شهاب الدين وأخوه


أمجد ناصر *

 
في ليلة تشبه ليلة الأربعاء الماضية، قبل أربع سنين، لم أنم حتى وقفت على اسم الفائز في الانتخابات الامريكية. مثلي مثل أي مواطن أمريكي (أنا غير الأمريكي بالطبع) أريد أن أطمئن إلى مصير مرشحي! شيء كهذا فعلته منذ أيام كلينتون، وأحسب أن ذلك ما يدأب عليه كثيرون غيري في أنحاء مختلفة من العالم مذ صارت أمريكا القطب الأوحد في العالم وصاحبة قرار البتِّ في مصائره. فالانتخابات الأمريكية لم تعد، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على الأقل، انتخابات محلية تعني أبناء الساحل الغربي أو الشرقي للولايات المتحدة، بل أصبحت انتخابات عالمية بامتياز. الفارق الوحيد بيننا، نحن غير الامريكيين، وبين الامريكيين أننا لا يحق لنا التصويت.
لكني لم أسهر ليلة الأربعاء بطولها. قلَّبت محطات التلفزة العربية والانكليزية ورأيت الديكورات والغرافيك وسائر ‘العدّة’ التي تُنْصَبُ في الاستديوهات في مثل هذه المناسبة، بل والوجوه التي لا تراها (في بريطانيا مثلا) إلا في الملمات مثل المذيع المخضرم ديفيد ديمبلبي.. لكني قررت، أخيراً، بعد طواف سريع على أكثر من محطة و’قمر’ أن أشاهد فيلماً قديماً لـ ‘الطفلة المعجزة’ فيروز بعنوان ‘دهب’. لم تكن لدي رغبة ولا شغف، بل ولا فضول لمعرفة ما يجري على الجانب الآخر من الأطلسي. فجأة تقزَّمت الانتخابات الامريكية ‘الكونية’، فصارت انتخابات محلية في مكان مغمور لا يعنيني أمره في شيء. فجأة تحوَّل ‘رئيس العالم’ إلى مجرد رئيس في جمهورية موز!
هل هذه سياسة؟
بالطبع كلا. إن ما أقوله ليس من السياسة في شيء، بل ليس موضوعياً. فأمريكا لا تزال أمريكا. رئيسها لا يزال، تقريباً، رئيس العالم. ومن يجلس في ‘البيت الأبيض’ يمكن له أن يؤثر في فلسطين وسورية والعراق وإيران وافغانستان، مثلما بوسعه أن يؤثر في الهند والصين.. بل وفي روسيا أيضاً. المقصود أن هناك قدرة هائلة لهذا الرجل الذي سينتخب في ليلة الأربعاء على التحكم بمصائر عديدة في العالم.. ومع ذلك لم يكن يهمني الأمر. فضلّت أن أرى ‘بوز’ اسماعيل ياسين الممطوط شبراً إلى الأمام على أن أرى وجه أوباما.. أو رومني.. خصوصا الأول الذي طلع ‘مقلباً’ كبيراً.
قبل أربع سنين وفي ليلة تشبه ليلة الأربعاء الماضي كان عندي إحساس شخصي (ومئات الملايين غيري) بالانتصار. كأننا، نحن ‘غلابى’ العالم ومقهوريه ومهمشيه، منْ ينتصر. مَنْ يتم انصافنا. مَنْ يقرر التاريخ، في لحظة عدل نادرة، أن يقف الى جانبنا. كان هذا شعوري حيال باراك أوباما المرشح ذي الأصول الافريقية الذي عاش طفولة قاسية وصارع أقداره، المرسومة سلفاً كشخص أسود، وتغلَّب عليها.
رئيس أمريكي ذو أصول افريقية في ‘البيت الأبيض’؟!
لم يكن ذلك قليلاً أبداً. إنه حدث تاريخي بكلِّ معنى الكلمة.
غير أن تاريخية ذلك الحدث انتهت، للأسف، عند تلك اللحظة التي أعلن فيها فوز باراك أوباما بالرئاسة. أما ما حصل بعد ذلك فليس من التاريخية ولا الاستثنائية ولا التفرد في شيء. مجرد رئيس أمريكي آخر في ‘البيت الأبيض’. مجرد ‘قصة نجاح’ أمريكية تشبه الأفلام.. الامريكية كذلك.
فالرجل التاريخي لم يقم بفعل تاريخي واحد.. في الخارج على الأقل. فقد يحاجج مناصروه الامريكيون بتاريخيته من خلال برنامج الرعاية الصحية الذي تمكن من إقراره جاعلا لأربعين مليون امريكي، خارج التغطية الصحية، مدخلا الى ذلك. هذا حدث كبير. تاريخي كما يمكن لأنصاره أن يقولوا. لكني أتحدث عن شيء آخر: مسؤوليته حيال أحداث عصره. تحديداً: الأرواح التي كان يمكن انقاذها لو أنه وفَّى وعده (فضلاً عن تشدّقات بلاده) بالانتصار الى حق الشعوب في تقرير مصيرها واختيار حكامها. فأيُّ عمل تاريخي يمكن أن ينسب الى هذا الرئيس الذي جدَّدت أغلبية الامريكيين ثقتها في قيادته؟ ماذا حقاً؟ الانسحاب من العراق الذي لم يكن مفترضا أن تكون فيه قوات بلاده في المقام الاول، ولما صارت هناك قطَّعت أوصاله الاجتماعية وزرعت فيه بذار الفتنة وقدمته، قبل خروجها الذي يشبه الهزيمة، لقمة سائغة لإيران؟ تقليص قواته في افغانستان والاصرار على سحبها في غضون جدول زمني معين؟ ولكنه لن يترك افغانستان افضل مما كانت. فلم تحل أيّ من مشاكل تلك البلاد المبتلاة بالتخلف والتطرف بل ربما زادت، وبدل أن يقضي على ‘القاعدة’ هناك (هدف الحرب الرئيسي على افغانستان والسبب في تواجد القوات الغربية فيها) ها هي تنتشر كالفطر السام في أكثر من مكان عربي وافريقي.
فلسطين؟!
لعل الرجل فعل شيئاً لهذه القضية المزمنة، أم القضايا وأسُّ المشاكل في المنطقة، ولم نعلم!
غير أن سنين باراك الأربع في ‘البيت الأبيض’ تؤكد لنا أن قضية فلسطين لم تصل إلى هذا الحد من التراجع وانعدام الاهتمام الجدي، أمريكياً ودولياً، كما وصلت إليه في عهد هذا الرئيس الذي حاول أن يبدي بعض الانضباط (وليس التصلب) في مواجهة فجور الاستيطان الاسرائيلي فهزَّ أحقر شخص في العالم، المدعو نتنياهو، في وجهه العصا فتراجع ‘رئيس العالم’ مُقرَّعاً، موبَّخاَ، مبهوتاً الى مكتبه من دون أن يتمكن من رد الإهانة. لم يستطع أوباما، بسبب انتهازيته السياسية (عينه على التجديد) وضعف شخصيته أن يفرض أي موقف مهما كان بائساً أو عديم الأهمية في ما يتعلق بـ ‘عملية السلام’ على نتنياهو. لا شيء مطلقاً، بل ما حصل هو العكس.
وماذا بشأن موقفه مما يجري في سورية؟
على النقيض مما يهرف به أبواق النظام السوري، لم يبد أوباما تعاطفاً مع الشعب السوري في نكبته الوطنية الكبرى.أكثر من أربعين ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى والمفقودين والمعتقلين وملايين المهجرين في الداخل والخارج لم تدفعه، مرة واحدة، لإبداء ربع الصلابة التي أبداها مع حليفه الموثوق حسني مبارك. إنه فعلا شيء يدعو الى العجب. هل من سرٍّ وراء ذلك يا ترى؟ طبعا ليس الخوف من ‘القاعدة’ وأشباحها (وأشباهها ايضا) المتغلغلة في الثورة السورية ضد بشار الأسد. فهذا الموقف، عديم الحس الانساني، ظهر حيال الثورة السورية منذ بدايتها، وقبل أن تُدفع دفعاً الى السلاح.. وقبل أن نرى اعلام ‘الجهاديين’ السوداء تتفوق على علم الثورة.
ما السرُّ في انعدام تعاطف أوباما مع الشعب السوري؟
اسرائيل!
قد يكون، بل على الأرجح. فاسرائيل، قدس أقداس الامبريالية الامريكية وعصاها الغليظة في المنطقة، لا تعرف على أي وجه ستستقر سورية بعد الثورة. هذا الوجه السوري الحالي تعرفه. جرَّبت الأب والابن وتكيَّفت مع ‘مقاومتهما’ و’ممانعتهما’، لكن ما يخيفها هو ما تحبل به الثورة. اي مولود ستلد؟ هذا هو السؤال. هذا هو مربط الفرس.
‘ ‘ ‘
باختصار لا مأثرة لأوباما الرئيس الامريكي الوحيد الذي هللنا له واستبشرنا به خيراً متناسين (رغم علمنا اليقين) أن أمريكا لا يحكمها شخص، أقصد لا يسنُّ سياساتها حاكم، ولا يحدد طبيعة مصالحها ونطاق هذا المصالح رئيس. هناك مؤسسة امريكية ثابتة لا تتغير بتغير الرؤساء. هناك مصالح تتقدم على المبادىء والعواطف. وفي هذا لا يختلف أوباما عن رومني الذي راح يزايد على منافسه في التأسرل حتى دخل الإثنان (في حملتيهما وخصوصا مناظرتهما الاخيرة) في حالة من الانخطاف الاسرائيلي الصوفي.
ما كان رومني لو فاز بالرئاسة ليكون أسوأ من أوباما. فما قاله في حملته الانتخابية سينساه هناك، وهو ما فعله أوباما.. أو أي رئيس أمريكي في ولايته الاولى.. فهل سيختلف أوباما الثاني عن أوباما الأول؟
لا أظن.
ومع ذلك سننتظر

 

* شاعر وصحفي من الأردن

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *