المرأة التي جلَبها المطر


هزاع البراري *

 تلبّد المساء بالذكريات، وسقط مطر شوّهه الغبار. اكتأبت الشوارع التي أوحلت فجأة، وأصاب الأرصفة فقر حزين. الريح تلوب حدائق فتك بها خريف سريع الخُطا، فطارت الأوراق الميّتة في الفضاءات الضيقة. كانت الرطوبة الباردة تحمّلُ الهواء مزيداً من القسوة. مساءُ الشتاء طويل كليلهِ الذي لا ينتهي.
كنت ألوذُ ببقايا ظلّي، الذي أكله شحوب المساء. الرصيف أخذني إلى حانة تشكو قلّة الزبائن. ألقيتُ نظرة كاشفة فأثقلتني المقاعد الفارغة بِهَمٍّ مباغت، وتركتُ لجسدي حريّة السقوط في بَراثن كرسيّ جلديّ مهترئ. أنشبت نظرتي في سطح طاولة الخشب التي ترك العشّاق فوضى أشواقهم منقوشة على صفحتها. لا أدري لماذا أحسستُ بوجهي خرائط ورموزاً لأعوام قدامة. كان النادل يرسل إليَّ بنظراته المتوسلة، حتى إذا تصادمت نظراتنا، ابتسم بشحوب، وانكفأ يكملُ عملاً فرغ منه منذ وقتٍ مبكّر.
الدفء مثل نكهة «سيجارة» بعد ظمأ الأنفاس، بينما المطر تخفُّ وطأته في الخارج، ويكادُ يتحوّل إلى رذاذ. لكنَّ العتمة أطبقتْ على كلِّ شيءٍ؛ عتمة لا توخزها غير إنارة الشارع، وبصيص أضوية السيارات المارّة كالطرائد .. بلا هدف. فجأة، مزقتْ هدوء سكوني سعلة قويّة صادرة عن عجوز، كان قد تكوّم بإهمال في الزاوية الضيّقة للحانة. لقد داهمته السعلة، وهو يوشكُ على ابتلاع جرعة من كأسه الرديئة، فتطاير رذاذ الجرعة على الطاولة والجدار الجانبيّ، شعرتُ بالتقزّز يغمرني، حتى اقشعرّت كتفي بشكل لا إراديّ.
أغراني ضيق صدري باقتحام العتمة من جديد، وارتداء البرد الذي يزور بلادنا في لحظات، ثمّ لا يلبثُ أنْ يختفي بشكل غامض تاركاً الأرض في حالة نشوى تحلم بالخصب، غير أنّ الباب الزجاجيّ انفتح على امرأة أربعينيّة بيضاء، مشعّة، ممتلئة من غير سوء، عبرتْ دون اكتراث، نحو مقعد بدا كأنّها تعرفهُ تماماً. خلعتْ معطفها الأسود الطويل وألبسته للمقعد المجاور، ثمّ جلستْ متعجّلة إشعال سيجارتها، ونفثت دخانها الكثيف كأنّها تحلّق وسط سحابة من ضوء خافتْ.
أشرتُ للنادلِ أنْ يزوّدني بكأسي المعهودة، وقد غيّرتْ الأربعينيّة مزاجي المتقلّب. أنا أعرفها، نعم بالتأكيد أعرفها، مضتْ سنوات ليست بالقليلة، لقد كبُرتْ واستعدّتْ ملامحها لشيخوخة باكرة. لم تلتفتْ لي، لكنّها حين تفعل ستبتسم بحنو، وربما تأتي لتسلّم عليَّ، وتجلس معي، لنبدّد وحشة هذه الأيام الآسنة. ستكون المرأة التي جلبها المطر، لتطرد كآبة الشتاء عنّي؛ تلك الكآبة المزمنة التي لم أعدْ أقوى على احتمال وطأتها.
الكاس أمامي تتدثّر بندى الأنفاس الساخنة، وتلك المدخّنة تغرق بعيداً عنّي. تذكرتُ قبل عقدين كيف أوقفتني وهي تصرخ في وجهي، ودفتر المحاضرات يهتزّ بين يديها، كان الغصب يقفزُ من عينيها، وهي تحاول إفهامي أنّني أتمادى في الإزعاج والتطفّل، حين ألوذُ بالصمت تاركاً نظرات عيني تحاصرها في كلّ مكان. إنّ ذلك غاية في الإرباك غير المقبول بالنسبة لها. تذكرتُ ذلك وضحكتُ بصوت خفيض، فلقد كانت ناحلة وسريعة الغضب، ولسانها لا يخشى شيئاً عندما ينطلق، وبّختني وأنا أمامها تلميذ يعاني ضعفاً فاضحاً في شخصيته. أدركتُ ذلك وكأنّها استنتجتْ أمراً، توقّفتْ وبدتْ حائرة، أرادتْ أنْ تعتذر عمّا تلبسّني من هلع وخجلٍ فاضح، تعثّرتْ بالكلمات، ثمّ قالت:
– أشعر بحلقي جافّاً كصحراء.. هل.. شيئاً..
عندما جلستُ أمامها في الكافتيريا، وقد لسعتْ شفتي رشفة الشاي. ضحكتْ بقهقهة بدتْ لي مزعجة، وفي غير مكانها، لكنّي صرتُ أضحكُ معها لأمرٍ ما أزالُ أجهله حتى اللحظة.
إذاً، لماذا أجلسُ هنا بالعجز السّابق نفسه؟ سأنهضُ لكي أربكها بحضوري، عزمتُ على ذلك، لكنّ نظرة منها نحوي بخّرتْ كلّ شيء. تأملتني بحياد، ثمّ أشاحتْ بوجهها عنّي، لم تعرفْني، ولم يحرّك فيها وجهي أيّ ذكرى. شربتُ كأسي، ودخلتْ الصور الماضية، كنتُ ما أزال أحاول تجميع صورة ملامحي، عندما قالت لي:
– لا جدوى.. عليك أنْ تكفّ عن ذلك.. فأنا في المرفأ الأخير..
– لم أفهم، ماذا تقصدين؟
سحبتْ خصلة من شعرها اندلقتْ على عينها، وثبّتتها خلف إذنها، ثمّ قالتْ محاولة التبسيط:
– أنا أفهم كلّ ما يعتريك.. إنّه لشيء مربك حقاً.. لكنّي مرتبطة برجل.. رجل أنا اخترته.. لذا عليك أنْ تقدّر ذلك و..
نعم، كنتُ أتشقّق. الآن عاد كلّ شيء. افترقنا عند أوّل لقاء، تركتني وغابتْ في زحمة الأيام المتلاحقة، سحبتْ من ذاكرتي وحياتي. اليوم تعودُ وكأنَّ العمر الذي مضى مجرّد غيمة عابرة أمطرتْ للتوّ. ها أنا أراقبها باندهاش وقد اعتراها توتّر مفاجئ. أطفأتْ سيجارتها بعصبيّة، ووقفتْ مرتدية معطفها الأسود الذي منح قامتها حاجزاً من الهيبة. ثمّ تجاوزتني واخترقتْ الباب الزجاجيّ، وعبرتْ نحو الرصيف، غيّبها انعكاس الإضاءة والعتمة المبتلّة بالمطر الخفيف. كنتُ ألوكُ ضعفي وقلّة حياتي، كيف ظهرتْ بعد هذا الزمن، وكيف اختفتْ هكذا! لماذا تكرّر ضعفي، ولماذا تفجعني دائماً بغيابها، وأنا بعد في همهمات أوّل الكلام؟!
ناديتُ النادل، فجاء مستبشراً، ظانّاً أنّي سأطلب كأساً أخرى. عندما سألته عن المرأة الأربعيميّة، انكمشتْ ملامحه، وانتفض طارداً برودة السؤال عن جسده، وقال باستسلام:
– أيّ امرأة؟!
– هذه التي كانت هنا، وغادرتْ منذ لحظات..
تنهّد بنفاد صبرٍ، وقال:
– أيّ امرأة؟! هذا مكان لم تطأه امرأة منذ زمنٍ طويل، ألا ترى الوحشة تأكل كلّ شيء؟!
– تقصد أنّه لم تكن هنا أيّ امرأة؟! هل تعتقد أنّي ثملتُ من لا شيء؟!
قال باعتذار قبل أن ينسحب:
– أنا لم أقلْ هذا.. لكنْ لا وجود لنساء في هذا المكان الذي تخثّر فيه الصمت، وصدأ التكرار حتى تيبّس.
ليس من الممكن أنْ يكون ما رأيته مجرّد خيال عابر، الذاكرة تستعيد الأشخاص كما كانوا، لا كما هم عليه الآن.. أنا رأيتها وقد عبث العمر والغياب بملامحها.. ربما هو هذا الفقد الذي يداهمني كالنهاية الآزفة بالقدوم.
غادرتُ الكرسيّ الذي حملني عن تعب، وفتحتُ الباب الزجاجيّ، ثمّ خضتُ عبابَ العتمة، فاتحاً رأسي للمطر يغسلني، وللعتمة ترتق ما اهترأ من حياتي الخابية.

* روائي من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *