حين يسبقنا إلى الغياب



محمد العامري *

 أصبحت من الذين أصيبوا بفوبيا «اللاب توب»، حيث يفتح شاشته الفضية على موت مفاجئ لأحد الأصدقاء.
كانت تلك السابقة مع صديقي الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني، وكذلك حبيب الزيودي الذي فاجأني برحيله عبر خبر على «فيس بوك».. أيّ موت هذا يتسلل إليك من شاشة صغيرة كي يهدم يومك كاملا؟!
كنت في غمرة تقديم القرابين في القليعات، قرابين الأعياد حيث اصطخاب القرية بالسكاكين وثغاء الخراف.. رحت في سكينة غامضة إلى البيت كي أتفقد الرسائل عبر «الكمبيوتر» فوجدتك يا حبيب قد رحلت برشاقة غرائبية، تماما كعادتك حين لا تمكث في مكان.. تحركت سريعا إلى مثوى قبر دقيق كدقة قصائدك وكنت قد هاتفتك عن قصيدتك «كفر أبيل» كما لو أنك قلت مكانا ما في مخيالك لتذهب إلى غيره.
رحلتك كما شهقة سريعة سببها دهشتك من مشهد الغياب، كما لو أن الغياب معدن يلصف كي يخطف أبصارنا كما سراب يخدع فينا فكرة الحياة..
إنه السقوط في لذة الفكرة وارتكاب الغياب كما لو أنه خيار إنساني، ذلك الصراط الذي لا يعرف المواربة.. أدركت كم هو صعب أن تفقد انفجار أغنية بدوية طازجة من فمك المعطر بشيح الأهل، أغنية كنتَ كتبتها في لحظة عشقك لرائحة الصبوح، حيث قهوتك التي ارتكزت على صوت مهباشك المقدود من شجرة جبلية بعيدة..
أنت الآن في بيت الطاعة حين قفزت عن طاعة الآخرين ورحت بأنفك الأشم تقتفي أثر الأعالي حيث قصرت عن الآخرين.
هل من الممكن أن نتمرد على موت فاقع في الدفاتر والقصائد؟
أما كان يمكن أن نتأخر لو لحظة عن غياباتنا كي نودع تفاصيل حبرنا المدلوق على ورق القلب..
أيّ عيد هذا قضيناه بين شواهد قبور الأهل والأحبة، وأيّ غياب سريع من الممكن أن يركلك إلى البعيد بلا عودة أو غناء؟!
كان موتك أقصر بكثير من أغنية لبدوية تحمل «شكوةَ» أحلامها في فراغ البادية.
كان أقصر مما ينبغي، حيث انخطاف الشهقة في لحظة انهيال التراب على جسدك الرطب.
رشاقة البكاء وانسكاب الدمع في فنجان القصيد.. تلاوة المقدس على بياضك المضي من غير سوء..
ضحكتك المتفجرة في نومك البعيد..
لم أجد في محياك سوى بقايا قصائد ناحت بنايات الرعاة وأعشاب صحراوية تنثّ عطرها في المغيب. أعشاب ترسل بأحلامها إلى ركوة البن في حضرة الجمر.
جمر قصائد ما يزال يتلظى بأشواق بعيدة كنتُ قد كتبتها في لحظة ارتجافة غامضة.
وأذكر قولك الرائق حين قلت في الناي:
«ناي البراري
ما الذي أغواك يا ناي البراري
بي، فَاشتعلتَ لتَستَبيحَ دمي وأدراجي وداري
وسكبتَ في قلبي غواك وما تعتّق في الجرارِ
وحملْتَني يا نايُ أغنيةً على كفين من قمحٍ ونارِ
وندى وندّ، طابَ فوحُهما على شمس وغارِ».
ما يمكن تذكّره فيك أنك الأكثر حنواً على شيحك، والأكثر اشتعالاً في بادية رأت صورتها في مرايا كلامك.
لا أريد أن أرتكب مدحا في غيابك، لكنني على حقيقةٍ من أمر روحي أرد لك جميل حوار كنا فعلناه عن الشعر وعن أمكنتنا.. حوار بين أغواري الشمالية وبين باديتك الشاسعة.. كنا نحلم بأمكنة القصيدة كي ترد لنا عطر تراب كدنا نفقده.
كأس حسرات نشربه على حين غرة، كي نذهب بهزائمنا إلى أمّ أعطَتنا من حليب تينتها الحياة..
وعن أرضٍ أرضَعتْنا العشقَ صرفاً كي نؤوب محملين برايات الأعالي.
هو محضُ غيابٍ سينزل في كل حيّ تباعا
لَكأنني ماء يتقطّر من عمرٍ قصير بقايا موتنا البعيد.
أخاف أن نتورط بالتذكر عنك وعن حياتك الصاخبة..
أخاف أن نجمل فينا عتبا أو تساؤل
لكنني أعرف أن الحب لا يحتمل سوى الحب..

* شاعر وتشكيلي من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *