جهاد هديب *
في سنّ مبكرة، قياسا بالآخرين من الذين حازوا نوبل للآداب، كان الروائي التركي أورهان باموك مثيرا للجدل، وهو الذي ينحدر من عائلة اسطنبولية آرستقراطية لم يكن لها علاقة بالأدب أو الثقافة، وفقا للمعنى الواسع للكلمة، باستثناء تلك التقاليد الفرنسية في العيش والسلوك كما هي حال الآرستقراطية التركية التي عاشت تحت سلطة العسكر منذ تأسيس الدولة وحتى حكم رئيس الوزراء الحالي رجب طيب أردوغان الذي قدم أورهان باموك للمحاكمة تبعا لتصريحات صحفية أدلى بها صاحب “اسمي أحمر” للصحافة الأجنبية.
حقيقة الأمر، أن المرء إذ يقرأ هذا الحوار الذي أجرته ونشرته مؤخرا صحيفة “النيويورك تايمز”، بوسعه أن يكتشف حقيقة أن باموك يتحدث هنا بوصفه مثقفا أوروبيا وليس تركيا، هو الذي عبّر عن روح تركيا الناشئة والحديثة أكثر مما عبّر الآخرون من مثل عزيز نيسين أو ناظم حكمت أو جميع الآخرين بحسب ما تؤكده الدراسات النقدية الأدبية التركية وغير التركية.
يتلمس المرء ذلك في أدبه الذي بدأ واقعيا كلاسيكيا ثم لينتهي متأثرا بتيار عريض في الأدب العالمي تتم نسبته الآن إلى القاص والشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، أي تلك الوقائع والأحداث التي تتناول تاريخا بعينه إنما من باب التأمل الذي غالبا ما يجد له متكئا في الفلسفة. والفلسفة هنا تربط ما هو تخييلي بالفلسفة الإسلامية بإشراقاتها الصوفية إلى الفلسفة الغربية ما بعد الحداثية كما هي لدى الفرنسي ميشيل فوكو، أو حتى في أسلوبيته في طرح القضايا الفلسفية التي غالبا ما تستند إلى الأدب، خاصة الشخصيات الروائية كما وردت في أدب الروسي ديستويفسكي، وكما في أدب الفرنسي مارسيل بروست، في رائعته “الزمن المفقود”.
كل ذلك قدّم باموك للعالم بوصفه روائيا معبّرا عن الروح التركية الراهنة بما جعله مميزا بين المبدعين الأتراك منذ النصف الثاني من القرن الماضي على الأقل. وقبل فوزه بنوبل للآداب سنة 2004 ثم ليقرأه الناس في أكثر من 100 دولة في العالم.
ذلك ما جعله واحدا من الشخصيات الاعتبارية التي تستطيع أن تستشف من خلالها وجهة نظر الناس في بلد لم تزدهر فيه الديمقراطية إلا مؤخرا.
الآن، يعمل أورهان باموك أستاذا يدرس الكتابة الابداعية في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة هو الذي تخرج سابقا في تخصصين متباعدين: الهندسة المعمارية والصحافة، حيث يتركز عمله على إعادة قراءة الكلاسيكيات الأدبية الغربية والعالمية، والتي يتحدث عنها هنا في هذا الحوار بطريقة لافتة للانتباه من شدة ما أنها طريقة خاصة في “تدوير” الأدب وإعادة إنتاجه تأويليا.
