(فادو) تروي حنين القرنفل


فاروق وادي

 تترك خلفك تمثال الشاعر «لويش كامويش»، الذي تتلاشى إيقاعات شعره في الفضاء ويتبدّى سيفه المهيّأ إلى جانبه. تتخطاه وهو ما يزال يعتلي نصباً حجرياً هائلاً لرجالٍ آخرين منحوتين في الصّخر، قد يكونون شعراء لاحقين عرفتهم البرتغال، هم الآن يقيمون معه في الساحة التي حملت اسمه، على مقربة من الحيّ القديم «بايرو ألتو».
تتجاوز تمثال «فرناندو بيسوا» المعدنيّ القريب في «تشيادو»، جالساً في مقهاه الذي لا يغادره أبداً، لتنحدر في الشارع الهابط نحو ساحة «روسيّو» وسط المدينة. تمرّ على أقدم مكتبات لشبونة لبيع الكتب وأكثرها عراقة. يقابلها فندق يحمل اسم الكاتب الأرجنتيني الأشهر: بورخيس.
بالقرب من البرج الحديدي الذي شيّده مهندس فرنسي اشتهر بتصميم برج «إيفل»، ليطلّ على منطقة «الفاما» ببيوتها البيضاء القرميديّة وقلعة «سان جورج» في قمّة الجبل المقابل.. هناك، في المنحدر، تقف وبشكل دائم، سيّارة ذهبيّة من طراز موغل في القِدَم، تسيل منها دون توقف موسيقى ال «فادو»، وتتصدّر الأسطوانات المدمجة التي تباع فيها، أغنيات أيقونة «الفادو» البرتغالية: «أماليا رودريغويز»، التي صوّرها فيلم عُرض في السنوات الأخيرة، عشيقةً لدكتاتور البرتغال الأشهر «أنطونيو سالازار»، دون أن ينجح الشريط في تحطيم أيقونتها في الضمير البرتغالي.
«الفادو» موسيقى برتغاليّة حزينة، تعتمد آلة الغيتار بالدرجة الأولى. ألحان معاناة وشجن، عشق ولوعة وتمزُّق، وكلمات فراق وحنين وألم، تنحدر أصولها من أغاني البحّارة الضاربين في عرض البحر، الموغلين في اللجّة، تتسلّل إليها ملامح موسيقى عربيّة قديمة، وأخرى إفريقيّة لبلاد عانت طويلاً من الاستعمار البرتغالي.
قد لا تحتاج كثيراً لتعرف معنى الكلمات، لأن اللحن والأداء يدلاّنك على هويّة الغناء الذي تبعث منه إيقاعات تصغي فيها إلى أسى عتيق بات يعشش في الروح البرتغاليّة (بحثت عن مصدر كلمة «البرتغال»، وقد اجتهد أحدهم بردها إلى العربيّة، إذ أطلق عليها العرب هذا الاسم مشتقاً من البرتقال، كونها كانت تعج بأشجار الحمضيات تلك).
أحزان «الفادو» تراها في وجوه البشر؛ في الصمت المهذّب والنبيل للجالسين في «المترو»؛ في انتفاء الضحكات المجلجلة لرجال يجلسون في المقاهي والبارات يحتسون الجعّة أو النبيذ؛ في زهد النساء البرتغاليات في الملبس وتجنُّب الإفراط في مساحيق التجميل، إن لم يكن غيابها تماماً؛ وفي رقّة المياه المنسابة في «نهر التاجو» (التاج) الأكثر هدوءاً.
لقد أتيحت لنا، خلال الأيّام الأولى للوصول، أن نشهد عرضاً ليلياً مجانياً ل «الفادو» في ساحة «براسا دو كوميرسيو» وسط لشبونة، والمتاخمة للنهر الهادئ. وكانت غواية «الفادو» قد اجتذبت جمهوراً كبيراً جلس المئات منهم على الكراسي ووقف الآلاف يشاهدون الحفل على شاشات ضخمة، بهدوء وإصغاء وحزن صامت يتغلغل في الروح.
ربما يكمن مصدر الحزن في الطبيعة الهادئة المسالمة للشعب البرتغالي، حتى إن ثورتهم في القرن الماضي (1974)، والتي أطاحت بأربعة عقود من حكم الطغاة الفاشيين، وعلى رأسهم «أنطونيو سالازار»، كانت الأكثر سلميّة على مدى التاريخ الحديث، حيث غرس الشعب زهور القرنفل في فوهات بنادق الجنود الذين وضعوا حدّاً نهائياً للدكتاتوريّة، فعُرفت ثورتهم ب «ثورة القرنفل».
وربما تنبع أحزان «الفادو» من فقدان البرتغال لمركزيتها الكونية التي انتعشت في عصر الاكتشافات الجغرافيّة خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وأسهمت في بسط النفوذ الاستعماري البرتغالي على جهات الأرض، وإخضاع مناطق شاسعة من العالم، في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبيّة (البرازيل تحديداً، التي استقلّت عن البرتغال العام 1822، وما زالت البرتغاليّةُ لغتَها الرسميّة)، وطالت أجزاء من الهند والصين واليابان، التي خضعت أراضيها لسطوة البرتغاليين ونفوذهم، وظلّ بعضها تحت الهيمنة البرتغاليّة إلى وقت قريب.
أمّا الآن، فعندما تنظر البرتغال إلى ماضيها الإمبراطوري، ثمّ تتأمّل نفسها في اللحظة التاريخيّة الراهنة، فإنها تُحدِّق في وحدتها التي تعيشها على ضفاف المحيط الأطلسي، رغم انتمائها للاتحاد الأوروبي، ومن قبل للسوق الأوروبيّة المشتركة، الأمر الذي لم ينقذها من أزمتها الاقتصاديّة، ومن ارتفاع معدلات البطالة فيها. ومع ذلك فإن البرتغال تحتل موقعاً متقدماً في دول العالم من حيث جودة الحياة فيها، كما في استخدامها لمعطيات العولمة وانتهاج أساليبها.
ربما يكون ملعب كرة القدم هو المكان المناسب لاكتشاف الهدوء الجماعي المتأصِّل، والسلوك الحضاري الذي تتجلى فيه سمات شخصيّة القرنفل المسالمة.
رغم استجابتي المترددة والمفتقرة إلى الحماسة لدعوة أنسبائي البرتغاليين لحضور مباراة وديّة لكرة القدم في ستاد نادي «بنفيكا» الرياضي بين الفريق البرتغالي الذي يشجعونه، وفريق «أرسينال» الإنجليزي، إلا أنني سعدت بالتجربة. لقد وعدتهم أن أشجِّع «بنيفيكا»، على الأقل لأن ثأرنا السياسي التاريخي مع الإنجليز له شرح يطول. وقد اعترفت لهم بخجل، بأنها المرّة الأولى التي أشهد فيها مباراة بشكل حيّ ومباشر لا تُعاد فيها الأهداف على الشاشة، رغم سكني إلى جوار «الستاد» الرياضي لفترات طالت وقصرت، في عمّان وبيروت.
أسعدني فوز البرتغاليين في المباراة؛ جماليّة «الستاد» وغلبة اللون الأحمر فيه؛ تقليد تطيير نسر في فضاء الملعب وتحليقه لدقائق وعودته إلى قفصه بأمان؛ المقاعد المريحة والنظيفة التي لم يفتك بها جمهور «الألتراس»؛ طغيان الحضور الأنثوي؛ والسلوك المتّزن للمشجعين. وكان عليّ أن أتخيّل الجمهور وشغبه التقليدي لو أن اللعب كان على أرض «أرسينال»!
ربما يكون من حسن حظنا أن اليوم الثاني لوصولنا «لشبونة» كان يوم الدخول المجاني للمتاحف وصالات الفنّ التشكيلي والمراكز الثقافيّة. الوقت لم يكن ليسمح بأكثر من زيارة معرض للزيّ التقليدي والأثاث القديم في صالة تقع في قلب العاصمة بالغة الهدوء والنظافة، في الشارع الحجري الصقيل والجميل الذي لا تعبره السيّارات «غوا أوغشتا». ثمّ مشاهدة معرض للفن الحديث في مركز «بيليم» الثقافي، تَظهر الحداثة فيه عبر لوحات قليلة لبيكاسو، ولوحة بحجم جدار شاسع مدهون بالبرتقالي ومسلّطة عليه الأضواء، يتجاوز قدرتنا على استيعاب الحداثة.
ثم ننتقل منه إلى متحف للآثار والمجوهرات القديمة التي تنتسب لشعوب شتّى، ومنها عديد من الآثار الفرعونيّة التي تسرّبت من مصر في واحدة من حقب الفساد الكثيرة هناك. وننتهي بجولة في «جيرينيموش»، المبنى القديم، الجميل، العريق، والضخم، الذي يطلّ على نهر «التاجو» والمحيط الأطلسي معاً، وكان في الماضي مسكناً يعيش فيه الرهبان في «بيليم»، الضاحية الواقعة على الطرف الغربيّ من «لشبونة»، والتي اشتقّت اسمها من مدينة ميلاد السيد المسيح: بيت لحم.
أمّا متحف «غولبنكيان» وحديقته الساحرة التي تتوسط أشجارَها الظليلة بحيرةٌ صغيرة، وتتناثر في أرجائها تماثيل حجريّة ومعدنيّة جديرة بالتأمُّل، فكان له يوم آخر. ومثله المتحف الدائم في «كشكايش»، للتشكيليّة المعاضرة «باولا ريغو»، بخطوطها المتمكنة، الصّلبة والقاسية، حيث يتحوّل الباستيل في يديها إلى كثافة الألوان الزيتيّة ومتانتها. وفي الموضوع، ثمّة كابوسيّة داكنة تذكِّر بأعمال الإسباني «فرانشيسكو غويا»، وإن بموضوعات اجتماعيّة، تبدو فيها الولادة ألماً صرفاً، فيما يتحوّل الرّجل إلى كائن متضائل، مستكين بدعة لحضن امرأة لا تخلو من القبح، بينما يتحرّك الأطفال بوجوه تخلو تماماً من الجمال والبراءة.
وإن كانت أعمال «باولا ريغو» القويّة والراسخة لا تتقصّد رسم الجمال، وربما تغرق في جماليات القبح، فإن البناء المعماري الهرمي للمتحف الذي صممه «إدواردو سوتو مورا»، يبقى تحفة فنيّة في حدّ ذاته. كما أن موقعه على قمّة ربوة تعجّ بالأشجار المعمِّرة المتطاولة والخضرة الآسرة المهيمنة على المكان، يمنحه مهابة معماريّة تحتضن أعمالاً إبداعيّة لا شكّ أنها تترك آثارها في الروح. وإذا كان تصوير أعمال «ريغو» محظوراً داخل المتحف، فإن التقاط صورة لنافذة تركها المهندس مفتوحة على الفضاء الخارجيّ، أسهمت في الاحتفاظ بلوحة بالغة الجمال.. من صنع «سوتو مورا» هذه المرّة

– الرأي الثقافي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *