وجوده، فَاُلتقط، ثم قاومَ مرَّة ثانيَّة عندما عافته المرضعات، فسخّر له القدر ‘مدام غايار’ التي فقدت حاسة الشَّمِّ من ضربة أبيها بعد طلاقها بقضيب المدفأة فوق جذر أنفها، كما نجا من الحصبة والزَّحار، ومن جدري الماء والكوليرا، ومن سقوطه في بئر بعمق ستة أمتار ومن اندلاق الماء المغلي على صدره. ومرة ثالثة قاوم رغبة الأطفال في كتم أنفاسه. ومرة رابعة قاوم بحنكة فظاظة الدباغ ‘غريمال’، فلم يغضبه ليتجنبَ ضربه، وها هي المرة الخامسة يقاوم الموت الذي أكدَّ الطبيب أنَّه قادم لا محالة، فهو دون أن يعرف أنه ‘عاش شديد المقاومة كالبكتريا المنيعة'(ص28)، وبينما بالديني يتحسَّر ويتخيَّلُ نهايته المفجعة بعد رحيله، يعود الأمل على هيئة سؤال من غرنوي، فيسأل: ‘هل هناك طريقه أخرى غير العصر والتقطير لاستخلاص رائحة جسم ما؟'(ص124)
المسار الثَّاني يظهر في بحثه عن الهويَّة المفتقِدَة ، لذا صَعَدَ جبل بركان ‘بلومب دو كانتال’ ليس كمتصوفٍ أو للتعرُّف على الإله، وإنما للتوحُّد مع الذَّات، بعيداً عن رائحة البشر، وعلى مدار سبع سنوات كان مهموماً بتكوين مملكة غرنوي، التي أسسَّها في خياله، التي تتكوَّن من غرنوي العظيم، وشعبه البسيط من الروائح، يرقص ويحتفل في الأسفل. الشَّيء الوحيد الذي زَلْزَّلَه وَلَفَظَهُ من هذه المملكة الوهمية، أنه في ذات يوم تعرَّف على رائحة جسده، التي عجز الآخرون عن معرفتها وبسبب انعدامها رفضته القابلات من قبل، تعرَّف عليها، فهي أشبه برائحة الضَّبَاب، لكن مع هذا لم يستطعْ أن يشمها، ومن ثمَّ ركبه الذُّعر ولأول مرّة ينتابه شعور بالخوف من عدم تيقنُّه من معرفة نفسه.
المسار الثالث يتمثَّلُ في الرغبة في الامتلاك، ليس امتلاك الأجساد بل امتلاك الرَّوَائح، منذ أنْ بهرته رائحة فتاة شارع ‘دي ماريه’ ذات الشَّعر الأحمر، فهَامَ خلفها، ولم يشعر بالارتياح إلا بعد أن تملَّك رائحتها، ثم ما واصله بعد ذلك من استخراج عطره الخاص من أجساد الفتيات، والذي على إثره قتل حوالى خمس وعشرين فتاة، استخلص من أجسادهن تلك الرائحة التي صار بها محبوباً من قبل الآخرين كتعويض لحالة الرفض والنفور من غياب هويته التي لازمته، وأرَّقته كثيراً.
المسار الرابع، ففي أثناء محاكمته وبعد صدور القرار بإعدامه، بعد أن فشلوا في العثور على معلومات بشأن دوافع جريمته، وما تبع القرار من صيحات الغضب من الجماهير وأهالي الضحايا خرج عليهم ‘غرنوي’ مقيَّداً بالسلاسل، وما أن ينثرَ أريجَ عطره، حتى حدثت المعجزة، فقد تبدَّلت حالات الغضب منه إلى تعاطف معه واستنكار أن يكون هذا الشخص الضعيف هو القاتل، كما تحوَّلت السَّاحة إلى حفلة مجون باخوسية لم يرَ العالم مثيلاً لها منذ القرن الثاني قبل الميلاد والأغرب أن ‘ريتشي’ والد الفتاة الأخيرة المقتولة، يعتذر له ويقول في تعطُّف ‘سامحني يا بني، يا بني العزيز، سامحني'(ص275)، ثم اتجه إلى باريس وأرض المقبرة حيث السَّفَلة من جميع الأصناف ينتشرون، وما أن ظَهَرَ بينهم بعد أنْ سَكَبَ عطره، وانتشر أريجه حتى التف حوله المجتمعون من أكلة البشر ثم هجموا عليه كل وَاحدٍ يُريدُ أنْ يحصلَ على جزءٍ منه، وخلال دقائق كان الملاك (كما ظنوه) قد اختفى عن وجه الأرض دون أدنى أثرٍ.
-3-
يُقدِّمُ لنا المؤلف عبر أحداث الرِّوَايَّة التي تدور في القرن الثامن عشر في فرنسا، سيرة بطله بالتوازي مع التأريخ لفرنسا في هذه الحقبة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وجغرافياً. فالرِّوَايَّة أشبه بسيرة إنسانٍ ومكان معاً، حيث يتتبع بالوصف التضاريس الجغرافية للأماكن التي يمرُّ بها ‘غرنوي’، وصولاً إلى مدينة ‘غراس’، أو سلسلة جبال سنترال في منطقة ‘أوفرج’،وقد تصل دقة الوصف إلى التفرقة بين تكوينات الجبل الصخري ذي اللون الرمادي الزئبقي والنتوءات الصخرية البنية اللون، التي تشبه الأَسنان الفاسدة، عن الأشجار المحترقة المتفحمة، ثم بعد ذلك مسالك وطرق ‘أنطوان ريتشي’ في رحلة هربه بابنته من يدِّ القاتل، وسط الهضاب والسُّهول، وتحديد المسافة بدقة بين القرية التي يصل إليها والمدينة التي تركها خلفه، وكذلك الحياة الاجتماعية في فرنسا آنذاك، من أزيائها، وعادات نبلائها، وزيجاتها، ووصف المنازل والأطعمة والحِرَفِ التي يمارسها السُّكان، وأجورهم عنها. لم يترك شيئا إلا ذكره، كتعداد سُكان باريس الذين وصلوا إلى ما بين ستمائة وسبعمائة آلاف إنسانٍ تزدحم بهم الشَّوارع والسَّاحات. واقتصادياً كالمعاملات التَّجارية القائمة في معظمها على المساومة، كما في مساومة ‘الأب تيرير’، مع المرضعة ‘جان بوسي’ عندما أراد أن يتركَ لها الطفل غرنوي، وما تمَّ بعد ذلك مع ‘مدام غايار’ والدباغ غريمال، ثم ثالثة مع العطار والدباغ غريمال. وفي النِّهاية مساومة غرنوي وصاحب الأسطبل الذي نام عنده قبل جريمته الأخيرة. ومنها مراعاة تجار العطور لمسألة توازن السُّوق والإغراق، وتأثير الحروب الدائرة آنذاك على التجارة على نحو ما فعلت الحرب بين انجلترا وفرنسا. لكن الجديد بحق هو المادة الثَّريَّة عن أنواع الرَّوَائح المختلفة من رائحة الطفل الوليد، إلى رائحة الأخشاب، إلى رائحة المني، وغيرها من الرَّوَائح التي ندركها ولا نأبه بوجودها، ودروب هذه الصِّنَاعة، صناعة العطور، وأدق المعلومات عن مراحلها واستخلاص الرَّوَائح العطرية عبر التقطير، أو النقع، فنصبح بهذا أمام وثيقة مهمة في التاريخ والجغرافيا والاقتصاد والحياة الاجتماعية، وطرائق صناعة العطور، والروائح المختلفة في هذه الفترة من القرن الثامن عشر.
-4-
جاءت حياة غرنوي، على لسان راوٍ عليم، يتدخل في بعض الأحيان، حيث يوجِّه المتلقي أو بالربط بين الحدث الذي يسرده، وآخر شبيه به في زمن آخر، معتمداً على استبطان النفس الدَّاخلية، متجنِّباً الحوار الخارجي إلا فيما ندر، متنقلاً بين أماكن عدِّة، واصفاً معالمها، من شوارع وأنهار، ومبانٍ، وهضاب، وجبال، متخذاً من الزمن الواقعي خلفية للأحداث. هكذا جاء بناء الرواية عبر سرد متلاحق، ومتواصل، رغم الفواصل الشكلية كتحديد الأجزاء، لكن هذه الفواصل الشكلية هدمها تواصل البنيات السردية عبر الأرقام المتوالية، التي وصل عددها إلى إحدى وخمسين فاصلة رقمية. أقام الراوي بناء روايته عبر ثنائية الموت والحياة، وهي جوهر الحياة، فحياة غرنوي دائماً مرتبط بموت، وكذلك مراحل تطوّر وعيه بصناعة العطور، فمنذ ولادته جاءت حياته مقابل إعدام أمه، وكذلك انتقاله من مؤسسة’مدام غايار’ إلى غريمال، بموت الأول، ونفس الحال بعد انتقاله إلى بالديني، مات غريمال بعد أن سقطَ في النَّهرِ وهو ثمل، وانتقاله إلى الجبل بعد وفاة بالديني بعد انهيار الجسر، وفاة الماركيز بعد انتقاله إلى غراس. نعم أنه يرحل أولا ثم يحدث الموت، لكن المعنى المستقى من هذا أنَّ كلَّ مَرْحَلة جديدة، تقوم على وفاة المرحلة السابقة، وكأن الحياة بصفة عامة لا تنبني إلا بهذه الفلسفة، والتي اكتملت ذروتها عندما نشر أريج عطره يوم المحاكمة، فتحوَّل الغَضَبُ إلى حُبٍّ والرَّغْبَةُ في الانتقامِ إلى مُسَامَحةٍ واعتذار، والجَدُّ إلى لهوٍ وعبثٍ.
( القدس العربي )