فيلم “الخروج للنهار ” : وجه آخر للموت العالق


أمل الجمل *

حكاية عادية، بسيطة، واقعية، مألوفة إذ تتكرر في عالمنا آلاف المرات عن تلك الشخصيات المهملة، العاجزة، المقهورة والمشوهة. حكاية عن الفقر والمرض والموت، من دون بداية ولا ذروة أو نهاية، تخلو من الأحداث ومن الصراع الظاهري، لكنها تظل آسرة بلغتها السينمائية الخالصة والساحرة التي نسجت وشائجها بأسلوب استثنائي المخرجة المصرية هالة لطفي في فيلمها الروائي الطويل الأول “الخروج للنهار”.

الفيلم بمثابة متوالية بصرية متمهلة بطيئة يتطابق فيها زمن السرد مع زمن الحكاية التي تستمر على مدار يوم كامل وتتوقف عند صباح اليوم التالي، نعايش خلالها أدق التفاصيل في حياة أسرة من ثلاثة أفراد تعيش في ظل مجتمع تكتنفه التشوهات. الأم (سلمى النجار) تعمل ممرضة، وهي العائل الوحيد لأسرتها، وهو حال نسبة كبيرة من البيوت المصرية، أما ابنتها سعاد (دنيا ماهر) فتاة ثلاثينية عانس لم تخرج من البيت منذ شهور لترعى أباها المشلول تماماً، والذي جسده والد المخرجة (أحمد لطفي) الذي تُوفي عقب الانتهاء من تصوير الفيلم بشهرين.

بطلتا الفيلم اثنتان من النساء تعيشان الموت مع رجل يحتضر. بين المرأتين تيارات تحتية تشي بالعلاقة المرتبكة بينهما، بالغضب المكتوم وأشياء أخرى غير معلنة تُنذر بها الإشارات الجسدية والكلمات القليلة جداً التي تفلت أحياناً والنظرات المتبادلة بينهما. تحيط الأم نفسها بسياج من البرودة واللامبالاة، وكأنها تخلصت من عقدة الذنب، وليس لديها أي إحساس بالأسى تجاه أفراد عائلتها، وكأنها اكتفت بالدور الذي تقوم به خارج البيت. بينما الابنة ممزقة بين حبها لأبيها وتعاطفها معه وبين ضغوط الحياة اليومية المتراكمة عليها التي تستهلكها وتُنهكها نتيجة الاعتناء به ورعايته، مما منعها من العمل أو الخروج من البيت أو حتى من النجاح في التواصل مع ذلك الشاب الذي ارتبطت به. تُهمل الفتاة نفسها وتبدو شاردة ضائعة يتجسد هذا منذ لحظة استيقاظها المتكاسل وكأنها لا ترغب في الاستيقاظ، وحتى عندما تُرغم عليه تظل تتلفت من حولها كأنما تبحث عن شيء تستيقظ من أجله، وتكشف نظرتها التائهة عن ذلك الخواء الروحي وعدم الرغبة في الحياة.

عالم منعزل

تعيش كل من المرأتين حياتها الميتة في عالم منعزل عن الأخرى، وما يجمع بينهما هو ذلك الرجل، والبيت الفقير بإضاءته الصفراء الباهتة وجدرانه الكالحة الشاحبة كأنه سجن حصين، يجمع بينهما ذلك الشرود والإحساس الطاغي بالضياع والاستسلام للمصير المبهم الضبابي الذي يُؤكده باستمرار ذلك الضوء القوي القادم من باب البلكونة ليحجب بقوة ما وراءه، مانحاً الإحساس بأن لا شيء في الأفق. في لحظة من اللحظات يشعر الرجل بأنه عبء عليهن، وكأنه يريد أن يُعجل بنهايته فيرفض تناول الطعام، فقد صار المرض عبئاً وجحيماً لا يطاق، خاصة بعد أن أخذت قُرح الفراش تنتشر في جسده الحي، فتنهره الابنة في ضيق، مع ذلك تظل سعاد ترعى أباها بحنان يكشفه تفكيرها الدائم وإلحاحها في ضرورة شراء مرتبة طبية من أجل راحته، وتُؤكده لمسات يديها الرقيقة على جروحه أثناء وضع المراهم، وأثناء نقله بصعوبة على الكرسي المتحرك، وطريقتها وهي تربت على كتفه أثناء وجوده في البلكونة مُعلناً عن ضجره، بالإضافة إلى قدرتها الحانية على أن تقوم بتغيير ملابسه وحفاضته (البامبرز) وغسل ملابسه الملوثة بفضلاته من دون تأفف أو اشمئزاز، كأنه طفلها.

القاسي والواقعي

يطرق الباب فجأة زائر غريب. إنه ابن الخالة، شاب يقضي فترة التجنيد، وعلى ما يبدو أنه يرغب في الارتباط بسعاد، وهي لا تريد. بعد تلك الزيارة تقرر الابنة الخروج من البيت. هل كانت تفكر في أن تهرب من زيجة لا ترغب فيها؟ أم من أجل مقاومة الموت الذي تحياه؟ أو ربما هي رغبتها في حسم علاقتها بشاب ارتبطت به، ولم تره منذ شهور. في الشارع نراها مترددة خائفة من العبور، مثلما هي في علاقتها مع الناس الذين تلتقيهم، ومنهم تلك الفتاة العانس المضطربة المحجبة التي تتوهم أن الجن أصابوها، فتندفع بتلقائية لتحكي عن زياراتها المتكررة إلى المشايخ ثم القساوسة حتى لا يفوتها قطار الزواج، ثم فجأة تطلب من السائق التوقف وتهبط من السيارة. بينما سعاد تتأكد من تهرب الشاب الذي ارتبطت به، فتحسم أمرها بكبرياء، وذلك بعد أن يأتيها خبر انتقال والدها إلى المستشفى ودخوله في غيبوبة كاملة.

في الصباح نرى الأم تسكب الماء، وتمسح بلاط الشقة، بعد أن تركت زوجها في العناية المركزة، وتعود الفتاة من الخارج بعد أن قضت ليلتها في المقابر، لأنها لم تجد مالاً كافياً للمواصلات لتعود إلى البيت. من خارج الكادر نسمع صوت ضربات عالية قوية، نُدرك بعدها أن الأم تقوم بتنجيد مرتبة الأب، وكأنها تنفض العطن والعفونة والموت عن حياتها، وهنا تسألها الابنة: “هندفن بابا فين؟”. ذلك السؤال القاسي والواقعي في آن يُؤكد تلك الرغبة الدفينة التي تجمع بين المرأتين في الخروج إلى النهار. تلك الرغبة التي تلتقي مع رغبة الرجل المحتضر الذي أسقط نفسه عن قصد من فوق السرير، ليُحقق لهما رغبتهما غير المعلنة، وليخرج هو الآخر إلى نهاره الخاص. فالخروج للنهار هو الاسم الذي أطلقه قدماء المصريين على كتاب صلوات العالم الآخر، والذي أطلق عليه المستشرقون “كتاب الموتى”.

ميراث الخوف

نجحت هالة لطفي ـ المؤلفة والمخرجة ـ في أن تتحرر من ميراث الخوف من لحظات الصمت الطويلة في السينما المصرية. مثلما برعت في تحويل العادي والمهمل واليومي الرتيب إلى استثنائي، كانت خلاله الصورة السينمائية تتحدث بلغة أكثر قوة ودلالة من اللغة المنطوقة. تحقق ذلك على المستويات كافة، بدءاً من الديكور والإضاءة واختفاء الموسيقى والاكتفاء بأصوات الشارع وهمس الطبيعة، إلى جانب شذرات من أغنية “أنا وأنت ظلمنا الحب” لأم كلثوم، وأغنية “طال انتظاري” لمحمد عبد الوهاب وليلى مراد، مروراً بزوايا التصوير والتكوينات المقطوعة للكادرات المعتمدة ـ حتى تجمع بين الأم والابنة في لقطة واحدة على الرغم من كون كل منهما في مكان منفصل من الشقة ـ وحركات الكاميرا الطويلة المتروية، فقد اعتمدت في الأساس على اللقطات الطويلة الواسعة الممتدة، لكنها لم تُهمل اللقطات المتوسطة، وعلى الأخص القريبة جداً التي ظلت تسمح للمتلقي بالاقتراب الكافي من أبطال العمل ليُدرك إشاراتهم الجسدية والنفسية، فيتجاوب معهم، ويشعر بأحاسيسهم، وينفعل بهم، ويتعاطف معهم أو ضدهم.

برغم ما كل سبق يظل المفتاح السحري، الذي حقق الصدق الفني لهذا الشريط السينمائي، متجلياً في قدرة هالة على الإمساك بزمام الزمن النفسي للشخصيات من دون زيادة أو نقصان، ذلك الزمن بحضوره اللافت في تعميق المأساة، مع الحفاظ على وتيرة تلك الحياة التي تعزف على إيقاع الموت القبيح العالق في الأفق.

التجربة الأولى

ينتمي الفيلم إلى السينما المستقلة، فجميع العاملين به من ممثلين وفنيين يخوضون تجربتهم الأولى باستثناء مدير التصوير، وقد تم إنتاجه عن طريق شركة حصالة التي أنشأتها المخرجة، بمشاركة عدد من أصدقائها من صناع الفيلم، كما حصلت على دعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون، إلى جانب منحة الإنتاج وما بعد الإنتاج من صندوق سند بمهرجان أبوظبي السينمائي، وهنا يتجلى بوضوح دور المهرجانات السينمائية حينما تُساهم بدور بارز وفاعل في إنتاج سينما مغايرة، تنتمي للتحف السينمائية الحقيقية غير التجارية. وقد تم عرض الفيلم ضمن فعاليات الدورة السادسة لمهرجان أبوظبي السينمائي، فحصد جائزة اتحاد النقاد العالميين (الفيبريسي)، وجائزة أحسن مخرج عربي ضمن مسابقة آفاق جديدة.

بقي أن نُشير إلى أنه من المعروف عن هالة لطفي أنها قادرة على مساعدة أصدقائها والوقوف إلى جانبهم، حتى بشكل تطوعي، لذلك لم يكن من المستغرب أن يقف بجوارها آخرون وجهت إليهم الشكر في فيلمها، ومنهم: إبراهيم البطوط وتامر السعيد وانتشال التميمي وسمير فريد، ومجدي أحمد علي الذي اعتبرته شريكاً حقيقياً في الإنتاج، إذ ترك لفريق العمل مفتاح مكتبه حتى انتهوا من الفيلم.

( الاتحاد )

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *