من ينقذ مكتبات تومبوكتو؟



حسّونة المصباحي *

مطلع شهر أبريل الماضي، احتلت مجموعات متطرفة مسلحة أطلقت على نفسها اسم “أنصار الدّين”، مدينة تومبوكتو الواقعة في صحراء مالي، والتي سمّاها المؤرّخون، والرحّالة القدماء “جوهرة الصّحراء”. وكانت منظّمة “اليونسكو” قد وضعت هذه المدينة القديمة ضمن قائمة الآثار العالمية، والمواقع التي تتمتّع بحماية عالميّة. ويعود تأسيس تومبوكتو الى القرن الحادي عشر. وأغلب سكّانها من الطوارق. وفي القرن الرابع عشر، أصبحت مركزا للمبادلات التجاريّة بين القارّة السّوداء، وبلاد المغرب والمشرق، وكانت القوافل تنطلق منها باتجاه فاس، ومراكش، وتونس، وطرابلس، ومصر، والجزيرة العربيّة، وتصل أحيانا الى بلاد فارس. ولم تكن تلك القوافل تنقل السّلع فقط، وإنّما كانت تنقل أيضا المعارف، والمخطوطات الثّمينة.

 
قد سمح هذا الموقع الاستراتيجي في المجال التّجاري، والجغرافي، لتومبوكتو بأن تتحوّل انطلاقا من القرن الخامس عشر إلى واحدة من أعظم المدن في إفريقيا، وفي العالم الإسلامي. إذ بلغ عدد سكّانها في ذلك الوقت مائة ألف نسمة. وكان يترددّ على جامعتها المرموقة 25000 طالب، قادمون في جلّهم من بلدان بعيدة. ومع مرور الوقت، غصّت مكتبات تومبوكتو بالمخطوطات الثّمينة في جميع مجالات المعرفة من فقه ولغة، وتنْجيم، وقضاء، وتاريخ، ورياضيّات، وعلوم طبّيّة، وسِحْر الخ…

والى جانب المكتبات الكثيرة، توجد في تومبوكتو أضرحة لعلماء، وفقهاء، ورجال دين كانوا يحظون بتقدير واحترام النّاس. ومنذ احتلال المدينة الصّحراويّة من قبل الجماعات المتطرفة، لا أحد يعلم ما حدث لمخطوطاتها، ومكتباتها، وكنوزها التاريخيّة العاكسة لمجدها القديم.

وفي فرنسا صدر مؤخّرا كتاب هامّ يستعرض فيه مؤلّفه، جان ـ ميشال دجيان، الذي يعمل أستاذا في العلوم السياسيّة وصحافيّا في نفس الوقت، تاريخ مخطوطات تومبوكتو. وقد علّقت مجلّة “لو نوفال أوبسارفتور” على هذا الكتاب قائلة: “سيسمح هذا الكتاب القيّم للجمهور العريض بالتعرّف على الثّراء الخارق، والرّائع، وعلى الجمال، والتنوّع الذي يعكس ما كتب، وما أنجز فكريّا في تومبوكتو منذ ما يقارب ألف عام”.

ويشير جان ـ ميشال دجيان إلى أن اكتشافه لعظمة هذه المدينة الصّحراويّة يعود الى عام 1987. ففي تلك السّنة، انطلق الى التّوغو لتقديم محاضرات عن السياسة الثّقافيّة من دون أن تكون له معلومات كثيرة عن تاريخ القارّة الإفريقيّة، وثقافاتها المتعدّدة، والمتنوّعة. لكن منذ الأشهر الأولى، اكتشف ما “أنار فكره”، وما حرّضه على الغوص في البحث، والتنقيب بهدف التعرّف على كنوز الثّقافة الإفريقيّة. وقد اطّلع جان ـ ميشال دجيان على آلاف المخطوطات تتّصل بالخصوص بمؤلّفات الرحّالة الغَربيين الذي زاروا “المدينة المحرّمة” في فترات مختلفة من تاريخها من أمثال رنيه كاييذه، وهاينريش بارت، وفيليكس دوبوا.

وفي مركز “أحمد بابا للأبحاث والتّوثيق” الذي تأسّس عام 1970 بمساعدة من اليونسكو، اكتشف جان ـ ميشال دجيان وهو في حالة من الدّهشة أن هناك ما يقارب 30 ألف مخطوط في مختلف مجالات المعرفة، وجميعها تعكس الثّراء الثّقافي والحضاري لإمبراطوية “سوندجاتا كايتا” (1230 ـ 1545)، وامبراطوريّة “سونغاي” التي حكمت في القرن السّادس عشر قبل أن تنهار عندما غزا جيش السلطان المغربي مولاي إسماعيل المدينة في عام 1591.

ومن خلال الأبحاث المضْنية التي قام بها، والتي استمرّت ستّة أعوام، اكتشف جان ـ ميشال دجيان أن الصّراع بين المتمسّكين بالشفوي، وبين الكتّاب، والمؤلفين كان شديدا. ويعود السّبب في ذلك إلى أنّ الشفويّين كانوا يخشون على اندثار نفوذهم بسبب المكتوب. من هنا نفهم اختفاء العديد من المخطوطات التي بيع البعض منها في العواصم الغربيّة بمبالغ خياليّة.. ولم يكتف جان ـ ميشسال دجيان بالتّنقيب في المكتبات، بل التقى الكثيرين ممّن يعتبرهم حافظين للذّاكرة الإفريقيّة من أمثال المؤرّخ محمود زوبر، والدكتور دولاي كوناتي، ورئيس جمعيّة المؤرّخين الماليّين، والروائي شيخ حميدو خان، وسليمان بشير دياغن الفيلسوف، والأستاذ في جامعة كولومبيا، وآخرين كثيرين.

