كتابة الحكاية الفلسطينية روائيا

كتابة الحكاية الفلسطينية روائيا

إبراهيم نصر الله

في أكتوبر عام 2011 كنت مدعوّا مع عدد من الفنانين والكتاب الفلسطينيين لاحتفالية بأدب فلسطين وفنونها في النرويج، وكم كان غريبا، أن بعضنا يكتب منذ ثلاثين سنة، لكنه لم يسبق أن التقى بزميلته الكاتبة الفلسطينية أو الفنان الفلسطيني من قبل، فكل منا يعيش في مكان ما، بعيد، لا يتيح اللقاء. وعندما فوجئت بموسيقي أحبه، كنت التقيته من قبل، كان قد مر على لقائنا الأخير 23 عاما!
كل منا جاء بجنسية مختلفة، فهذا أردني وذاك بريطاني، وآخر أمريكي، وآخر يحمل نصف جواز سفر، وآخر بوثيقة.
بعضنا وصل عبر أربع محطات، برية وجوية، وبعضنا لم يصل إلى أوسلو إلا بعد أن تسلل عبر أنفاق غزة.
كل منا كان يحمل حكاية مختلفة، متقاطعة، أو متوازية، لكن الحكايات كلها، كانت تتجمع لتصبح حكاية واحدة، هي حكاية فلسطين.
حدثتنا إحدى المشاركات، عن أول وفد شاركت فيه منذ سنوات طويلة، كان وفدا للأطفال، يسافر إلى أمريكا، للمشاركة في مؤتمر للطفولة.
قالت، حدث وأن وصلنا وعدد من الوفود في وقت واحد.
سأل رجل الأمن الوفد الأول: أنتم من أين؟
– من مصر.
– تفضلوا. قال لهم. وأنتم؟
– نحن من كينيا. تفضلوا قال لهم. وأنتم؟
– نحن من استراليا.
– تفضلوا. وأنتم؟
– قلنا من Palestine.
– من باكستان؟ سأل. فضحكنا
– بل من Palestine.
في آخر الأمر، اختصر الحوار وقال: تفضلوا، وبقينا نضحك.
حين وصلت الفندق، تقول الصديقة القادمة إلى أوسلو، وجلست مع نفسي، بدأت أبكي لأن أحدا لم يعرفنا!
***
حين كنت صغيرا، في الخامسة من عمري، لم تكن المدارس قد بنيت في مخيمات اللاجئين. لم يكن هناك سوى الخيام، وبالطبع، كانت غرفة الصفّ خيمة. لم تكن هناك مقاعد، وبالطبع، كان علينا أن نجلس على الأرض، وكان هناك شتاء، وبالطبع كان علينا أن نجلس على أرض طينية، ولم تكن هناك كتب، وبالطبع، كان على كل خمسة أو ستة طلاب الاشتراك في كتاب واحد.
في تلك الأيام البعيدة، حلمت أن يكون لي كتاب، كتاب لي وحدي. ولكن، كان عليّ أن أنتظر طويلا ليكون لي هذا الكتاب. وبعد سنوات طويلة اهتديت إلى كتب من نوع آخر، وأحببتها، اشتريت النسخ الشعبية لروايات مثل: أحدب نوتردام، كوخ العم توم، الآمال الكبيرة، البؤساء، وآلام فارتر.
كلها أغرقتني بالدموع، ولكنها جعلتني أظن أن العالم كلّه يعيش مأساة تشبه مأساتنا! جعلتني أظن أن العالم كله حزين مثلنا! وأن هذا الوضع هو الوضع المشترك للبشرية! وهكذا بدأت أتعاطف مع كل شخصيات تلك الكتب، وأنا أحسّ أنني على استعداد لكي أخوض معركة من أجل كل واحدة من هذه الشخصيات، لو صدف وأن أصبحت من جيراننا!
كبرت، واكتشفت أن العالم ليس كذلك، فما دام هناك مظلوم فهناك ظالم، ومادام هناك جائع فهناك متخم، وما دام هناك بلد واقع تحت الاحتلال، فهناك قوة احتلال، وما دام هناك مهجَّر، فهناك وطن خلفه.
استدرت لأبحث عن ذلك الوطن، فبدأت الكتابة.
لم تكن تلك الكتب وحدها، هي التي فتَّحت عيني، بل الواقع الذي أعيش أيضا.
كنا وأسرتي، وكل شعبي، في خمسينات اقرن الماضي، نعيش في نقطة الصفر، منتزعين من كل ما كان لنا: البيت والحقل والشجرة والشارع والنهر والبحر.. منتزعين من كل تلك الأشياء الطيبة التي تُسمّى: الوطن.
حين أستدير لأنظر خلفي اليوم، أكتشف أنني ولدت بعد ست سنوات من تهجير أبي وأمي من وطنهما، وحينما كنت في الثانية، حدثت مذبحة كفر قاسم، وحرب 1956، وفي الثالثة عشرة حرب حزيران التي كانت سببا في احتلال ما بقي من أرض فلسطين، ولما كنت في السادسة عشرة، وقعت حرب أيلول الأسود، فتهدم بيتنا وكنت على وشك أن أكون واحدا من القتلى…
بعد ذلك عشت أكثر من سبع حروب وعشرات المجازر!
ذات يوم قلت للجمهور إيطالي: كنت أتمنى أن أؤرخ حياتي بقصص فتيات أحببتهن، لا بالحروب التي كانت تشن علينا بمعدل مرة كل ست سنوات، فتأخذ أطفالنا للموت، بدل أن نمضي بهم فرحين إلى اليوم الأول من السنة الأولى إلى مدارسهم.
حين سافرت للعمل لأول مرة، لإعانة أهلي، مضيت إلى الصحراء في الجزيرة العربية، وهناك رأيت أي بؤس يعيشه الناس في تلك القرى البعيدة، حيث لا ماء ولا كهرباء ولا شوارع؛ لا شيء سوى غرف مدرسية من القش وطلاب يجلسون على الأرض، وملاريا وسلّ يحصدان أرواح طلبتي وزملائي المدرسين!
أي كرة أرضية هذه؟!
كان علي أن أستدير لأبحث عن ذلك الوطن بقوة أكبر، فبدأت بكتابة روايتي الأولى (براري الحُمّى)، لا عن فلسطين، بل عن حياة هؤلاء المعذبين في الأرض.
أدركت عذابات الناس ففهمت عذابي أكثر.
عدت إلى المخيم ثانية لأواجه غربتي وأقاتلها.
في الكتابة اتسع العالم، وفي القراءة تعدد، لكن القيم الكبرى التي قاتل البشر من أجلها، كانت موجودة، لتُُقاتل من أجلها من جديد. وشيئا فشيئا اكتشفت أنك لن تقدم شيئا لوطنك، إلا إذا قدمت شيئا جميلا للعالم، رواية جميلة، قصيدة جميلة، موسيقى جميلة…
وأدركت: أنك ستكون إلى جانب وطنك بصورة أعمق، إذا ما وقفت مع كل قضية عادلة حيثما كانت في هذا العالم. إلى أن وصلت إلى نتيجة تقول: إننا نقف مع فلسطين، لا لأننا فلسطينيون، بل لأن فلسطين امتحان يومي لضمير العالم، ولو كانت هذه القضية في آخر بقعة في الأرض، ولم تكن فلسطينيا، لكان عليك أن تكون مدافعا عنها. وتبين لي أن جوازات السفر ليست هي التي تحدد جنسيتنا، بل القضايا التي نتبناها وندافع عنها هي التي تحدد جنسيتنا، وأن أفقر الهويات، هي الهوية التي نرثها بحكم الولادة.

كان أبي فلاحا، وكانت تربطه بالأرض علاقة عميقة، ويتعامل مع كل شيء فيها باعتباره كائنا حيا.
حين كنت صغيرا، رأيته يزرع شتلة زيتون، وبعد أسابيع، رأيت نوّار الزيتون على ذلك الغصن الصغير، فقلت له بفرح: لقد نوّر (أزهرَ)، سنقطف زيتونا منه هذا العام!
فقال لي: لا، لن نقطف زيتونا.
فسألته: لماذا؟ فقال: هذا الغصن يحلم!
فسألته: كيف لغصن الزيتون أن يحلم؟
فقال: إنه يظن أنه لم يُقطع، أنه لم يزل جزءا من الزيتونة الكبيرة أمّه. ولهذا يُزهر.
***
من الصعب الحديثَ عن جانب ما في التجربة الأدبية وإغفالَ جانب آخر، ولذلك لا أستطيع أن أفصِل الشعرَ عن الرواية في تجربتي، وإلا سأبدو أنني جئت بنصف روحي؛ لقد أصدرت 14ديوانا شعريا و 14 رواية.
الشيء الأساس في تجربتي أنني شاعر وروائي، أما بقية الفنون التي أمارسها، فأمارسها من منطلق الرغبة في معايشتها من الداخل لأستطيع الإفادة منها في الشعر وفي الرواية؛ وهكذا، ظهر أثر السينما واللوحة والصورة الفوتوغرافية بوضوح داخل تجربتي الأدبية؛ وأظن أنه عززها وأصبح جزءا أصيلا منها، وكتاباتي النقدية، عن السينما بشكل خاص، أعتبرها بمثابة سيرة ثقافية لي، لأفكاري وتأمّلي للعالم من خلال السينما، سواء على صعيد الخطاب الفكري أو الخطاب الجمالي. ولست من الذين يرون أن الشاعر يعيش في الشعر وحده، بل أرى أن القصيدة والرواية تعيشان بسواهما، فالانفتاح على عوالم الفنون والثقافات المختلفة يعطينا الكثير.
قناعتي التي أومن بها منذ زمن طويل: أن الذي لا يستطيع أن يقدِّم مساهمات جديدة على المستوى الفني لا يستطيع أن يقدم مساهمات على مستوى الخطاب الأدبي، لأن الجمال مضمون أيضاً. كما أنني أرى أن ليس هناك قضية كبيرة جادة وقضية صغيرة غير جادة في الأدب، بل هناك أدب كبير وأدب غير كبير.
أكتب عما يلامس قلبي ويستفز عقلي، أكتب تلك المواضيع التي تسكنني، المواضيع التي تؤرقني. ولذا يمكنني القول إنني لم أتردد أمام كتابة أي موضوع يجب أن يُكتب، وإن أي رقابة من أي نوع لم تكن حائلا دون كتابة قصيدة ما، أو رواية ما، وقد أدّى هذا إلى منعي من السفر ست سنوات، ومنع كتبٍ لي أربع مرات وأن أكون أول كاتب في الأردن يتم تحويله إلى المحكمة.
أما الوصية التي تسكنني دائما: فهي: أكتب بكل قلبك، لكي يقرأك القارئ بكل قلبه، واعمل ما استطعت على أن تتمتع كتابك بمستوى فني عال، فمن حق القارئ أن يستمتع بما تكتبه، وحين يأتي قارئ أجنبي ويشتري عملا مترجما لي، أحب أن يقرأ هذا القارئ الأجنبي عملي لا لأنه متعاطف مع قضيتي فقط، بل لأن كتابي الذي سيدفع ثمنه يستحق القراءة مثل بقية الأعمال التي قد تكون بجوار كتابي في المكتبة التي دخلها.
لقد صدرت لي بالإنجليزية، حتى الآن، أربعة كتب: براري الحمّى، مجرد 2 فقط، والتي صدرت بعنوان (داخل الليل) و مختاراتي الشعرية (المطر في الداخل) وروايتي (زمن الخيول البيضاء).
سأكتفي بالحديث عن آخر أعمالي الصادرة بالإنجليزية، وقد يكون هناك مجال للحديث عن الأعمال الأخرى إذا ما كانت هناك أسئلة حولها فيما بعد.
ذات يوم قرأت للزعيم الصهيوني بن غوريون جملة يتحدث فيها عن الفلسطينيين تقول: سيموت كبارهم وينسى صغارهم. وقد اعتبرت تلك الجملة أسوأ هجاء للشعب الفلسطيني، وهي تكمل تلك الجملة التي لا تقل صهيونية (لو كان الفلسطينيون شعبا لكان لهم أدب).
منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي، بدأت العمل على إنجاز رواية تستطيع قول شيء في هذا المجال، وقد التقيت عددا كبيرا من كبار السنّ، وسجلت حوالي سبعين ساعة من الشهادات؛ وكانت النتيجة أكثر من ألفي صفحة من الشهادات والملاحظات، وإلى جانب هذه الشهادات، اعتمدتُ على عشرات المراجع التاريخية وعشرات المذكرات والدراسات التي تناولت أدق التفاصيل في الحياة الشعبية الفلسطينية ومعتقدات الفلسطينيين.
رواية (زمن الخيول البيضاء)، تم العمل عليها، تحضيرا، 22 عاما، وكان من المفترض أن تكون الرواية الأولى والأخيرة في مشروع (الملهاة الفلسطينية) الذي ضم بعد سبع روايات تغطي 250 عاما من تاريخ فلسطين الحديث.
كان من الممكن أن يكتب هذه الرواية واحد من الكتاب الفلسطينيين الذي عاشوا في فلسطين قبل عام 1948، وأعني هنا بالتحديد: جبرا إبراهيم جبرا، إميل حبيبي، وغسان كنفاني، ومن الغريب أن كتابة عمل يعبّر عما حدث للفلسطينيين قد تأخر كثيرا، ولذا، كتبتُ هذه الرواية بسبب حاجتي إليها كقارئ أولا، لكنني حين بدأت العمل على التحضير لها، أحسست أنها يجب أن تلبي طموحي الفني ككاتب أيضا. كما كان طموحي الجمالي فيها: أن أفاجئ القارئ الذي عرف فلسطين، وعاش فيها، بأنه لم يكن يعرفها جيدا.
تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام: كتاب الريح، كتاب التراب، كتاب البشر. والتسميات انطلقت من قول عربي قديم يقول: لقد خلق الله الحصان من الريح والإنسان من التراب. وسمحت لنفسي أن أضيف: والبيوت من البشر!
لكنها بمجملها رحلة في ميثولوجيا الخيل في المجتمع الفلسطيني، ومسيرة الدفاع عن فلسطين في ذلك الزمان: فالقسم الأول حول فلسطين في ظل الحكم التركي، والثاني عن فترة ثلاثينات القرن العشرين التي توهجت بثورة 36، أما القسم الثالث فيدور في الأربعينات حتى عام النكبة. حين تعمل كل هذا الزمن على رواية يعني أنك تصبح جزءا من عالم الرواية تماما؛ بحيث يمكنني القول: إنني أحسست بعد الانتهاء منها بأنني عشت خمسة وسبعين عاما هناك؛ وهي الأعوام التي تشكِّل زمن الرواية الفعلي.
لقد ذهبت إلى هناك لأعرف كيف ضاعت فلسطين، لأعيش ذلك؛ ولذا كنت أحس كلما تقدمتُ في الكتابة بأن فلسطين ستضيع!! وهذا أمر مرعب. أن تعرف النهاية مسبقا لكنك كلما اقتربت من النهاية أصابك الفزع!
يقول بطل رواية (زمن الخيول البيضاء): (أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي.)

كتبت وما زلت أكتب من أجل الإنسان، ومن أجل الكتابة وفن الكتابة، ومن أجل قضيتي، من أجل أطفالي، أطفالنا.
الآن، ربما يسافر أحد أطفالنا، إلى مكان ما، ويعاني كثيرا في المطارات بعد أن يسأله ضابط المطار: أنت من أين؟ ويجيب: إنني من Palestine.
لكن الضابط لن يسأله ثانية باستغراب: أنت من أين؟!
فقد قدمنا الكثير: قصائد وروايات وموسيقى وشهداء وعانينا من كل أشكال المنافي، كي يكون لنا وطن واحد، كي لا ننسى، أو ينسى العالم، هذا الاسم الجميل أبداً: فلسطين.

 

 

* قام الشاعر والروائي إبراهيم نصر الله بزيارة لبريطانيا بين 12 و 20 نوفمبر، بمناسبة صدور كتابه الرابع بالإنجليزية: زمن الخيول البيضاء، وشملت الزيارة محاضرات في مؤسسة القطان، لندن، جامعة مانشستر، جامعة شافيلد، وجامعة سواس – لندن.

( القدس العربي )

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *