موسى أبو رياش *
( ثقافات )
ثمة نصوص إبداعية تقرأ على قارعة الطريق أو في صالة انتظار، ويمكن فهمها وإدراك رسالة الكاتب من وراء النص أياً كان هذا النص، فغورها ضحل، ومنالها سهل. ولكن مجموعة “أرى المعنى” لهشام البستاني تتأبى ذلك، وتترفع أن تكون رفيقة درب، أو مادة لتسلية عابرة. وتشترط منك صفاء ذهن، وتفرغ تام، وهدوء وسكينة. وأن تحتفي بها، وتعاملها بكل ذوق وأدب، وأن لا تفرط في أي لحظة متابعة وإعمال نظر، وتدبر وتفكر، وإلا فقد أضعت وقتك، وخسرت جهدك، وخرجت –ربما- بخفي حنين!
النص ليس مبهماً، واللغة ليست معقدة، ولكن المعنى الكامن يتطلب بعض الجهد، لتدرك سرَّ النص، وتجني بعض ثمار ما زرع البستاني في حديقته الوارفة الظلال، طيبة الثمار، جميلة الأزهار!
تتميز مجموعة البستاني بكسر الحواجز بين فنون الإبداع، وهذا حق لا مراء فيه ما دام لم يصنف ما كتب، فهو كتب نصوصاً لا شك في إبداعيتها، وهي مزج بين الشعر والقصة سماها “قصص على تخوم الشعر”. وهي جرأة تحسب له، وريادة تسجل باسمه، وقد يجد من يعيب عليه ذلك، ولكنها سنة الحياة، وضرورة التجديد، التي لا تتوقف عند شكل أو إطار معين!
مجموعة “أرى المعنى” للبستاني نموذج متميز لثراء اللغة العربية وتدفقها، وإمكانية توظيفها بسلاسة ويسر، للتعبير عن الفكرة بأوضح صورة وأجمل تعبير، وأعمق معنى. وهذا لا يتأتى إلا لكاتب يعشق اللغة العربية حد التصوف، ويؤمن بها وبقدرتها الخلاقة، وهي رد قاطع ساطع على من يدعي قصور اللغة وعجزها. وأحسب أن البستاني في “أرى المعنى” قد قدم اللغة بصورة فنية مغرية فاتنة، تساهم في بث الوعي بجمالية اللغة للجيل الجديد، وتعيد لهم الثقة بلغتهم التي تملك إمكانات وقدرات دون حدود إن وجدت من يتعامل معها بحب وإيمان وصدق!
البستاني في “أرى المعنى” صوفي يتعبد في محراب الكون، فهو عاشق للكون بكل ما فيه، يهتم بالمشكلات الإنسانية أينما كانت، ويتعاطف مع الإنسان وعذاباته ونكباته في كل مكان، لا فرق عنده بين إنسان وإنسان، فمن حق الإنسان أن يعيش كغيره في أمن وأمان دون قمع أو تمييز. ومن يفرق بين إنسان هنا وإنسان هناك، لم يصل بعد درجة الإنسانية، إن لم يكن عاراً عليها.
الكتابة عند البستاني، ليست ترفاً أو تسلية، بل هي رسالة والتزام بكل معنى الكلمة، ويتبدى ذلك من خلال نصوص مجموعته، حيث يسلط الضوء على الخراب الذي يلف الكون، وتشغله القضايا الإنسانية، ويسخر من سطحية البعض، ويتمرد على المسلمات الساذجة، ويشرع الآفاق لكتابة ترتقي بالكاتب والقارئ معا، نحو الإحساس بالمعنى وضروة البحث عن المعنى الكامن وراء الأشياء للوصول إلى حالة صوفية للرؤية، واستشراف ما بعد البعد، علَّ ذلك يساهم في المراجعة الذاتية واستدراك مواطن الخلل.
“أرى المعنى” كعنوان للمجموعة عنوان صوفي بامتياز، فرؤية المعاني كمشاهد تتحرك، واستشراف ما وراء الكلمات والأحداث، فراسة لا تنبغي إلا لعاشق ذهب بعيداً في دهاليز الحب الإنساني الصافي، فهو لا يرى ما نرى، لأن رؤيتنا قاصرة محدودة، ولكنه يرى النتائج مقدماً، ويدب الصوت لتدارك ما يمكن تداركه قبل فوات الأوان، علَّ الصرخة تجد أذناً صاغية تنقذ السفينة قبل أن يبتلعها اليم!
تتوزع نصوص الكتاب إلى ثمان وسبعين نصاً في اثني عشر عنواناً رئيساً. ويأتي كل نص متكامل البناء والمعنى، في تدرج ملفت، ينتهي بصرخة تحذيرية أقرب إلى التشاؤم.
يحار الدارس في اختيار نصوص ممثلة، فكلها تصلح لذلك، ولكل منها قيمته ودلالته، وإن كان لا بد، فلتكن نصوصاً صادمة مشبعة بالمعاني.
القرود لا تشنُّ الحروب.
القرود لا تبتكر أجهزة التعذيب.
القرود لا تثقب الأوزون بوقود أحفوري.
“الإنسان أصله قرد؟”
من قال إنّ القرود ترضى؟
وهو هنا يعيب على الإنسان أن يهبط إلى درجة أدنى من درجة الحيوان من حيث الشراسة والإجرام والشذوذ، فالإنسان وحده من يمتهن القتل والتدمير والتعذيب، وهي مهنة تستقذرها حتى القرود، التي لا ترضى أن تكون للإنسان أصلاً، ولا يسعدها هذا الزعم!
قصة “ليلى والذئب” قصة معدلة وراثياً في رؤية معاصرة تخالف المألوف المتوارث، وإن كانت غير بعيدة عن الواقع المعاش. والبستاني في هذه القصة يفتح الطريق لإعادة النظر في كثير من القصص الشعبية، وكتابتها من جديد.
نص “المثقف الصياد” معبر جداً، يفضح عري بعض المثقفين الذين وظفوا ثقافتهم السطحية لاصطياد النساء الجميلات وخداعهن، وهي آفة الوسط الثقافي، رضي من رضي وسخط من سخط.
تحت عنوان “اندلاق المشاعر هذا يثير قيئي” سخرية مرة من مجتمع الفيسبوك الذي حطم القيود، وأصبحت فيه العلاقات والعواطف مشاعاً لكل عابر سبيل، بل إن البعض يفخر بعريه وعهره وخلاعته، حتى أصبح من يتمسك بأخلاقه شاذاً منحرفاً!
ومن النصوص الجميلة: “عندما جلس ليحسب المسافة بين الفرضية والواقع، لم يقم بعدها أبداً.” . فالواقع المعاش متخلف بسنوات ضوئية عن الواقع المفترض، وهذا النص يذكرنا بطرفة…
سأل أمريكي عربياً: ما أحلامك؟!
قال: وظيفة، وبيت، وزوجة.
قال الأمريكي :أنا لا أسألك عن حقوقك، أنا أسألك عن أحلامك !!
فالمسافة شاسعة بين الحقوق والأحلام، كما هي بين الفرضية والواقع.
وهذا النص يختزل البؤس العربي، والتخلف العربي، والانحدار العربي، والفساد العربي، والترهل العربي، والقمع العربي، و… العربي!
ولعل النص قبل الأخير يختصر كثيراً من الحكايات إن لم يختصر المجموعة كلها…
صخرة الوعي فوق القلب ثقيلة ثقيلة.
أنا أحدٌ أحدٌ، قال العارف وحملها ومشى.
فالوعي صخرة ثقيلة جداً، تتعب القلب وتدميه، ومع ذلك فإنَّ العارف الذي تشقيه عذابات قومه يحمل عبء هذا الوعي، وضريبة المعرفة، ويستمر في السعي حاملاً رسالة التغيير ولو كان وحيداً، وغالباً ما يكون وحيداً، لأنَّ الوعي نار تلسع ولن تنطفئ إلا إذا خمد الوعي وتكلس الذهن، وصدئ القلب!
ولا تقل بقية نصوص المجموعة عن النصوص المختارة أعلاه، فكلها تتدافع كلافتات تعلن رسالتها، تنتظر قارئاً مدركاً واعياً، وإنساناً نبيلاً يحمل الراية، يقود الإنسانية من أجل التغيير المطلوب.
إثبات الفضل لأصحابه، خلق نادر لا يطيقه إلا من وثق بنفسه وقدرته وعلو كعبه، ولذا لا عجب أن يرجع البستاني الفضل لكوكبة من الأصدقاء الذين كان لهم يد ولو من بعيد في هذه المجموعة، بكلمة نقد، أو همسة حب، أو اقتراح بسيط، وما يضيره ذلك، غير أن يكسب قلوب هؤلاء كمشروعه الإنساني لكسب العالم وإنقاذه ولو بكلمة.
وبعد، فمجموعة “أرى المعنى” نسيج متقن الصنعة، ذو جودة عالية، وماركة مسجلة باسم هشام البستاني. ولا يملك القارئ إلا أن ينحني إعجاباً بالمجموعة: لغة ومضموناً وأسلوباً وبناءً ورسالة. وليس صعباً أن يستنتج القارئ أن البستاني لن يتوقف عند هذه المجموعة، فالمشروع لم يكتمل، ولا بدَّ من الحفر والقرع لتبليغ الرسالة، وإبراء الذمة. والبستاني مؤهل لإبداع المزيد شكلاًَ ومضموناً، خاصة أنه يشتغل على نصه بتؤدة وتمعن بعد دراسة وبحث واستقصاء، ليأتي نصه قابلاً للحياة، مقاوماً للزمن.
* ناقد من الأردن