ويعتبر جان ـ ميشال أن “ميثاق ماندي” الذي يعود الى عام 1236 هو من أهمّ الوثائق التي اكتشفها في تومبوكتو. فهو يحتوي على الكثير من الأفكار، والنمطيّات التي نجدها في كتاب “الأمير” لماكيافيلي. كما أنه يحتوي على مبادئ تتّصل بالحفاظ على الكمال الجسديّ، والأخلاقيّ للإنسان، وبالفضاءات المخصّصة للحرّيات الشخصيّة، وبالعلاقات بين مختلف فئات المجتمع، وبين مختلف المعتقدات الدينيّة وغيرها. ويرى جان ـ ميشال دجيان أن كتبه عن مخطوطات تومبوكتو يدحض فكرة الرئيس الفرنسي السابق ساركوزي الذي قال في خطاب في دكار عام 2007 بأنّ “الإنسان الإفريقيّ لم يدخل التّاريخ بما فيه الكفاية”.

في مكتبة مولوتوف.. لا فرق بين أدب الموالين والمعارضين

منذ سنوات الشّباب، فتن البريطاني راشال بولونسكي بالأدب الرّوسي الكلاسيكي متمثّلا في الكتّاب، والشّعراء العظام من أمثال بوشكين، وغوغول، ودوستويفسكي، وتولستوي، وتشيكوف وغيرهم. وعن هؤلاء أنجز أطروحة الدكتوراة التي قدّمها في جامعة “كامبريدج”.

وفي عام 1998، التقى بولونسكي خلال سهرة فاخرة في موسكو مصرفيّا أميركيّا من محافظة تكساس أسرّ له أنّه يسكن على مسافة قريبة من قصر “الكرملين” في نفس الشّقّة التي أقام فيها لسنوات طويلة القائد الشيوعي المعروف فياتشيسلاف ميخائيلوفيتش مولوتوف (1890 ـ 1986) الذي كان وزيرا للخارجيّة في فترة ستالين، والذي أمضى مع النازييّن معاهدة 1939 الشّهيرة. كما أنه ساند مساندة مطلقة سياسة ستالين القاسية والدموية تجاه المعارضين له.

وكان مولوتوف قد انتسب الى الحزب الشيوعي الروسي في فترة الشباب، وبعد انتصار البلاشفة أصبح من كبار القادة في بلاده، وإليه أسندت مهمّات خطيرة في الدّاخل والخارج. وكان من القلائل الذين يحظون بثقة ستالين. وقد قام المصرفي الأميركي بتسليم مفتاح شقّة مولوتوف لراشال بولونوسكي قائلا له: “في الشقّة مكتبة هائلة… وبما أنك متخصّص في الأدب الرّوسي، فإنّه بإمكانك أن تستفيد منها”. وكان على حق. فقد وجد بولونسكي في المكتبة الخاصّة لمولوتوف، والتي ظلّت على حالها عقب موت صاحبها وهو في السادسة والتّسعين من عمره، ما حرّضه على كتابة مؤّلف ضَخْم حمل عنوان: “الفانوس السحريّ لمولوتوف”.

وتحتوي المكتبة على مؤلّفات كبار الكلاسيكيّين الرّوس، من أمثال نيكراسّوف، وبوشكين، وتشيكوف.

ويقول بولونسكي أن هذا الأخير كان الكاتب المفضّل بالنّسبة لمولوتوف. لذا كان يعيد قراءته باستمرار. لكن أحيانا يشعر نحوه بنوع من النفور “لأن كلّ قصصه خالية من أيّ ذرّة من التّفاؤل”.

وتوجد في مكتبة مولوتوف مؤلّفات كتّاب أجانب من أمثال إدغار آلن بو، وجورج برناردشو، وهـ. ج. ويلز. كما توجد مؤّلفات المعارض الروسي إيفان بونين التي بسببها أمضى فارلام شالاموف سنوات طويلة في معسكرات سيبيريا. ولم يكتف بولونسكي بالإطّلاع على ما تحتويه المكتبة، بل زار العديد من المدن، والقرى الروسيّة المرتبطة ببعض الكتّاب. وهو يزور “نوفوغورد” من أجل غوركي، ويذهب الى “سترايّا روسّا” من أجل “الإخوة كارامازوف”. ويمضي أيّاما هادئة في “روستوف” حيث عاش تولستوي. وبعدها ينطلق إلى “تاغانروغ” حيث ولك تشيكوف. وخلال رحلته بين الكتب والأماكن، يقصّ علينا بولونسكي قصصا كثيرة، ويستعرض أحداثا تارخيّة مهمّة مثال الصّراع بين ستالين وتروتسكي، وما حدث في روسيا خلال حكم ستالين، والمحاكمات الرهّيبة التي طَالت العديد من القادة الكبار في الحزب البلشفي في أواسط الثلاثينات من القرن الماضي. ولا يغفل بولونسكي عن الحديث عن القاضي أندريه بشينسكي الذي أشرف على تلك المحاكمات والذي كان يصرخ في المتّهمين: “أنتم لستم غير كُتل من ألأوساخ النّتنةّ”. كما يقدّم لنا معلومات مفصّلة عن رجل غامض اسمه فيليستنسكي انتسب إلى الـ”كي. جي. بي” (جهاز الإستخبارات الروسية) وقتل مئات من المرضى عقليّا..

ويقول بولونسكي: “لقد كان كتابي ثمرة أعمال، وأبحاث استمرّت عشرة أعوام كاملة أمضيتها في القراءة، والسفر بين المدن والقرى الروسيّة

* روائي من تونس

( الاتحاد )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *