“رحلة يوم طويل إلى الليل” ليوجين أونيل..


سارة عبد الحليم

“الماضي هو الحاضر، أليس كذلك؟ إنّهُ المُستقبلُ أيضاً. كُلُّنا نُحاول أن نتخلص منه بالكذب، لكن الحياة لا تسمح لنا بذلك. “بهذه الكلمات، تردُّ ماري على زوجها جيمستايرُن، عندما يطلب منها أن تسامحه على الماضي، وذلك في مسرحية “رحلة يوم طويل إلى الليل”، رائعة المسرحي الأميركي الشهير يوجين أونيل، الحائز على جائزة نوبل في الآداب. في هذه الكلمات، نجد دلالةً على هيمنة الماضي وقدرته التدميرية والمتصدِّية لأي شكل، أو حتى طيف مار، من السعادة الممكنة لعائلة تايرن.

المسرحية، التي كان أونيل قد كتبها كشبه سيرة ذاتية له ولعائلته، في أربعينيات القرن الماضي، والتي صاغها “بالدم والدموع”– كما قال– عُرِضَت مُؤخّراً على خشبة مسرح أبوللو في العاصمة البريطانيّة لندن؛ وهي من إخراج أنطوني بيج، ومن بطولة الممثلين القديرين ديفيد سوشيت ولوري مِتْكاف بدوري الأب والأم، وقاسمهما البطولة – في آداءين لم يقلا روعةً – الممثل تريفور وايت بدور جيمي، الابن الأكبر، وكايل سولِر بدور إدموند، الابن الأصغر من أخيه بعشرة سنوات، حيث يفترض أن إدموند يجسِّد شخصية أونيل في شبابه، على اعتبار أن المسرحية إنما تقدم ما يشبه المحاكاة المؤلمة لفصل من حياة المسرحي الفذّ.

تدور أحداث المسرحية، في حيّز زمني قصير نسبياً، وهو يوم كامل، يمتد منذ الصباح حتى منتصف الليل، من شهر أغسطس/ آب في العام 1912. كما أنّ حيّزها المكانيّ محدودٌ أيضاً، حيث تدور جميع المواجهات في منزل العائلة الشاطئي بولاية كونيتيكت الأميركية. في العرض، الذي امتّد قرابة ثلاث ساعات، كان الجمهور شاهداً على يوم، وكأنه دهر، في حياة عائلة تايرن.في ذلك اليوم “الدهري”، اختُزِلَت كل آلام العمر وجُسِّدَت فيه. حيث نرى أفراد العائلة عالقين في دوامة من المواجهات والشجار واللوم والاتهامات المتبادلة، التي تستند أكثر ما تستند إلى جراح وأخطاء تُستعاد من تاريخ العائلة، وتحديداً من أخطاء الأب، جيمستايرن، الذي عمل ممثلاً لفترة من حياته. هذا الاسترجاع للماضي لا يفتأ يعكِّر كل محاولات الصلح والحب في الحاضر.

ومحاولات الصلح هي ما تبدأ به المسرحية، التي تستهلّ أحداثها بمشهد عاطفي بين جيمستايرن وزوجته ماري، في صباح يوم صيفي بعد الإفطار. في هذا المشهد، نعلم أنّ ماري كانت غائبة عن المنزل، ومن تصرفات الزوج، ندرك كم أن عودتها تُسعده، إذ نراه يحرص على إحاطتها بالحنان والإغداق بالإطراء على مظهرها البادي عليه التعب والإجهاد. هذا المظهر المُنهَك يبدو منطقياً إذ نكتشف سريعاً أن ماري كانت في مصحة تتعالج من إدمان المورفين، وهو إدمانٌ سببه العناية الطبية السيّئة التّي وفرها لها طبيب رخيص، كان زوجها، المشهور ببخله لدى أبنائه كما لدى زوجته، قد عيّنه ليعالجها في الماضي.

من هنا، تبدأ شخصية جيمس والآلام التي سببها لعائلته بالتكشّف و”الانفضاض” التدريجي أمام الجمهور؛ فهذا الرجل، برغم كل حبِّه الظاهر لزوجته، كان فعلياً أحد أسباب تعاستها، إن لم يكن أساس معاناتها. وبخله، كما نرى لاحقاً خلال “اليوم الطويل”، مدعاة احتجاج وشكوى أفراد عائلته كافة، زوجته وابناه، الذين لا يوفرون أي فرصة للوم جيمس، كزوج وأب، على أخطاء الماضي، الذي يحاصر الحاضر من كل النواحي.

فإدمان ماري مثلاً، الذي يُفترض بأنه قد عُولِج، لا يزال يشكِّل نقطة خوف وأحد مصادر البؤس لدى العائلة برمتها، حيث أن الأب والابنين يتخوفون من أن تُصاب بانتكاسة، وهي بدورها تشعر بأنهم لا يثقون بها، وتثقلها شكوكهم الدائمة بها – وهي شكوك نكتشف أنها في محلِّها، فبينما يمضي اليوم، وتُقلب ساعاته، نكون شاهدين على لجوء ماري إلى تعاطي المخدر ثانيةً، الذي يبدو أنه عزاؤها لاحتمال وطأة حاضرها الأليم.

لكن الإدمان لا يقتصر على ماري وحدها، فالأب جيمس وابناه جيمي وإدموندمدمنون فعلياً على شرب الكحول. طيلة اليوم “المسرحي” نراهميشربون أكثر فأكثر، إما داخل المنزل أو عند خروجهم للحانة، وهو إدمان يفترض أنه ينسيهم همومهم، بيد أنهفي ذات الوقت،يسرّع ويشحن وتيرة الشجار والاحتقان التي نراها تنفجر بين الحين والآخر بين أفراد العائلة، ثم تهدأ قليلاًلتعود مرة أخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية. والشرب أيضا نقطة احتقان تعتمل في نفس ماري ضد جيمس؛ فماري تعتقد أن عادات زوجها وإسرافه في الشرب شجعت ابنيها على السير في الطريق ذاته.فنراها في أحد المشاهد تتحدث بنبرة تهكمية تطوي مرارة عن عادات تايرن في الشرب قائلة: “أعلمُ ما أتوقعه. ستكون ثملاً هذه الليلة. حسناً، هذه لن تكون المرة الاولى، أليس كذلك – ولا حتى الألف؟”

على أن الإدمان ليس المشكلة الوحيدة، فعلى الجهة الأخرى، حال بخل تايرندون شراء منزل “حقيقي” للعائلة، على حد تعبير ماري، والاكتفاء بشراء منزل شاطئيلهم (من النوع الذي تقضي فيه العائلات إجازة الصيف)، الأمر الذي عظّم شعور ماري بغياب الأمان وانعدام الاستقرار. هذا الشعور كان من أسباب تعاستها، فيحلو لهاالعودة، من وقت لآخر، إلى حياتها ما قبل الزواج، عندما كانت تعيش مع والدها، فتقارن ماضيها ما قبل جيمس بحاضرها معه، فتثقلها الخيبة مجدداً. تضع ماري دائماً جيمس في مقارنة مع والدها، حيث تكون المقارنة، قطعاً، لصالح الأخير، وذلك في سياق “أَمْثَلَة” مبالغ بها ترسمها ماري لماضٍ لم يتحقق. لعلّ الصدمة الأكبر، التي شكلت نهاية للهناءة المتخيلة في بيت الأب، هو موت والد ماري بالسل، وهو فقد لم تتجاوزه.

ويعدّ السلإحدى الثيمات الفرعية في المسرحية، كما أنه مصدر خوف وتهديد آخر للعائلة، فالابن الأصغر إدموند (أونيل في شبابه)، مصابٌ بهجرّاء الوقت الذي قضاه يعمل بحاراً. لكنّ العائلة تخشى إطلاع ماري على حقيقة الوضع الصحي لابنها، كي لا تنتكس. وماري بدورها، تحاول أن تصرف كل علامات المرض الظاهرة على ابنها، على أنها مجرد رشح بسيط، لأنّ الإنكار، كما الإدمان، عاملان يساعدان ماري على تخطي ألمها، بموازاة عامل ثالث، هو الماضي ما قبل الماضي، أي ماضيها قبل زواجها بجيمس، الذي تظل تعود إليه مراراً. فماري تقدِّس حياتها قبل الزواج وتعتبرها من أجمل ما عاشت. فبالإضافة إلى تفضيلها الحياة مع والدها على تلك مع زوجها، يحلو لماري الحديث عن طموحاتها الموسيقية، هي التي كانت تعزف على البيانو، قبل أن تذوي موهبتها بعد اكتساب يديها رجفة الإدمان، كما تتذكر بشغف أملها، ذات يوم، في أن تصبحراهبةً، قبل أن تتعرف على جيمستايرن وتحبه وتتزوجه، لتبدأ منذ ذلك الحين السير في درب آلامها.

لعلّ تقديس ماري لماضيها، ما قبل جيمس، مبالغ فيه، لكنه إن دل على شيء فإنما على مدى بؤسها الحالي، الذي يُفترَض أن جيمس هو الذي سبّبه. من هنا، يبدو من الصعب علينا، كجمهور، أن نتعاطف مع جيمس، بل إننا قد ننفر منه، وقد نكرهه أحياناً.

في المسرحية، لا تقتصر الأحزان على الأم، فالابنان أيضاً لهما نصيب من العذابات التي سببها لهما والداهما، كما نكتشف من خلال الحوارات، والشجارات، التي تمتد طوال اليوم. فجيمي، الابن الأكبر، الذي دخل عالم التمثيل بسبب علاقات والده الممثل، يشعر بالمرارة تجاه أبيه وخياراته، ويلومه على دفعه إلى مهنة لا يحبها ولم ينجح فيها. كما أنّه يكثر من لوم والده على إنفاقه المال على استثمارات لا معنى لها،بدلاًمن الإنفاق بشكل جيد على العائلة. احتقار جيمي لوالده يبدو جلياً في خطابه، والوالد بدورهلا ينتظر الكثير منه، وهو يقارنه على الدوام بأخيه الأصغر، الذي يتفق الأب كما الأم على تفوقه على أخيه الأكبر.

على أن إدموند هو الآخر، مثل جيمي، يبدو ناقماً على الأب. وحين يكتشف أنه مصاب بالسل، يرتاع لفكرة الذهاب إلى مصحة رخيصة، بسبب بخل أبيه، فنراه، في الفصل الرابع– والأخير – من المسرحية، عائداً من الحانة، شبه ثمل، ليوبخ أباه على تقشِّفه مع عائلته. في هذا المشهد المفصلي، يكون الأب جالساً لوحده يلعب بأوراق الشدة، عندما يدخل عليه إدموند غاضباً ومعاتباً، فينبري الأب مدافعاً عن نفسه، فيروي له، ولنا، عن طفولته التي جبلته على ما هو عليه. نكتشف أن جيمس عاش طفولةً صعبة، إذ تخلى والده عن أمه، ما اضطره للعمل ساعات طويلة كل يوم لقاء فتات ليتمكنمن مساعدة عائلته، التي عاشت فقراً مدقعاً. هذا الفقر جعل جيمس يستغل كل قرش يملكه حتى الرمق الأخير،وأضحى للدولار الواحد، بالنسبة إليه، قيمةً أكبر بكثير من قيمته الفعلية، كما يعترف هو بنفسه، إذ يؤكد لابنه أنه تعلم “الحرص” في أيام الشقاء تلك، مقراً: “ما إن نتعلمَ درساً، حتى يكون منالصعب أن نبطلَ تعلّمه.” هنا، تبدو على إدموند علامات التعاطف مع والده، وهو تعاطف يتزامن مع تغير شعور الجمهور تجاه جيمس، فبعدما كنا نكرهه، لا يسعنا الآن سوى الإشفاق عليه، وتحديداً لمعرفتنا بأن ماضيه الصعب هو الّذي صقله على ما هو عليه، لينسحب هذا الماضي، المشحون بالقسوة، على حاضره وحاضر أسرته، متسبباً في تجّذر آلام مضاعفة. فعلياً، يتبدى لنا جيمس في داخله كإنسان طيب، “مسكين”، لم تسعفه ظروفه بأن يكون أفضل مما أصبح عليه.

ولعل تعاطفنا يزداد مع اعتراف جيمس أن تقديره الزائد للمال وخوفه من الفقر دفعانه إلى التفريط بموهبته التمثيلية؛ فلقد تخلى عن التمثيل الجاد، واختزل مسيرته الفنية بدور تجاري “وحيد” مربح، ظل يجترّه، لأجل المال. هذا الاعتراف يُرينا أن جيمسيشارك أفراد عائلته الأحلام المجهضة والشعور بالإحباط، فنكتشف أنه هو أيضاً غير سعيد، كما ندرك أنه هو الآخر ضحية الماضي، كباقي أفراد عائلته.

في هذا اليوم الطويل والمستنزِف عاطفياً، لا يبدو أن الماضي يترك أحداً بسلام، فآلامهتضرب عميقاً في الحاضر والمستقبل، لتجهض أية محاولة للسعادة. يكمن التجسيد الأكبر لهذه الحقيقة في المشهد الأخير من المسرحية، إذ ندخل في منتصف الليل، وقد اجتمع الأب والابنان، شبه سكارى في غرفة المعيشة، فتنزل إليهم ماري، مخدرةً بالكامل، وتبدأ هذه المرّة باستذكار حياتها ما قبل زواجها بجيمس، تلك الحياة البعيدة الآهلة بالأماني والوعود. فجأة تقف، مشوّشة، مرتديةً فستان عرسها، وتستعيد قصة حبّها لجيمس. في تلك اللحظة، تبرق عيناها، وتبتسم قائلة: “لقد وقعتُ في هوى جيمس تايرن، وكنتُ سعيدة جداً…لبرهة”، لتؤكد بذلك على ما كشفت عنه أحداث اليوم، وهو أن السعادة هنا ما هي إلا لحظات شاذة في رحلة الآلام والعذابات الطويلة تلك.

هذه الرحلة، هي ليست رحلة يوم واحد وفقط، بل هي رحلة كل يوم في حياة آل تايرن، وهي إن كانت قد انتهت مبدئياً في الليل، إلا أنها فعلياً لن تنتهي بانتهاء اليوم، وإنما ستظل قائمة في سياق حياة العائلة، وسوف تنتهي بـنهاية أفراد العائلة أنفسهم.هذه النهاية، نهاية اليوم ونهاية الحياة، يدل عليها العنوان، كما حياة كاتبها، إذ أنّ أونيل نفسه لم يكتب المسرحية إلا بعد وفاة أبويه وشقيقه، كما أنه رفض أن تُنشر إلا بعد وفاته، لأنه فقط حين يموت، تكون سلسلة العذابات قد انتهت

( شرفات ثقافية – الدستور )

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *