سميرة بورزيق *
قال أنه سيخرج للمقهى كي يكتب بعض المقالات، سمعته يتحدث عن الكتابة، وتذكرت أني لا أستطيع أن أكتب إلا بشروط تفرض نفسها عليّ، كأنني لعبة في يدها. ضحكتُ وانصرفتُ بعد انصرافه. لكن مخيلتي لازالت تنضح بحوار ساخن داخلها:
– لماذا لا اكتب إلا عندما أشعر بالحب أو بالألم؟؟
سؤال فتح عليّ أبواب حوارات داخلية لا تنتهي. آه لو أجيب.. قاطعني صوتي الخفي كعادته، صوتي الذي لا يظهر إلا في الوقت الضائع عندما استسلم لغفوة .
ابتسم الصوت الذي لا لون له ولا شفاه له إلا شفاه الاستفزاز. ثم استطرد قائلا:
– أيتها المجنونة أتكتبين فقط في لحظتين؟
لحظة الحب، وهي لحظة مليئة بتجارب حب لن أحصيها لأنك ستبكين كعادتك، وطبعا سأتركها لحين أخر، لحظة الحب هي لحظة الألم الوحيدة، لحظة العبور من ضفة الحب إلى ضفة الألم.. ألم تحدث عنه “شوبنهاور” ولولاه لما تفلسف الإنسان، ولولاه لما أبدعت أيتها المجنونة.
ارتباط كتابتك بلحظتي الحب والألم هو ارتباط بالتجلي في الوجود ، تجليك كما أنت و كما تقولين دوما: كطفلة.
دار هذا المونولوج الداخلي في ثناياي وتفاجأت من هول معرفتي بنفسي رغم إنكاري الدائم لها.. قاطعني صوتي بطرح سؤال أخجل من طرحه على نفسي وأخجل من الجواب عليه بنفسي.
فهم صوتي ملامح وجهي الخجول وعدل عن طرح سؤاله إلى حين …
نظرت في داخلي باستغراب مما يحدث لي، وطلعت مع وجهي حمراء كالجمرة التي تكويني، ولأني أعرف أنني أمام مصيري الذي كنت أهرب منه دوما، و أن هدوئي مؤقت، وأن الكلام لا يمكن أن أهرب منه خاصة إذا طوقني صوتي الخفي و أغلق كل الأبواب و النوافذ قال:
– لا يمكن أن تهربي من مواجهة نفسك أيتها المسكينة.
قلت:
لماذا تلاحقني أيها الصوت ؟ لماذا تكتب عليّ أن أحياه رغما عني وفي حياتي الجواب على سؤالك؟
رحت أجيب بلا انقطاع، كمن يتم استنطاقه جراء تعذيب، إنك سؤالي، جلادي الذي لا أراه، تجلدني بسؤالك ألف جلدة، وتغرق قلبي في بحر اللاجواب حتى يختنق، تصعق شراييني به، أعدمني وخلصني منه، اُصعقني و اُصفعني صفعة واحدة فقط لأنتهي ولا أعود بعدها أبدا.
لا تعذبني أكثر. العذاب الداخلي يغلق عليَ سراديبه التي لا تنتهي، ظلمة الفكر وغموض الممر يقودني إلى مكان مجهول، مجهول جدا…
حاولت لملمة جثتي، وعظامي المفقودة، شراييني المشتتة والتي احترقت، جمعتها وسرت في طريقي لا ادري أيمينا أسير أم شمالا، غربا أم شرقا، المهم أني أسير منكسرة، قادتني غريزتي إلى جواب أول على سؤالي:
– لماذا أحبك في كل الرجال؟ لماذا أبحث عنك فيهم؟
ألأني فقدت أبي؟ وأنا مازلت بعد لم أشبع منه، هذا جوابي الذي أقنع به حيرتي، كان يحملني فوق كتفيه أو يمتطي بي صهوة حصانه الأسود، صحيح أني كنت صغيرة جدا، لكن حبه لم يكن صغيرا جدا، كان أكبر من أن يحملني و يحمله لو عرف به، أكيد سيلقي بأحدنا أنا أو الحب ، كان أكبر من أن يفهمه رجل في مثل سنه أو في مثل ثقافته. ثقافة تقول له: هذه بمرتبة ابنتك. لكني في داخلي أهزأ بثقافته الساذجة. و لست حينها إلا ما أريد أن أكون أضع نفسي في مرتبة حبيبته التي تأبى على النزول من فوق كتفيه.
مازال صوتي الخفي يبتسم، لا أعرف أيبتسم استخفافا واستهزاءا، أم يبتسم لأنه يجر الآن لسان قلمي على البوح، بوح لم أستطعه إلا في حضرة الحب أو الألم.
فجأة توقف الصوت عن إسماعي ابتسامته التي لا صوت لها سوى صوت الخوف من الانكشاف، انكشاف وجودي وتكشف ذاتي أمام ذاتها.. عدلت من طريقة جلوسي لأني عرفت حينها أن الأمر فيه قليل من الجدية.. ها أنت أيتها المجنونة العاقلة تتعرين أمام سلطتي، يكفي أن أشير إليك كي تتعرين كما تتعرى مومس في حضن رجل عابر، ضحكت باستهزاء: أعرف، لذلك لم أعد أخاف من ترددي في الإجابة على سؤال الحب وسؤال الرجل أو الرجال.. فرح صوتي وقد بدا الأمر مثيرا، حين صدمني بسؤال كأني أجلس على كرسي الاعتراف وكأنه يبحث عن أسئلة ليطرحها بسرعة، ولأنه يعرف أني لن أهرب منها: هل وجدت في من جعلت من كتفيه صهوة تركبينها، حبك الذي كان الأب قد تركك بدونه ورحل؟؟
سؤال ساخر أيها الساخر، سؤال مضحك، مستهزئ كما الأيام تستهزئ بي، كما الأيام تجعلني أرقص كبهلوان في السيرك، هي الجمهور الذي يضحك حتى يتقلب على الكراسي، وفي النهاية ينقلب عليّ ويرميني بالطماطم أو بالكراسي، لأني فقط لم أصل بهم إلى ذروة الضحك كما الأطفال..
كان يحملني لكنه تجاوزني عندما سقطت مرة ولم يلتفت إلي، لم ينظر نحوي ولم ينتظرني حتى أقوم من سقطتي الأولى. سمعته يقول وهو يهم مسرعا نحو الأمام:
– أنت كبرت،
هنا انتهى كلامه ورحل بعيدا، بعيدا جدا..
وفي غمرة وحدتي وخلو حياتي من أي رجل، إلا من رجل يسكنني، سقطت سقطتي الثانية: ها أنا ذي أهم بالنهوض مسرعة كي لا يضحك مني المتفرجون، أخاف جدا من ضحكاتهم الساخرة، وكي لا ألعب دور المهرج، رفعت رأسي كي أقوم من سقطتي، اصطدمت بجسم يمد يده كي ينتشلني من ضبابية وجودي، ومن ظلمته.
– اسمحي لي أن أساعدك.
– شكرا لك.
قمت هذه المرة من السقطة، لكن ليس لوحدي بل بيد رجل لم يحملني على كثفيه، لكنه حملني بين أضلعه، ولأني لم أعد صغيرة كما كنت، و لأن حبي كان كبيرا وكنت صغيرة، ولأن من أحببته كان كبيرا وحبه لي كان صغيراً جدا. فقد قررت أن يكون حبي هذا صغيرا، كحب طفلة تحمل على الأكتاف وتحمل بالونا ورديا تتباهى به فوق وتنظر إلى من تحت بسخرية الأطفال وفرحهم ..
كان هذا قراري و إقراري منذ مدَ يده لينتشلني من سقطتي تلك، سقطة أدخلتني بين أضلعه ورمتني هناك، فكنت كلما حاولت أن أخرج، أغرق وأغوص في الأعماق، أغرق بإرادتي وليس كمن عذبني في زنزانته، كنت أكره الصعود من شاطئه الرملي، شاطئ يتسع لي، أنا وحدي، أركض فيه، وألعب، وأنثر إحساساتي دون أن أخشى من يفترسها مني..
فجأة هبت ريح على الشاطئ، وهاج بحر قلبه، واستيقظت جنيته التي تكرهني، لا تسألوا لماذا تكرهني. لأني لا أعرف، ولأني كنت خائفة. ألست طفلته؟؟ قررت أن أهرب لكن شيئا كان يشدني إلى الوراء كحلم أو ككابوس مزعج . أهرب بملء قوتي، ورجلاي لا تتحركان ،لا تنفصلان من شاطئهما الرملي، تزدادان في الانغماس وفي الغرق وأزداد خوفا، السياج أمامي صوته عال جدا، لا أستطيع القفز عليه، كانت كل الأبواب موصدة. وعادت ظلماتي، وعدت إلى السرداب، وحدي أتنفس فيه رائحة الرطوبة، رطوبة القلب، رطوبة الهواجس، رطوبة الوحدة من جديد، رطوبة الرغبة في الانعتاق من جديد.. صرخت ملء صوتي، لم يسمعني أحد، لم يسعفني أحد، وبكيت انتكاستي لأني كنت ابحث عنك يا أبي فيه. فلم أجدك ، لم أجدك من جديد، ما وجدته يا أبي كان مجرد رمال متحركة على شط تلفح شمسه، ابتلعتني الرمال و غرقت في أعماقها، كنت يا أبي أعتقده روضة ألعب فيها حتى أشبع، لكن لم أدرك أن البحر سيثور في وجهي، وأن الرياح ستهب عاصفة بكل شيء إلى بعيد: بحب رجل اكتشفت أني أحب فيه فقط أبي الذي تركني ذات يوم .
وتتهاوى بي الأرض من جديد، وأعاود ارتمائي في أحضان حبيبتي/وحدتي، أحضانها الساكنة، الفارغة، المخيفة.. أنام كثيرا، كثيرا جدا.
استيقظت من جديد على رنين جرس الباب. يشبه رنين أجراس عيد الميلاد كما كنت أتخيلها في طفولتي، قمت من فراشي متثاقلة، أترنح كسكرانة وأمسح عيني، عدلت شعري المتناثر وملابسي الخفيفة..
– من بالباب؟؟
قلتها، أعرف أنه لن يجيب، لأني لم اسمع صوتي، فكيف يسمعني الطارق، طارق الباب.
تساءلت في جوفي: من يكون الطارق، من سيكون فاتحي؟؟ من هذا طارق بن زياد الذي سيُفتح له بابي، وسيعلن فتوحاته من جديد على أرض ميتة، من سيكون إحياء أرضي على يده؟؟
أسئلة طرحها جوفي بين تلك المسافة التي تفصل غرفتي عن الباب، لم أنتبه لما حولي، كان يجب أن أصل بسرعة لأفتح باب قلعتي للطارق. لذلك لم أهتم بما حولي ولم أهتم أيضا بأسئلتي ..
فتحت الباب بغنج متصنع، لم أنتبه لهذا الذي يقف عليه، انتبهت أكثر للثلج الذي تراكم على بابي، كأني مهجورة. مهجورة القلب والوجدان، صقيع يملأ الأمكنة، كما يملأ أزمنة قلبي.. غرقت من جديد في هواجسي، رحلت من جديد إلى وحدتي التي ذكرني بها الصقيع في الخارج..
– لحظة.. لحظة..
لم أغرق بعد،لم أدفن بعد…
لمسته الحنونة ذكرتني بشيء، ذكرتني بأن أحدهم على الباب، أيقظتني، انتشلتني كسابقتها، رفعت رأسي الكسلان، فتحت عيني لمن جاء فاتحا باب بيتي، قلبي، وجدتك أنت هناك، لم أكن أنتظر عودتك، ها أنت مرة أخرى ترميني في أعماقي، كي أتذكر لحظة اللقاء، وبعدها لحظة الفراق والجفاء، وبعدها لحظة العودة، لحظة الإحياء، لحظة الانبثاق من جديد، مازلت أذكر عندما عدت فقط لأني كنت أصارع الموت من أجلك، عرفت أني سأعود لذلك كانت عودتك في محلها، فهمت حينها الرسالة بشكل جيد، وقلت في نفسي لا عليك سأعود من أجلك، ما زلت أذكر دخلتك الأولى إلى المستشفى كنت حينها قد شفيت تماما منك لكن لم تُرد ذلك كنتَ تريد أن أشفى من هذا الذي ينخر رأسي، لم تهتم بقلبي، اهتممت فقط بدماغي، كان الذي ينخر قلبي أكثر عمقا وألما لما فيّ من ألم، بكيت كثيرا حينها، وانتحبت أيضا كما ينتحب الثلج والصقيع في الخارج الآن. عدت من جديد أيها الذي كان ولم تعد .
سأخرج الآن، أنا صوتك الخفي، ولي سؤال أيتها المجنونة: هل عاد من أجلك ليبقى؟ أم أن الصقيع بالخارج من دفعه للعودة؟ عودته عودة من هزيمة باردة، إنه يبحث عن مدفأة تقيه قرّ القلب والوجدان.
لا أعرف أيها الصوت الرنين فيّ، لا أعرف، ولكن سنرى عندما يتعرى أمامي، سأكتشف هواجسه تجاه من كانت تموت من الصقيع بفعله و بفعل حروبه
* قاصة من المغرب
( من مجموعتها القصصية الصادرة حديثا ” يدي ممدودة للحلم “