ولم أُشْغِل سمائي كلّها


أحمد الخطيب *

 
وهربتُ منها
كي أرى أملاً على الطرقاتِ،
أسألُهُ عن المعنى الذي فرط الحياةَ على يديهِ،
وإنْ تجنّىتْ،
ليسَ مغفوراً لها.
***
وهربتُ منها
أيُّ غزلاني هفتْ مثلي على ريقي صباحاً،
أو تمايلتِ الضحى، فهربتُ،
أوقعتُ السلالةَ كلّها في محنةِ الإيجازِ،
فانفرطَ الحنينُ، بكيتُ، يا أبدي
على ولدي، ولم أُشْغِلْ سمائيَ كلّها.
***
وهربتُ،
لم أُكمل سوادَ الأربعينَ،
خلعتُ ما ألِفتْهُ قافيتي، هناكَ،
وكان لي أنْ أصلِحَ الناياتِ، أحزاني مبعثرةٌ،
ووجهي في المرايا
والمرايا كالحقيقةِ لا تُزيَّفُ، أو تُزيِّفُ ما يشاءُ
لها الغيابُ، لأنّها محشوّةٌ بفيوضها،
وحضورِ أنساقِ الحياةِ إذا تجلّتْ، أو
تهافتَ ليلُها لِيَلُمَّ منْ هذا التصدِّعِ ظلّها!
***
كمْ مرّةً هَرَبَ المُنادي والمُنادى
والشوارعُ تستقيمُ على البياضِ،
لأجلِ منْ؟!
هَرَبَ المُدافعُ عنْ زوابِعهِ،
وبيّتَ نخلَهُ في النهرِ
ثمّ أتى على وادي الحجارةِ في شِمالِ الأرضِ،
واسترعى نباهتَهُ،
وكمْ دلّى على وجه الكتابةِ حبلَها!
***
أوَلَيس لي،
هذا الحنينُ، إذنْ، بَرَدَ الحنينُ
وجيء بالمعنى شهيداً،
والبلادُ هيَ الحكايةُ، منذُ غرّبَها الأهالي
بعدَ أنْ نقصوا من القتلى وجوداً،
واستداروا في المتاهةِ،
والنقاهةِ
والنّباهةِ، واعتَنَوا بالرّملِ، ما خلعوا على طينِ القصيدةِ
خيمةَ الإيقاعِ، ما فرشوا لهذا اليومِ أسراباً من القتلى،
وما سَلِموا، فمنْ يحمي الرَّصيفَ إذنْ!
أوَلَيس لي
بَرْقُ الحدودِ،
وزينبُ الأولى،
وشهوتُها (تُخيطُ الظلَّ معْ هذا الكفنْ)
أوَلَيس لي هذا الحطامُ على شريط الهجرةِ الأولى،
وهمْ يبرونَ شارعَنا،
لأجلِ نزوحِنا عنْ سُبّةِ التاريخِ في هذا الزمنْ!
أوَلَيس لي
ما جاءَ في قاموسِ أحفادي
بلادٌ غرّبوها وهيَ تفتحُ للتسلُّلِ ما تبقى من حنينِ الماءِ
للغيمِ الذي سحلَ الحقيقةَ عن يدٍ مرضيّةٍ فأظلّها!
***
عنْ يدٍ مرضيّةٍ،
عادوا إلى أسوارِها
عادوا زرافاتٍ، وقدْ نَصَبوا على عرض البلادِ وطولها
أشجارَهمْ،
نقشوا على أضلاعها أورادَهمْ
ضلعاً، فضلعا
وتخيّروا نُطفاً لحبرِ كلامهمْ،
عادوا، وكنتُ أشنشلُ الأشياءَ،
أُصدِرُها لخلقِ الريحِ
إذ تعدو مسالمةً، وأشفعُ بالكلامِ،
لعلّها
تعدو إلى بابي،
وتُقفِلُ كلّ صوتٍ في الزرافيلِ،
ابتداءً من حنينِ العشبِ للسّور المقابلِ،
وانتهاءً بارتجافِ أصابعي
ولعلّها تُبقي على شجري إذا أسلمتُها أمري
وتَصدُرُ عن يدٍ مرضيّةٍ، لنعيشَ في الرؤيا
جوارَ قصيدةٍ بَرِأتْ من الفوضى،
فأسلمَها الهوى مرعى،
ولعلّها،
أيقونةَ الأسماءِ تنشُرها على صفحاتِ
مولانا الأبدْ،
أوَلَيس لي هذا المددْ
وأنا أخاتلُ حجتينِ على نزوع الموتِ في هذا الجسدْ!
أوَلَيس لي وطني المُعافى من سكوتي،
ووعودِ هذا القشِّ إذ يخضرُّ في هذا البلدْ
أوَلَيس لي حججي،
وتابوتي،
وبعضُ سوادِ أمراضي
ومنفايَ المقيّدُ إذ يُقيِّدُ في القراءةِ سطرها،
ويروِّضُ المعنى
ويشجبُ في الكتابةِ بعلَهُ أو بعلَها!
***
وهربتُ منها،
لا إليها،
فالمدى ورقٌ عتيقٌ، لاحَ في شجري
وأعتقني من الصيفِ القديمِ،
لأنجزَ التاريخَ عبر حقائقٍ مرهونةٍ لصبايَ،
هل دفنوا هنا أثري،
ومرّوا،
أم تجاوزني صدى حلقاتهم في الذكرِ،
فاحتجَّ المُريدُ: أنا هنا
وأنا هنا
والماءُ أبعدُ ما يكونُ من الغيومِ،
تكاثرتْ حولي، فزوّجها الهواءُ إلى يدٍ مرضيّةٍ،
والماءُ تُشبهُ طفلها المُلقى على إبطِ الرّصيفِ
تنمنمُ الأشياءَ في صدر الكلامِ،
كما يريدُ، أنا هنا
وأنا هناكَ دفينةٌ في تربة الأسماءِ، ميزانُ العدالةِ،
واشتهاءُ الياسمينِ على تلالٍ
نصفُها شجرٌ، وبرٌّ،
يا أنا، فمنَ الذي ألقى على أسبابهِ عللاً من الفوضى،
وقايضَ أمْنَها ليلاً، وسرْبَلَ خيلَها!
***
رعويةٌ هذي الحقائقُ، ريشُ أنصاف الحلولِ
إلى دخول الريفِ من قلقِ المدينةِ،
وهيَ تُغريني بشرفتها الأنيسةِ،
والطيور على النوافذِ تشتري عشّاً، لأقطعَ واديَ النسيانِ،
والجيرانُ مهديُّونَ للعبثِ الأخيرِ بقطّتي
والنايُ من قصبِ الوجودِ
رعويةٌ هذي الحقائقُ،
سطوةُ الأطفالِ إذ يمشونَ للخللِ الجديدِ
وهمْ مساء يكبرونَ على نهاوندِ أيامي
ويحتضرونَ
هل يبكونَ؟ لا حجلاً هنا ينفضُّ عنْ جيرانهِ،
يبكونَ؟
لا مطراً هنا في الغيم يُنعشُ سيرةِ الماضي،
وهل يبكونَ؟!
قالتْ نملةٌ: هذي مراياهمْ
وتلكَ حقيقةُ الأشياءِ، إيعازٌ المساءِ لكوكبِ المعنى
أضيءْ رَحِماً تدلّى من سقوفِ الغيبِ،
لا شَبَهٌ لهُ،
ولها!
***
وأظلّها
سقفي،
وأثخنَ حِملَها.
***
وغدا صفيحُ الناي مثقوباً،
هنا تاريخنا، وبيوتنا،
وهنا جنازتنا، إذنْ، فاستفتحي يا ريحُ
إنّ مؤونةَ التابوتِ خيطٌ من رداء الفجرِ،
تكريرُ الوصيةِ للبناتِ وللذكورِ،
وللنساء المُعدماتِ،
وللجواري،
ولفطنةِ الشعراءِ إذ يعشونَ عن أمر الخطايا والبرايا
للمقاهي وهيَ تفتحُ كفّها
للّيلِ منصوباً على شرفاتِ أمْنِ التلِّ من عبث الذئابِ،
وللعذارى،
هُنَّ عن أملٍ يجئنَ إلى السريرِ
ولا يجئنَ من الغبارِ، كأنهنَّ
خُلقنَ من صدأ الجهاتِ
فقدنَ من عللِ القصيدةِ عدلَها!
***
ولأنني في كلِّ شيءٍ
صِغتُ إعراضَ الحساسينِ الضعيفةِ عن يدي
وُلدتْ لدى أسمائها لغةٌ،
لترفعَ إبلَها!
ولأنني أعددتُ إيقاعي على أوزانها،
وخلعتُ عنْ كفّي
فضائلَ موتها،
هفتْ لتنجبَ من حروفيَ نسلَها!
ولأنني أمهلتُها
جاءتْ على مهَلٍ،
لِتُثبِتَ أصلَها!
وهربتُ منها،
كي أُكمِّلَ فضلَها!

 

( الراي الثقافي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *