يوسف ضمرة *
إذا كانت الفنون بدأت للقيام بدور وظيفي معين، كرسومات الكهوف القديمة مثلاً، فإن هذا لا يعني أن على الفنون أن تظل محكومة بهذا الدور الوظيفي إلى الأبد.
وفي المبدأ، فإن أحداً ما لا يستطيع تأكيد تلك الوظيفة للرسوم المذكورة أعلاه، أي أن كل ما يقال عن دورها الوظيفي هو محض اجتهادات، فقيل إن رسم السهم مخترقاً جسد الثور يشكل حافزاً للصياد وقوة دافعة لإتقان وظيفته. ولم يُقل ـ بحسب قراءاتي ـ إن هذه الرسومات كانت في جانب منها على الأقل نوعاً من الترفيه والتجميل وتحقيق متعة بصرية.
أما في الجانب الآخر، وهو الأهم، فإن ما كان يعتبر في فجر التاريخ الإنساني دوراً وظيفياً للفن، لا يعني أن يستمر الفن في القيام به إلى آخر الحياة، لا لأن الفن يعجز عن ذلك أو لا يستحق هذا الدور، وإنما لأن الفنون كلها فعل متطور في دينامية متواصلة.
فإذا كانت الملاحم القديمة عند الشعوب تحفظ تاريخ تلك الشعوب حينا، وتحافظ على قيمها العليا حينا آخر، فإن هذا الدور أصبح ميسورا القيام به بشكل أفضل، وعلى نحو أكثر دقة من دون اللجوء إلى الفنون أو الآداب. صارت لدينا وثائق مصورة ومحوسبة وكتابات تأريخية وسجلات محفوظة بوسائل يصعب إتلافها أو فقدانها.
وإذا ما حصرنا الفنون على اختلافها، في الدور الوظيفي، نكون حكمنا عليها بالشيخوخة التي تعجز عن الاستمرار في القيام بواجباتها العضوية على وجه أمثل.
تقول دراسة في علم الجمال عن لاعب كرة القدم في لحظة تسجيل الهدف، إنه لا يفكر في الطريقة الأجمل مقدار تفكيره في الطريقة الأنجع، ولكنه في النهاية يقوم بفعل جمالي ممتع. وعلى الرغم من أن هذا المثال ينسجم مع الدور الوظيفي للفن، إلا أنه هنا يتلمس البعد الجمالي الذي لم يلتفت إليه الباحثون الأوائل، الذين قصروا اجتهاداتهم على الوظيفة.
ربما يبدو من المثال أيضاً أن الوظيفة هي الأساس، وأن الجمالية مجرد تحصيل حاصل، ولكن السؤال الفوري هو: هل كانت رسومات الكهوف لتقوم بدورها الوظيفي لو لم تكن على درجة عالية من الجمالية الفنية؟ قطعاً لا. وهذا يقودنا إلى استنتاج مهم، مفاده أن الفنون ـ حتى حين نقصرها على الدور الوظيفي المادي ـ لن تكون قادرة على القيام بهذا الدور ما لم تتمتع بشكل جمالي رفيع، يخلق متعة بصرية أو سمعية كالموسيقى الطاردة للأرواح الشريرة مثلاً، فهذه الموسيقى لم تكن عشوائية أو مجرد طرق ألواح خشبية بعضها ببعض كيفما اتفق، وإنما كانت تؤدى وفق إيقاعات منضبطة ومدروسة،
لكن الأهم من ذلك كله، هو أن الفنون حتى لو بدأت كذلك، فإنها لم تعد كذلك، هذا لا يعني أنها تفتقد دورا جوهريا تقوم به، بل يعني أن الدور لم يعد ماديا مجردا فقط. صار على الفنون الآن أن تقوم بأدوار مركبة ومختلفة من دون أن ننسى وظيفة الإمتاع الضرورية التي تشكل دافعا أساسيا لتقوية الدور الوظيفي الجديد. وهذا الدور يتعلق بالعقل، بالمفاهيم والأفكار والطرق التي يمكن سلوكها لمعرفة الذات والآخر والعالم، أي أنها تقوم بالمشاركة الفاعلة في صياغة الوعي البشري، ما يؤهله للمضي قدماً في مواجهة الحياة وأسرارها الغامضة.
( الامارات اليوم )