مواقف سياسية
في فبراير من العام 2003 صرح باموك لمجلة سويسرية بأن “مليون أرمني و30 ألف كردي قتلوا على هذه الأرض، لكن لا أحد غيري يجرؤ على قول ذلك”. يقصد بتلك الأرض تركيا الجمهورية لا العثمانية، وذلك فضلا عن أنه الكاتب التركي، وربما الإسلامي، الوحيد الذي أدان الفتوى الخمينية بإهدار دم الروائي البريطاني من أصول هندية سلمان رشدي، ذلك كله، بالإضافة إلى أنه في فبراير من العام 2007 بعد مقتل أحد الصحفيين الترك من أصل أرمني لكتاباته التي تندد بمذابح الأرمن تلقى أورهان باموك تهديدات بالقتل وأخبرته السلطات الأمنية أن هذه التهديدات جدية، دفعه إلى الانتقال إلى الولايات المتحدة الأميركية ليستمر هناك في الكتابة وممارسة السياسة معارضا حكم حزب العدالة والتنمية إنما من باب الهواية أكثر مما أنه من باب الاحتراف، أي أن باموك يمارس دورا يعتقد أنه ليس دوره، بل كما يذكر في هذا الحوار فإن مجاهرته بالآراء السياسية يجيء بسبب أن الصحافة الأجنبية تركّز على مواقفه من السياسات التركية العامة أكثر من أدبه ولأنه رجل لا يتقن الدبلوماسية فإنه يتورط غالبا في قول كل ما لديه دفعة واحدة ما يثير حفيظة الآخرين ضده.
لكن، في العمق، غالبا ما يكون باموك قارئا جيدا ومتابعا عن كثب لما يدور في المشهد السياسي التركي وطبيعة تلك العلاقات التي تربطه بدول الإقليم والجوار العربي والإسلامي، لكن من وجهة نظر لا تنكر انحيازها لتركيا أوروبية وعلمانية وفقا لمنطقها الخاص بها، مع أن وجهة النظر المقابلة والحاكمة في تركيا الراهنة جعلت منها واحدة من أكثر دول المنطقة أهمية، وجعلت مواقفها أكثر حساسية، ونقلتها من دولة مديونة إلى دولة تحظى بوضع اقتصادي مميز على مستوى العالم.
في ما يخص القضايا العربية الراهنة، مثل الموقف من القضية الفلسطينية أو ما يجري في سورية الآن فلا موقف واضحا لدى أورهان باموك، ربما لأنه يقترب أكثر بمواقفه السياسية من الليبرالية التركية وميولها اليمينية الواضحة في بعض الأحيان. في هذا الحوار من الممكن تلمّس المنطلقات الأساسية للثقافة السياسية للرجل، لكن الأهم هنا هي مواقفه الأدبية من تراث التخييلي والسردي للمنطقة الإسلامية، لا العربية حتى أن المرء يشعر به أنه يتحاشى الحديث عن الوجه العربي لهذه الثقافة، وكذلك الثقافة الغربية بوصفهما ثقافتين متقابلتين.
أيضا من الممكن تلمّس علاقته المميزة بالمدن، أي مقدرته على قراءة هذه المدن، اسطنبول تحديدا، ليس من خلال تاريخها الراهن فقط بل من خلال الخبرة التي اكتسبها من العيش فيها، أي أنه من ذلك النوع من الكتّاب الذين بمقدرتهم تحويل الأفكار إلى معارف.
في هذا الحوار سئل: ما الكتاب الذي يحتلّ ليلتك الآن؟ فأجاب: “الشاهنامة” للفردوسي والتي بعنوان فرعي: “كتاب الملوك الفارسي”، بترجمة وتصنيف عظيمين من قِبَل ديك دافيس ـ طبعة كلاسيكيات بنجوين. مثل “مثنوي جلال الدين الرومي أو “الليالي العربية”، “الشاهنامة” بحر عظيم من الحكايا تلك التي أتصفحها من وقت إلى آخر في ترجمات متنوعة إلى التركية والانجليزية لأكون مُلْهَما، أو أهيِّءُ منها قصة ما قديمة مثلما فعلت في “اسمي أحمر” و “الكتاب الأسود”. في القلب منها هذه “التكاذيب” الملحمية: بحث المقاتل العظيم سُحراب عن أبيه رستم، الذي لا يعرف أن سُحراب هو ابنه، فيقتله في معركة.
إن مكانة هذه القصة التراجيدية العظيمة في معيار الأدب المغولي ـ العثماني ـ الفارسي تشبه مكانة أسطورة “أوديب” في معيار الأدب الغربي، لكن هذه القصة ما تزال تنظر “فرويدا” خلّاقا كي يعالج التشابهات والفروقات الجذرية. بوِسْع الدب المقارَن أن يعلِّمنا عن (شرق/ غرب) أكثر من علم بلاغة “صدام الحضارات”.
الروايات العظيمة و…
وبرأي باموك إن الكتب العظيمة حقا هي روايات: “آنّا كارنينا”، “الأخوة كارامازوف”، “الجبل السحري”، “هي مثل “الشاهنامة” فقط. أعود إليها من وقت لآخر كي أتذكّر كيف يفعل الكتاب العظيم فينا، أو كي أدرِّس طلبتي في جامعة كولومبيا”.
والكتب السيئة عنده هي أيضا روايات، يقول: فقط هي الكتب الجيدة التي تمنحني متعة البقاء حيّا، والروايات السيّئة تثير كآبتي، ومثلما لاحظت فإن هذه الفكرة تجيء من الصفحات، أتوقف. إنني أيضا أتمهل قبل أن أمضي بعيدا عن دار السينما إذا كان الفيلم سيئا. الحياة قصيرة، وينبغي علينا أن نحترم كل لحظة منها.
وردا على سؤال: أي قراءة آثمة تلك، التي تسبّب لك البهجة: الكتاب، أم الدوريات، أم المتصلة بالكمبيوتر والانترنت؟ يجيب:
لوقت طويل، آمنتُ، بسذاجة، بأن روايات الإثارة والروايات البوليسية كانت مضيعة للوقت. فاعتقدت أن ذلك كان سببا لإحساسي بالمتعة الآثمة في روايات باتريشيا هايسميث. مؤخرا، أدركت أن ذلك الإثم لم يأت من قراءة روايات الإثارة بل من طريقتها البارعة في يتماثل مع القاتل. إنها كاتبة رواية ديستويفسكية (نسبة إلى ديستويفسكي).
والذي يجعل أورهان باموك يضحك، فإنه أوسكار وايلد، يقول: إن قصصه كلها تختبر إمكانية أن تكون ساخرة، حتى الثورية منها، لكنها حنونة بعمق. يكفي النظر إلى غلاف كتاب من كتب وايلد في متجر للكتب يجعلني أضحك بسخرية. لدى جوليان بارنس دعابة إنسانية لاذعة، أحبّ كثيرا رواية “مشهد النهاية” لبارنس.
وبسؤاله: ما آخر كتاب جعلك تغضب؟ يجيب بسرعة: “شبح الملك لْيوبولد” لآدم هوسشايلد، عن فظاعات ارتُكبت من قِبَل جيش وشعب ملك بلجيكا لْيوبولد الثاني بين العامين 1885 و1908، بذريعة “الكفاح ضد العبودية”. لكنْ حقيقةً وببساطة من أجل جنْيِ المال في الكونغو، لقد قتل رجال لْيوبولد أقل من عشرة ملايين بقليل في أفريقيا، كلنّا يعرف جيدا جدا أن بلاغة “الحضارة ـ الحداثة” نموذج جيد للقتل، غير أنّ هذا الكتاب يغيظ بشدة أي شخص، خاصة، شخص ما مثلي يؤمن بفكرة أوروبا كثيرا.
أوباما وأردوغان
وسئل باموك: لو أن بوسعك أن تزكّي كتابا للرئيس الأميركي فما هو؟ أيضا، لرئيس الوزراء التركي؟ فقال:
قبل سنوات طويلة، انتخَبَ أوباما رئيسا، لقد عرفته بوصفه مؤلف “أحلام من أبي”، كتاب جيد جدا. بالنسبة إليه أو لأي رئيس أميركي، أرغب في أن أرشّح ذلك الكتاب الذي أمنحه أحيانا هديّةً لأصدقاء، آملا أن يسألونني: لم هذا الكتاب، أورهان؟ “البوذية وفنّ صيانة الدرّاجة الهوائية: سؤال في القِيَم”. هو كتاب انبنى بسعة أميركا وعلى فرد يبحث عن قيم ومعنى في الحياة. هذا الكتاب الرومانتيكي الرفيع ليس رواية، لكنه يفعل شيئا ينبغي على كل رواية جادّة أن تفعله، بل هو يفعل ذلك بأفضل من الروايات العظيمة: يصنع فلسفة بعيدا عن التفاصيل القليلة للحياة اليومية.
لقد احترمت سياسات رئيس الوزراء التركي في دفع الجيش إلى الثكنات بعيدا عن السياسة، على الرغم من أنني لست سعيدا بسبب محاكمة آرائي السياسية مثل الكثير الكثير من الآخرين خلال فترة تولّيه السلطة. لقد قاضى رسّام كاريكاتور لأنه صوّره قطّةً، على الرغم من أن أي شخص يأتي إلى هنا يعلم أننا في اسطنبول نحب القطط. أنا أكيد من أنّ أردوغان سوف يستمتع بكتاب “أنا قطّ” للكاتب الياباني العظيم ناتسومي سوسيكي، فهذه الرواية تهجو “الأخطار الشيطانية” المبالغ فيها إذا ختار المرء أن يصبح المرء غربي الثقافة، مسرودة من قِبَل قط ماكر.
وتوجه المحاور بسؤال لصاحب “اسمي أحمر” عن الشأن السياسي التركي الحالي، يقول: حَمَلْتَ على “النزعة التركية التي تُهين” في سبيل الاعتراف بحجم القتل الذي تعرّض له الكُرد والأرمن وجاهرت برأيك في صدد محاولة تركيا الانضمام للاتحاد الأوروبي، أفعلت ذلك بوصفك مواطنا تركياً “متورِّطا” أم أنك تعتقد بأن الكاتب يتحمل مسؤوليةٍ تجاه الفعالية الاجتماعية؟
فأجاب: على أبعد تقدير، كنت أفعل ذلك بوصفي مواطنا متورّطا. لا أملك قناعات سياسية منظّمة، ولست كاتبا لديه وعيا سياسيا ذاتيا. غير أنّ كتبي سياسية لأن شخصياتي تعيش أزمنة مضطربة بسبب عدم الاستقرار السياسي والتغيرات الثقافية، أحبّ أنْ يرى قرّائي أنَّ لدى شخصياتي خيارات في الأزمنة كلِّها وأنها شخصيات سياسية بطريقة أدبية في رواياتي.
ما من أفكار سياسية أبدا كانت تحرِّضني. لقد اهتممت بالظروف الانسانية والقصص الهزلية. أما الاشكاليات السياسية التي واجهتها في تركيا ليست بسبب رواياتي إنما بسبب تلك اللقاءات الصفية التي أُجريت معي من قِبَل صحافة أجنبية.
مرة، شكوت لبول أوستر الشاب، هذا الكاتب الذي يعجبني وكنت التقيته أثناء ما تُجرى معه لقاءات صحفية مثلي، في أوسلو بهدف الترويج لكتبه. كانوا يسألونني أسئلة سياسية طيلة الوقت، ولعل الأسئلة السياسية تكون أسهل إنْ كنتَ كاتبا أميركيا. قال إنهم أيضا كانوا يسألونه عن حرب الخليج طيلة الوقت. كان ذلك عن حرب الخليج الأولى! قرابة عشرون عاما مرّت على ذلك، ربما تعلّمت أن الأسئلة السياسية هي نوع من القَدَر بالنسبة للأدباء، خاصة إنْ لم تكن قادما من العالم الغربي.
الروايات السياسية، ليس لأنّ الروائيين يحملون بطاقات حزبية ـ البعض يفعل ذلك ـ بل لأن الرواية الجيدة هي التي عن التماثل مع أناس متفاهمين وليس بالضرورة أنْ يكونوا مثلنا. ووفقا لطبيعة الروايات الجيدة فهي سياسية لأن التماثل مع الآخر سياسي. في القلب من “فن الرواية” تضطجع المقدرة الإنسانية على رؤية العالم من خلال عيون الآخرين. الحنوّ هو القوّة الأعظم للروائي.
كتب وكتّاب
ويختار باموك ثلاثة كتب لكي يأخذها معه إلى جزيرة مهجورة. هي: الموسوعة البريطانية، في طبعة العام 1911، والطبعة الأولى من الموسوعة الاسلامية (1913 ـ 1936)، وموسوعة اسطنبول لريتسا إكرَم كوكو (1958 ـ 1971). تلك الكتب التي كتبت عنها في كتابي “اسطنبول” سوف تبقيني منشغلا لسنوات عشر. مخيلتي تعمل على نحو جيد مع الحقائق، خاصة إذا كانت مؤرخة ولو بمقدار ضئيل. بعد السنوات العشر يمكن لهم أنْ يلتقطوني من الجزيرة المهجورة تلك كي أطبع روايات كتبتها هناك.
وباموك الذي عاش في الولايات المتحدة الأميركية فترة من الزمن، تأثر بالعديد من الكتاب الأميركيين. يقول: كتب الراحل جون أبدايك مرة، أنّ كتّاب العالم الثالث كلهم قد تأثروا بوليم فولكنر. أنا واحد منهم. أرانا فولكنر أن اهتماماتنا محلية ربما، بعيدا عن المراكز في الغرب وعن ما هو مزعج سياسيا، إلى حدّ أنّ المرء بوسعه بطريقة شخصية جدا وخلّاقة أن يكون مقروءا في العالم كله.
قرأت أغلب ما ما كتب فولكنر وهيمنجواي وفيتزجيرالد. قرأت كل ما كتب أبدايك من مراجعات أدبية للكتب في “النيويوركر”. تعلمت الكثير من أبدايك، واستفدت من مراجعاته لكتبي أيضا. منذ أن ذهبت إلى مدرسة ثانوية أميركية مدنية في اسطنبول، كليّة روبرت، قرأت “توم سوير” بوصفها مُتطلَّبا ضمن المنهاج الدراسي، و”سلام منفصل” و”اقتل طائرا مغردا” مستمتعا بالروح الديمقراطية لهذين الكتابين الداعية إلى المساواة. آنذاك لم أدرس شالينجر في الكليّة، لذلك قرأت “القابض على الغجري” بوصفه كتابا مخرِّبا في سنوات الدراسة تلك. أعجبت بروايات توماس بينشون وذكاء نيكلسون بيكر. أحترم ديف إيجرز.
إنما، عندما يسألني أحد ما عن الأدب الأميركي، فإنني أفكر بهوثورن ومليلفل وبو. بالنسبة لي، قدّم هؤلاء الكتّاب الثلاثة الروح الأميركية أكثر من سواهمربما لأن من الأسهل عليّ مماثلتهم مع قلقلهم الريفي وخيالاتهم البريّة، والرقم الضئيل لقرائهم في أزمنتهم ومقدرتهم وتفاؤلهم ونجاحهم ثم انهيارهم الدراماتيكي. في مخيلتي يصير بو ومليفل وهوثورن أصدقاء لين بقَدْر من من الغموض، أقول يصيرون أصدقائي فقط، وكذلك هم الرسامون الرومانتيكيون الألمان ومشاهدهم الطبيعية على نحو لا سبيل إلى معرفته.
نصائح للكتابة
وأورهان باموك الرسام، كوّن طريقة خاصة في كتابة الكتب وقراءتها، يقول عنها:
مثلما كتبت في كتابي السِيَرذاتي “اسطنبول”، والآن في “براءة الأشياء”، كنت نشأت لأكون رساما. لكن عندما كنت في الثالثة والعشرين من عمري؛ التواء غامض أحدث مسّا في عقلي فتحولت إلى كتابة الرواية.
ما زلت أستمتع ببهجة الرسم. إنني أسعد إنسان عندما أرسم، لكن أشعر أنني مشغول بالعالم، بعمق، عندما أكتب. نعم الرسم والكتابة هما: “فنّان شقيقان”. وقد تعلمت درسا حول ذلك في جامعة كولومبيا، وددْت أن أطلب من طلبتي أن يغلقوا أعينهم وأن يضمروا فكرة ثم يفتحون أعينهم فيحالون شرح في ما إذا كانت الفكرة كلمةً أم صورة. الإجابة الصحيحة: كلاهما! الروايات توجِّهُ تخييليا كليهما: لفظي (ديستويفسكي) ومرئي (بروست ونابكوف). هنالك الكثير من المشاهد التي من غير الممكن نسيانها في روايات ديستويفسكي، لكن، نادرا، ما نتذكر خلفية الصورة، أي الطبيعة والأشياء في المَشاهِد.
أيضا ثمة أنواع من الروائيين الذين يؤلفون مَشاهِد قابلة للتذكر عبر صور واستعارات في ذاكراتنا. قبل “الكلمة الصافية” لفلوبير كانت “الصورة الصافية” في مخيلة الكاتب ذاته. ينبغي على القارئ الجيد أن يغلق الرواية بيده بين الفينة والأخرى، ثم ينظر إلى السقف ويستوضح بواسطة مخيلته تلك الصورة الأولية التي انطلقت منها الجملة أو الفقرة.
وينبغي علينا نحن الكتّاب، الكتابة لهذا النوع من القارئ المتخيل. جوهريا، وبعد كل هذه السنين، علّم الرسام الذي فيَّ ذلك الروائي الذي فيَّ خمسة أشياء:
1- لا تبدأ الكتابة قبل أن يكون لديك مشهد قويٌّ يخص البنية كلها، إلا إذا كنت تكتب نصا أو قصيدة.
2- لا تبحث عن الكمال والتناسق ـ سوف تقتل الحياة في العمل.
3- امتثل لقواعد الاستشراف ووجهة النظر وانظر إلى العالم عبر عينَيّْ الشخصية، إنما من المسموح به كسر هذه القاعدة إنْ توافرت المقدرة على الابتكار.
4- مثل فان جوخ والرسامين التعبيريين الجدد، اعرض ضربات الفرشاة! سوف يستمتع القارئ بمراقبة صناعة الرواية إذا كانت مشغولة بدءا من الجزء الثانوي من القصة.
5- تقصّد الجمالَ العرضيَّ، حيث لا يتخيل العقل أن لا تقصدَ اليدُ أيَّ شيء. الكاتب الذي فيَّ والرسام الذي فيَّ أصبحا أكثر صحبة يوما بيوم. وهذا يفسر لِمَ أنا الآن أخطط رواياتي بصورٍ وكتبٍ مصورةٍ؛ بنصوص وقصص.
وجه اسطنبول
أما مدينة اسطنبول، مركز العشق الأول عند أورهان باموك، والتي تغيرت كثيرا في الآونة الأخيرة على نحو قبيح، بحيث انعكس ذلك في الأعمال الأدبية التركية، فيقول عنها:
انشغلت أجيال عديدة من الكتّاب التُرك بالحياة والاستبداد الاجتماعي في الأناضول الزراعية، في حين “اسطنبول” المسكينة قد كبرت في الخمسينات ـ من القرن الماضي ـ من مليون نسمة إلى أربعة عشر مليونا خلال حياتي. جيرة الضواحي التي كانت قرى صيّادي سمك باتت جزءا من عاصمة الدولة الآن: المصايف الفاخرة من أجل الطبقات المستغربة (أي التي تقلد مثيلتها في الغرب الأوروبي والأميركي)؛ ومساكن العمال والطبقة العاملة التي وصفتها كثيرا في “بيت صامت” بشبانها الغاضبين القوميين، والعلمانيين بمشاكلهم السياسية. أشعر أنني محظوظ جدا لأنني راقبت هذا التضخم والنموَّ المروِّع من الداخل، ومنذ أنْ حدث أغلبه في السنوات الخمس عشرة الأخيرة فإن من العسير أن يدركه المرء كثيرا. لكن مثلما فعلت قبل سنوات، لكي أكتب “بيت صامت”، ما زلت أمشي طويلا في أحياء مختلفة من المدينة وأراها، وهي تكبر وتكبر، مراقباً البنايات الشاهقة التي أخذت مكان ضواحي الصفيح؛ ومجتمعات المحلات التجارية الفاخرة التي بنيت على الحدائق القديمة للسينما الصيفية؛ وكل أنواع المتاجر الجديدة وسلسلة مطاعم الأكل السريع المحلية، تقدّم جميعاً الكثير من الجماهير ومن الحشود اللا نهائية في الشوارع
( الاتحاد الثقافي )