أمجد ناصر *
وقع هذا الحدث الهائل، المنسيّ اليوم، قبل ثلاثين عاماً. فعلى نحو كاسحٍ، سريعٍ، وضارٍ وبكميات نار غير مسبوقة بدأ الاجتياح الاسرائيلي الثاني للبنان في صيف 1982. امتدَّ مسرح رقصة الدم والنار من ‘رأس الناقورة’ في الجنوب إلى ‘المدينة الرياضية’ في بيروت الغربية.
ضربات اسرائيلية عنيفة ومتواصلة تتجاوز الانتقام.
ضراوة وكثافة نيران ترميان إلى الإفناء أو التركيع أكثر من أيّ شيء آخر.
هستيريا من الانفجارات.
عنفٌ ملحميٌّ في قلب مناطق مأهولة بالسكان.
لن يعرف أحدٌ كيف تضيق الأرض وتتحول السماء إلى صفيحٍ ملتهبٍ يلامسُ الرؤوس، ولن يدرك معنى أن تصبح الحياة مجرد مصادفةٍ سعيدةٍ إلاّ الذين كانوا هناك: في بيروتَ صغيرةٍ بحجم راحة اليد.
في منتصف شهر حزيران (يونيو) عام 1982 كنا قد تجرَّعنا هول الصدمة الأولى لزحف آرييل شارون الذي أحكم الطوق على بيروت من كل جانب، وجعلنا سياج النار نصدِّق ما كان يتعالى على التصديق حتى ذلك الوقت: الحصار الاسرائيلي لعاصمة عربية!
كثيرون لم يصدقوا، في خضّم الاندفاعة الأولى للاجتياح، أن قوات ‘يوشع بن نون’ الجديد ستحكم الحصار على ‘أريحا الجديدة’ وستعصف بها من كلِّ صوبٍ أمام ذهول العالم وصمت الأقربين والأبعدين. لقد نُسِيَت ‘خطّة الأكورديون’، التي تحدَّث عنها ‘أبو عمار’ في مطلع ذلك العام، ولن يتم تذكّرها إلا بعد الوصول الفنتازي لشارون إلى مكتب الرئيس اللبناني الياس سركيس! كان هذا هو العنوان الرهيب لذلك الصباح الحزيراني. عنوان بالصورة الفاضحة والمعاني الذليلة: ارييل شارون في ‘قصر بعبدا’!
هنا طائفة من اليوميات التي كتبتها أثناء الحصار، صدرت، للتو، في كتاب بالعنوان نفسه عن الدار الأهلية في عمان.
5 تموز
منذ الساعة الثالثة من صباح البارحة والقصف العنيف متبادل. القصف اشتدَّ ظهر اليوم بشكل مكثَّف. سمعنا عن ابادة سرية مشاة اسرائيلية وتدمير عدد من الآليات، كما تم’ صدَّ محاولات تقدّم على محور المطار، واسقطت طائرة استكشاف فوق ‘المدينة الرياضية’. المعنويات بيننا عالية. المقاتلون يفضلون أن يبدأوا بشنِّ هجمات على القوات الاسرائيلية بدل رخاوة الوضع في ظل وقف اطلاق النار. توقف إطلاق النار في الساعة الرابعة. بوابات العبور مغلقة تماماً أمام المواد التموينية، الكهرباء والمياه مقطوعتان عنا. لم يطرأ جديد على الوضع السياسي، أما المقترحات الفلسطينية لحل وضع بيروت فلم تلق استجابة من فيليب حبيب والاسرائيليين على ما يبدو.
عرفنا ذلك من ‘أبو عمار’ الذي زارنا (في الاذاعة الفلسطينية) فجأة. سألناه عما يجري في جبهة المفاوضات فأخبرنا أنَّ المقترحات المقدمة الى ‘فيليب حبيب’ للحل السلمي تمثل الحدّ الأقصى لما يمكن قبوله ولكن المهم هو الصمود. بالصمود والمقاومة تتغير المعادلة، كما تحدَّث، من دون أن يدخل في تفاصيل ما يجري على خط التفاوض، عن دور الإذاعة في المعركة وقال بإنها من الأسلحة الثقيلة، وإن دور الكلمة لا يقلُّ أهمية عن دور البندقية. ثم أرسل ‘أبو عمار’، الذي بدا عليه بعض الانزعاج، أحد مرافقيه لاحضار ‘العقيد أبو موسى’، أحد القادة العسكريين الفتحاويين، وفعلاً وصل ‘أبو موسى’. وهذه أول مرة أرى فيها هذا القائد العسكري الفلسطيني، الضابط السابق في الجيش الأردني، لكن اسمه معروف وذائع الصيت بيننا. فقد تصدى مع مقاتليه للجيش السوري الذي اقتحم ‘صيدا’ في عام 1976 وتمكَّن، بوصفه أحد أبرز القادة العسكريين لـ ‘فتح’ في الجنوب، من الحاق هزيمة منكرة بمقدمة الجيش السوري الداخل الى صيدا. وقد رأيت بأمِّ عيني الدبابات السورية المعطوبة بالقرب من ‘ساحة النجمة’.
لم يجلس ‘أبو موسى’ بجانب ‘أبو عمار’ بل اختار الجلوس على أحد كراسي طاولة الطعام الموجودة في الصالون. سأله ‘أبو عمار’ عن وضع ‘القوات المشتركة’ في المناطق التي يحاول الاسرائيليون التقدم نحوها أو قضمها، فقال ‘أبو موسى’ إنهم ينفذون خطة الدفاع عن تلك المناطق وإن ‘غرفة العمليات المركزية’ تتابع الوضع عن كثب، ولا شيء يدعو إلى القلق على هذا الصعيد. كان ‘أبو موسى’ الذي يرتدي زيِّاً عسكرياً زيتونياً يتحدث إلى ‘الختيار’ ولكنه ينقِّل نظره إلى الموجودين كأنه غير واثق من أن هذا المكان مناسب لمناقشة خطط
بين حين وآخر تسري شائعات عن وصول باخرات سوفياتية إلى بيروت لكسر الحصار. شائعات يائسة يبدّدها عدم تحرك جسم من أيِّ نوع في بحرٍ مسيَّج بالبوارج، بحرٍ أصبح مخيفاً، يصعب التحديق إليه. أكثر الساخرين من هذه الشائعات ‘ميشيل’ (النمري) الذي يرى أنَّ السوفيات تحركهم المصالح لا المبادىء. موقفه من موسكو يشبه موقف الحزب الشيوعي الايطالي الذي حذف ديكتاتورية البروليتاريا من برنامجه. أحياناً أشعر أنَّ ‘ميشيل’ يحبُّ أن يتخذ مواقف مغايرة للخط العام من أجل المناكفة أو المخالفة، مثل موقفه المناهض لدخول القوات السوفياتية الى أفغانستان الذي يسميه غزواً، وكان بذلك يختلف عن موقفنا في اليسار الفلسطيني.
‘قمرٌ بفضَّة كابيةٍ يوشي سماء بيروت.
لكن لا عشاق على الكورنيش.
حراس المدينة يترصَّدون الذئاب على الخطوط الأمامية.
كلُّ الأفكار الكبيرة توضع على المحك.
والقلوب والإرادات أيضاً.
6 تموز
أصرَّ ‘غالب’ (هلسا) على أن يلبي عزيمة على ‘الملوخية’ في منطقة محاذية لـ ‘برج البراجنة’. هناك موقع عسكري متقدِّم لـ ‘الجبهة الديموقراطية’ تتواجد فيه ‘أمل’ صاحبة المطعم الذي نتردّد إليه في ‘الفاكهاني’ وهي عضوة في ‘الجبهة الديموقراطية’. ذهبنا ‘غسان’ (زقطان) و’ميشيل’ (النمري) و’غالب’ وأنا في سيارة ‘ميشيل’ ومررنا بمواقع عديدة للمقاتلين الذين يتحصَّنون وراء سواتر رملية. كان الوضع هادئاً نسبياً بعد وقف اطلاق النار. ولكنها نصف ساعة فقط أمضيناها مع المقاتلين الذين يتواجدون وراء ‘دشمة’ ويصوبون رشاشاتهم في اتجاه القوات الاسرائيلية على الجانب الآخر، ثم فجأة راح القصف المدفعي يتوالى خارقاً وقف اطلاق النار، فتفرقنا. تلطينا في جانب بناية مجاورة للموقع العسكري. لكنَّ القذائف التي تحاول، كما فهمنا، تغطية محاولة قضم اسرائيلية جديدة على الأرض، لم تتوقف وصارت تتطاير حولنا، فطُلب إلينا أن نلوذ بالبناية. قال ‘ميشيل’ إن علينا المغادرة ما إن يهدأ الوضع وإلى الجحيم بـ ‘الملوخية’ فأيدناه ‘غسان’ وأنا بشدَّة، لكنَّ ‘غالب’ أصرَّ على البقاء. بعد نحو ساعة تراجع القصف فغادرنا تاركين ‘غالب’ مع المقاتلين، وما إن وصلنا الى ‘حي أبو سهل’ حتى صرنا نضحك بشكل هستيري. لقد كادت ‘ملوخيته’ الموعودة أن تقتلنا. عندما التقيت ‘غالب’ مساء في الإذاعة أخبرني أننا تعجّلنا في الرحيل لأن القصف توقف بعد مغادرتنا وأن ‘الملوخية’ أُعدَّت فعلاً وكانت لذيذة!
هناك كلام عن ارسال اسطول أمريكي لنقل المقاتلين الى الخارج، ولكن مثل كلّ الكلام الذي يروج في أوقات وقف اطلاق النار، والبلبلة السياسية التي تسود اثره، لا يمكن الوثوق به. إنَّه نوع من الحرب النفسية التي لا تقل خطورة على معنوياتنا من المواجهات المباشرة مع جيش الغزاة. غادرت الإذاعة ليلاً مع ‘غالب’ إلى بيته القريب وكانت معنا ‘سلوى’. أعدَّ ‘غالب’ الشاي وقال إن لديه بعض الخبز والجبنة إن أردت الأكل فشكرته. لم أكن جائعاً. ‘غالب’ ليس يائساً من تحرك الجماهير العربية. قال إن ما يجري في بيروت سيمتدُّ الى العواصم العربية وإن المعركة، بعيداً عن تكتيكات القيادة اليمينية، هي نموذج للحرب الشعبية المسلحة التي تقاتل فيها الجماهير دفاعاً عن مصالحها في مواجهة الحلف الصهيوني الامبريالي الرجعي العربي، لكن لم نر، ‘سلوى’ وأنا، ردود فعل كبيرة في البلاد العربية على ما يجري في بيروت كي تبشر بثورة تخوض غمارها الجماهير الشعبية لأن الأنظمة العربية تكبّل الناس بالأمن وتجعلهم يلهثون وراء الرغيف المر. ليت لي تفاؤل ‘غالب’ الثوري.
رجعت قبل منتصف الليل إلى شقة ‘غسان’ في ‘الحمرا سنتر’. أخبرته أن ‘غالب’ لم يخرج خالي الوفاض من الخطوط الأمامية فقد حصل فعلاً على ‘الملوخية’ التي قال إنها راحت علينا! ضحكنا. قال ‘غسان’ إن ‘غالب’ شخص عجيب. سألني عن حقيقة ما يروج حول الاسطول الأمريكي والرحيل فقلت له نقلاً عن ‘نبيل’ (عمرو) إنَّها شائعات وحرب نفسية لا أساس لها من الصحة.
7 تموز
الهدوء يخيِّم على بيروت الغربية بعد قصف مدفعي وصاروخي متبادل استمر متقطّعاً حتى التاسعة والنصف من هذا الليل. اليوم بفضل تدخّل ‘المستر ريغان’ و’الملك فهد’ و’فيليب حبيب’ وسائر الفعاليات الوطنية والاسلامية اللبنانية عادت الكهرباء والمياه التي تتحكم فيهما اسرائيل بعد الظهر. ابتهج المواطنون بذلك. نحن ابتهجنا أيضاً. لقد مرَّت علينا أيام طويلة بلا ماء أو كهرباء. فقدنا عادات كثيرة منها الاستحمام والغسيل وسقي النباتات والوضوء لمن يصلّون، لكنَّ الامدادات الغذائية لا تزال منقطعة. فالاسرائيليون لم يسمحوا بدخولها. قرارهم واضح: تجويع وتعطيش المدينة حتى ترفع الأعلام البيضاء. ولكن لا أحد رفع علماً أبيض، بل قلة هم الذين غادروا بيوتهم في اتجاه ‘الشرقية’، وكانوا يعودون إليها بين وقت وآخر. عندما أفقت صباحاً لم أجد قطرة ماء واحدة كي أغسل وجهي وأنظف أسناني.. حتى عبوات مياه ‘صحة’ التي نحصل عليها بصعوبة من بعض المحال كانت فارغة. وجدت بقايا مياه في بعض العبوات البلاستيكية، جمعتها وشربت. ندمت على أني لم انتهز فرصة وجود المياه لاستحم. لا أعرف متى ستعود ثانية.
هناك حكايات وقصص عن الحصول على الماء. مَنْ تمكَّن من الحصول على كرتونة مياه ‘صحة’، مَنْ استعار تنكة ماء من بيت صديق أو جار، مَنْ ذهب الى فندق في ‘الحمرا’ كي يستحم.. بل هناك من فكَّر بجنون أن يستحم في البحر المسيَّج بالبوارج.
كم يبدو هذا السائل الذي لا نفكر فيه كثيراً في الأحوال العادية ثميناً جداً وعزيزاً هذه الأيام. أكثر المحظوظين، على هذا الصعيد، هم الصحافيون الأجانب الذين يتخذون من فندق ‘الكومودور’ مقراً لهم. لا يزال ممكناً هناك الاستحمام والغسيل وحلق الذقن باستخدام مياه الحنفية وليس من عبوّات مياه ‘صحة’، كما أن الأكل وفير. يبدو أن هناك تحييداً لهذا الفندق، لا بدَّ أن هناك اتفاقاً مع الدول الأوروبية وأمريكا على عدم قصفه من قبل اسرائيل، لذلك يلجأ إليه بعض المسؤولين الفلسطينيين أيضاً، خصوصاً أولئك الذين يمتهنون التصريحات. رأيت هناك ‘بسام أبو شريف’ يدلي بأحاديث للصحافة العالمية عن مجريات أحداث تبلغه بالشائعة أو يقرأها في الصحف على الأغلب.
لم أذهب إلى بيتي منذ عشرة أيام، فمقر غرفة التحرير التابعة للإذاعة في ‘ساقية الجنزير’، وأنا أنام مرة عند ‘طاهر’ (العدوان) ومرة عند ‘غسان’ وأخرى عند ‘ميشيل’.. باختصار متنقل. لا مكان ثابتاً لي.
سهرت اليوم مع ‘ميشيل’ و’طاهر’ في بيت الأول. ‘ميشيل’ استفاض بالحديث عن مجريات الأمور في اليومين الأخيرين والاحتمالات المطروحة على المقاومة، و’طاهر’ مقتضب في الكلام. كلامه من نوع ما قلَّ ودلَّ. يدير العمل في الإذاعة بصمت وصلابة. لم أكن أعرفه من قبل ولكن عملي في الإذاعة والحصار قرباني منه كثيراً. قال ‘طاهر’ إن الوضع السياسي يزداد بلبلة مع اعلان أمريكا أنها على استعداد لارسال قوات ‘المارينز’ الى لبنان لفضِّ الاشتباك بين المقاومة والجيش الاسرائيلي وحماية عملية اجلاء المقاتلين.. لكن الاقتراح رفضته القيادة الفلسطينية. ‘ميشيل’ يرى أن استخدام المفاوضات كورقة ضغط على اسرائيل من جهة ولتمرير الوقت حتى تظهر معطيات جديدة من جهة أخرى مفيد ولكن الصمود هو الذي سيغير المعادلة لصالحنا، وليست المفاوضات، فقلت له إنَّ هذا ما قاله لنا ‘أبو عمار’ قبل يومين، ويبدو أنه الخطة المعتمدة: صلابة في الموقف ومرونة في التكتيك.
8 تموز
اليوم الذكرى السنوية الرابعة لزواجي. إنه يوم استشهاد غسان كنفاني، حتى لو نسيت فإن اقتران زواجي بيوم استشهاد ‘غسان’ كفيل بتذكيري. هناك تقليد سنوي لزيارة قبر ‘غسان’ في مقبرة الشهداء يقوم بها أعضاء في ‘المكتب السياسي’ للجبهة الشعبية. لا أدري إن كانت تمَّت الزيارة في ظل هذا الوضع. فالمقبرة تكاد أن تكون على الخط الأمامي. بالصدفة عرفنا، ‘هند’ وأنا، أننا نعقد قراننا في بعلبك في يوم استشهاد غسان. كان ذلك التوقيت غريباً، خصوصاً وأنا أعمل في ‘الهدف’، مجلة غسان كنفاني الذي لم أره إلا في صوره المعلقة على جدران مجلة ‘الهدف’ ولكني أشعر بوجوده يتخلل الهواء. أشعر أنه يقف خلفي وأنا أكتب على مكتبي بجسده النحيل وسيجارته التي لا تنطفىء. هذا الرجل المصاب بالسكري، كان شعلة من الابداع والحركة. يكبرني الآن باثني عشر عاماً عندما استشهد. كيف استطاع أن يكتب قصصاً وروايات ودراسات ويرسم ويصمّم ويصدر صحفاً ومجلات ويناضل ويحبُّ في ثمان وثلاثين سنة؟ الصدفة جعلت يوم زواجي يقترن بذكرى استشهاده.
أربع سنين مرَّت على زواجي. حدث ذلك بسرعة. تزوجنا بسرعة وأصدرت ديواني الأول بسرعة، وأنجبنا ‘يارا’ بسرعة، وصدر ديواني الثاني بسرعة، وجاء الحصار بسرعة. لكنَّ الحصار نفسه لا يتعجَّل الذهاب. الألم لا يمضي سريعاً، الفرحة هي التي لا نكاد أن نتبيَّن أثرها. لم أكن أعرف عندما كنت في عمان أن شيئاً من هذا سيحصل لي. كنت أعرف أن بيروت مكان خطر. أعرف أن فيها حرباً ولكنها لم تكن هذه الحرب ولا على هذه الشاكلة، فمن كان يتصور أن عاصمة عربية ستتعرض للحصار الاسرائيلي طيلة شهر كامل، وتنصبُّ عليها أطنان من البارود والنار والحديد؟ قبل أربع سنين في مثل هذا اليوم تزوجت في بعلبك عند القاضي الرفاعي، القاضي السنيَ !، أنا الذي لم يعرف شيئاً عن هذه الأمور إلا في لبنان.. يا الله كم يبدو ذلك اليوم بعيداً؟’
9 تموز
عشر ساعات بلا توقف من القصف الهستيريِّ. كأنَّ من يفعل ذلك يعاني غلاً شخصياً علينا فرداً فرداً، كأنه بلطجي معتدٌّ بزعرنته وعضلاته المفتولة يقول لمن هم أصغر منه: سأكسر رؤوسكم! سوف أمسحكم عن وجه الأرض! وإلا كيف يمكن تفسير هذا ‘الافراط’ في القوة. في الضرب على الأطراف والرأس والبطن. الضرب خارج كل القواعد المتعارف عليها. لكن مع اسرائيل ليست هناك قواعد. ليست هناك خطوط حمر. أخبرنا ‘نبيل’ أن ‘شارون’ يعاني من عقدة شخصية مع العرب، الفلسطينيين تحديداً. فقد اغتصبه راع فلسطيني عندما كان مراهقاً. كان، حسب تعبير ‘نبيل’ الساخر، ولداً أبيض، ممتلىء الجسم، رآه ذلك الراعي الفلسطيني خارجاً من المستوطنة فاستدرجه واغتصبه! سألنا ‘نبيل’ إن كانت هذه حكاية حقيقية أم من اختراعه. ضحك وقال إنه سمعها فعلاً ولا يستبعد أن يكون ما يفعله الآن بنا منطلقاً من تلك العقدة!
هرعت بعد اشتداد القصف الى الطابق السفلي حيث وجدت عائلات بأكملها تتواجد هناك. أناس يتكوّمون في مساحة ضيقة. رجال ونساء وأطفال وروائح خوف. لم أستطع البقاء. عدت وصعدت الى الطابق الرابع عشر من البناية . من هناك رأيت جحيماً من القذائف الفسفورية. حفلة جنون كاملة. لهب وأضواء يطفوان على وجه بيروت. يمتدان في كل اتجاه. من المستحيل القيام بأعمال الانقاذ في ظل تواصل أنفاس التنين. لم نعرف حتى الآن حجم الخسائر البشرية ولكنه، على الأغلب، كبير. كأنَّ ذلك لا يكفي. هناك الشائعات التي تسري عن اتفاقات ونفي لهذه الاتفاقات. الاذاعات الأجنبية تسهب في الحديث عن موقف ليِّن لقيادة المقاومة في موضوع الخروج. ‘نبيل’ يقول إن قيادة المقاومة تماطل لكسب الوقت ولكسر حدة الهجوم الاسرائيلي وابطال مفعوله على الأرض. سورية أعلنت اليوم أنها لن تستطيع استقبال قيادة المقاومة. هناك من يقول إن الموقف السوري هذا هدفه دفع الامريكييين للتفاوض مع دمشق في هذا الخصوص.. نشعر بحقد كبير على النظام السوري وفي حال الخروج من بيروت هناك من يفضّل الذهاب الى مصر ‘كامب ديفيد’ بدلاً من سورية! لا نعرف ماذا نكتب في مثل هذا الوضع. فنحن نكتب للإذاعة عن الصمود والتصدي ودحر الاحتلال وفكّ الحصار. نكتب عن كيف تتحول الأرض جحيماً تحت أقدام المحتلين، نستعين بالتراث والحداثة، نستعيد ‘أبو ذر’ و’علي بن أبي طالب’، ونتكلم عن حصار ‘طروادة’ و’لينينغراد’. هناك من يكتب عن ‘بيروتغراد’. ولكن الحقيقة إننا مللنا من كتابة وجدانيات الصمود. البطولة. لا شيء أدعى إلى الضجر من أن تتكرر الكلمات نفسها والتعابير ذاتها. ولكن ما يعزي أن هناك خسائر فعلية تكبدها الجيش الاسرائيلي. هناك أخبار عن حركة احتجاج واسعة داخل اسرائيل نفسها على هذه الحرب.
11 تموز
الجحيم انفتح على مصراعيه اليوم. قصف مجنون وعشوائي طال كل أنحاء المدينة. الدمار في كل مكان. لا حركة في الشوارع إلا لبعض المقاتلين. الدويّ لا يتوقف. خرج الناس الى الشوارع ليلاً من بين غبار القذائف والردم. بيروت تبدو ماضية في تحديها لهذا القدر المرير. هذه المدينة لن تستسلم كما يُدبَّر لها. أيُّ أناس هؤلاء الذين يطلقون النكات بعد لحظة من توقف القصف؟ عدت مساء من العمل برفقة ‘طاهر’ الى شقته في ‘الحمراء سنتر’. انتهزت فرصة عودة المياه فغسلت ثيابي التي اتسخت وتراكمت في الأسابيع الماضية وأخذت حماماً بدا لي ترفاً لا يمكن الحفاظ عليه بسهولة. آخر مرة ذهبت فيها الى بيتنا كانت منذ عشرة أيام. ‘الطريق الجديدة’ صارت في الخطوط الأولى.. هجرها معظم سكانها.. كان البيت، المواجه تماماً للمنطقة الشرقية، في حالة مزرية. الزجاج مهشَّم، الغبار في كل مكان. ألقيت نظرة على النباتات والأزهار التي كانت خضراء وريانة قبل الحصار. إنها الآن ميتة تماماً. من يرى البيت سيظن أن عاصفة هوجاء ضربته فقلبت أحواله رأساً على عقب.
اليوم نشرت ‘المعركة’ قصيدتي ‘جزائري من القلعة’. إنها عن مقاتل جزائري كان من بين آخر المنسحبين من المعركة الضارية التي جرت بين قوات المقاومة والجيش الاسرائيلي في قلعة ‘أرنون’ في الجنوب اللبناني. المقاتل يدعى ‘عبد القادر’ حضرت له قبل أيام، بالمصادفة، مؤتمراً صحافياً مصغراً عُقد في صحيفة ‘العودة’ التي يصدرها إعلام ‘الجبهة الديموقراطية’.
كنت في زيارة لـ ‘غسان’ عندما انعقد المؤتمر الصحافي الذي تحدث فيه المقاتل عن معركة ‘أرنون’ التي نجا منها قلة من المقاتلين كما قال، ولكن التي تكبّدت فيها اسرائيل خسائر في أفضل وحداتها العسكرية. شدتني حركة يديه وهو يشرح.
الساعة الآن الحادية عشرة والنصف تقريباً. ‘طاهر’ يغطُّ في النوم، أحسده على ذلك، بينما أكتب هذه السطور. سأنام بعد قليل. من يدري ماذا سيحصل؟’
12 تموز
لحسن حظي أني لا أتعرَّق كثيراً، بل تقريباً لا أتعرَّق. قد يكون ذلك بسبب نحولي وجلدي البدويِّ الجاف. الماء والكهرباء لعبة حقيرة تديرها اسرائيل من ‘المنطقة الشرقية’، عقاب في أبسط احتياجات الانسان. بيروت الغربية ليست مقاتلين فقط يمكن أن يُفهم هذا الإجراء العقابيّ ضدهم بل معظم سكانها مدنيون. عادت المياه مرة أخرى. أخذت حماماً سريعاً. أعددت شاياً لي ولـ ‘طاهر’. إنَّه يتابع ما يُبثُّ في الإذاعة حتى وهو في البيت. تركته يستمع للراديو وذهبت إلى الغرفة التي أنام فيها عنده. أخرجت البومات الصور ورحت أقلّب أيام حياتي السابقة. بدت الصور الجامدة كشريط حيّ متحرك. مشاعر قويّة انتابتني وأنا أرى صور ‘يارا’ الأولى التي التقط بعضها ‘باولا’ وبعضها ‘أحمد’ شقيق ‘هند’. تذكرت صرختها في مستشفى ‘الترك’ حيث ولدت وكان معي ‘عماد’ (الرحايمة) و’مريم’ ينتظران مثلي بترقّب خلف باب غرفة الولادة. سمعت صوت الحياة القادم من وراء بابٍ موصدٍ أقف خلفه في قلق. خرجت الممرضة من غرفة الولادة ولم ترد أن تخبرني عن جنس المولود، فقد ظنت أني لن أكون سعيداً لو أخبرتني أن ‘هند’ وضعت بنتاً. لا ‘حلوان’ لمن يزفُّ هكذا خبر!
كانت ‘هند’ قد أحسّت بقرب الولادة عصر ذلك اليوم بعدما أعدّت لنا ‘التبولة’ وكنت أشوي لحماً في شرفة البيت الصغيرة لضيفيَّ ‘حيدر’ ( حيدر) و’سعدي’ ( يوسف). قالت لنا إنها ستنزل الى الدكانة المجاورة وتعود. هبطت أدراج طوابق البناية كلها، فالمصعد كان معطلاً، وعادت حاملة معها أغراضاً للولادة. ثم قالت لي إنها تشعر بقرب الولادة. تركت ‘حيدر’ و’سعدي’ في البيت واستقللنا سيارة الى مستشفى ‘الترك’ حيث كانت تتردَّد أثناء الحمل. ولدت ‘يارا’ في ليل العشرين من ‘نيسان’. في ليلٍ ربيعيٍّ بديع انضمَّ إلى العالم كائن صغير، جميل، وكان اسمها حاضراً قبل ولادتها، فقد اخترنا بضعة أسماء مواليد للذكور والإناث. كان اسم ‘يارا’ على رأس اللائحة. اخترناه من قصيدة لـ ‘سعيد عقل’ غنَّتها ‘فيروز’. لكنَّ ‘يارا’ لم تكن شقراء الشعر كما تقول الأغنية بل ذات شعر أسود كثيف. لا صور لي من أيام الأردن. كلُّ الصور في بيروت وبعد زواجي. ولا صورة واحدة لي قبل الزواج. غريب. كأنَّ الصور شأن عائلي. فمن يلتقط صورة لنفسه؟ كما أني لم أكن أهتم بهذا الأمر. مع مجيء ‘يارا’ أخذت الصور تتكاثر وتملأ عدداً من الألبومات الصينية التي أحضرتها معي من عدن عندما كنت طالباً في ‘معهد الاشتراكية العلمية’.
أرى صور الماضي ولا أعرف ماذا سيحصل اليوم أو غداً ناهيك عن المستقبل، فهذه أول مرة أواجه فيها مسألة المصير، الحياة والموت.
أنا عموماً نحيل، لكني الآن أنحل مما أبدو في صور الأشهر الماضية، أو العام الماضي. ربما لا يتجاوز وزني الآن خمسة وخمسين كيلوغراماً. لاحظت أني صرت أشدّ حزام البنطلون أكثر على وسطي كي لا يسحل. القصف والحصار وعدم الرغبة في الأكل والحرارة والتدخين الشديد عوامل لعبت دورها.
20 تموز
وقف إطلاق النار لا يعني الهدوء أو التقاط أنفاس قبل أن يعود القتال من جديد، فقد تحلُّ محل القصف غارات وهمية للطيران الاسرائيلي. أحياناً، تكون الغارات الوهمية أسوأ من الغارات الحقيقية لأننا لا نعرف أولاً إن كانت الطائرات سترمي حمولتها أم لا، وثانياً لأنها تمارس ضغطاً نفسياً شديداً علينا وتذكرنا أنَّ السماء يمكن أن تمطر حمماً في أيّ لحظة. أكره الطائرات. لا شيء أكرهه الآن أكثر من هذا الهدير الذي ينفذ الى الأعماق. إنها غطرسة حقيرةٌ معتدَّة بقوتها التي لا رادع لها. تنشط المضادات الأرضية. توجِّه سبطاناتها الملتهبة الى تلك القلاع الطائرة، تُطلق صواريخ ‘سام’ التي تحمل على الكتف ولكنَّ طائرات شارون تضللها بالبالونات الحرارية التي تتطاير من مؤخراتها. ورغم أن طائرة اسرائيلية واحدة لم تُسقط، حتى الآن، في سماء بيروت إلا ان المضادات الأرضية لا تكفُّ عن مراودة معجزةٍ كهذه. هذه هي البطولة. بطولة الضعيف في مواجهة القوي الذي يعرف أنه، بلا أدنى شك، قويٌّ وقابض على السماء.. ولكن بالحديد المصفَّح والنار.
عشرات الغارات الوهمية نفذها الطيران الاسرائيلي اليوم، ربما مئات. سماء بيروت محتلة بالطائرات التي تروح وتجيء وتنقضُّ في هيئة الرماية ثم ترتفع. هناك معلومات عن احتمال قيام اسرائيل بعمليات نوعية داخل بيروت. ارسال قوات كوماندوز مثلاً إلى مواقع مختارة في مناطقنا. اصطياد قيادات. علمت هذا بعدما طلب ‘غسان’ مني أن أحضر معه اجتماعاً مسائياً لصحيفة ‘العودة’ في ‘بربور’. لم يتم الاجتماع بسبب عدم التحاق هيئة التحرير، وبدلاً من ذلك قال ‘جميل هلال’ (مسؤول الاعلام في الجبهة الديمرقراطية) إنهم تلقوا معلومات عن محاولات تسلل اسرائيلية الى قلب بيروت. قام ‘علي خلف’ بتنظيم نوبات حراسة حول مقرّ ‘العودة’. لم تكن معي بندقيتي فأعطاني الرفاق في ‘الجبهة’ واحدة وحرست لمدة ساعتين أمام البناية التي يقع فيها مقر الجريدة وكذلك ‘غسان’، أما ‘علي خلف’ الذي وزَّع جدول الحراسة فذهب لينام. ضحكنا ‘غسان’ وأنا من حيلة ‘علي’ المكشوفة وتصدّره للقيادة فيما هو حريص على راحته.
أخبرني ‘غسان’، ونحن نستعد للحراسة، حكاية طريفة عن غيظ رفيقنا ‘علي’ المكتوم منه ومن ‘غالب’. فقد أخذهما ‘غالب’ الى منطقة ‘الأوزاعي’ لزيارة ‘ماهر حمدي’، قائد إحدى كتائب ‘الجبهة الديموقراطية’ هناك. موقع ‘ماهر’ في بيت ذي حديقة فيها أحواض نعناع وقد أصرَّ ‘غالب’ على زيارته لشرب شاي حقيقي بالنعناع، وألحَّ على ‘علي’ للذهاب معهما. فهو لم يكن يرغب ولكنه خشي، حسب تقدير ‘غسان’، أن يبدو خائفاً. أقلتهم سيارة عسكرية تابعة لـ ‘الجبهة’ الى الموقع المتقدِّم لكن السائق تجاوز الموقع الذي لم يكن يعرف مكانه بالضبط، فرأوا مقاتلاَ يركض على الرمل بموازاتهم ويشير بيديه. اعتقدوا أنه يحييهم، غير أن المقاتل واصل الركض والصراخ، وعندما توقف السائق بالقرب منه اكتشف أنهم دخلوا في حقل ألغام زرعته ‘المقاومة’ لمنع تقدّم الاسرائيليين، فترجلوا من السيارة وتمكنوا، بأعجوبة، من العودة إلى الوراء على أقدامهم، حسب ارشادات المقاتل، تاركين السيارة في حقل الالغام. المهم أنَّ ‘غالب’ لم يتبدل شيء في ملامحه، بل بدا، للحظة، سعيداً بما حدث ما أثار غيظي، يقول ‘غسان’، وحنق ‘علي’ الذي راح يُهَمْهم. عندما صاروا في مأمن قال ‘غالب’: أمال الشاي فين؟
27 تموز
يبدو أنَّ الاسرائيليين الذين تركت لهم الأجواء طليقة يخرِّجون دورات طيران في سماء بيروت، ولكن ليس مجرد استعراض للطائرات وأنواعها فقط بل تقوم هذه الطائرات المتنمّرة برمي كل ما تحمله في جوفها على بيروت الغربية. الطائرات تذهب وتجيء وتقذف كل حمولتها. فمنذ ليل أمس والطائرات تغطي السماء والهدير لم ينقطع. لا تختفي الطائرات إلا كي تظهر ثانية. أي هوس بالطائرات هذا؟ الطائرات تقصف. البوارج تقصف. المدفعية تقصف. بأي لغة يمكن أن أصف ما يحصل؟ هل تكفي كلمة هدير أو قصف لوصف ارتجاج الأرض وتناثر شقف البنايات وتحطم الزجاج وانشلاع القلب والأحشاء وتفجّر الشرايين وصعود الأرواح؟ كيف يمكن للغة أن تكتب الموت لا كلمة الموت، أعني الموت نفسه، بل الرعب الذي يسبق الموت؟ لغتي قاصرة. لغتي كلمات. والكلمات ليست حياة وليست واقعاً وليست حقيقة.
في حدود الساعة الواحدة ظهراً غارت الطائرات على بناية في منطقة ‘الروشة’. الصواريخ مرَّت فوق البناية التي يقع فيها مكتب تحرير الإذاعة. اهتزّت الجدران والشبابيك. لم نكن نعرف على أي بناية وقعت الغارة. خرجت بعدما غادرت الطائرات مع ‘سلوى’ وسائق ‘صخر’ (أبو نزار)، الذي كان يزور الإذاعة، الى مكان الغارة. كان بناية قريبة منا. المنظر لا يوصف. البناية التي لا أعرف عدد طوابقها منفرشة على الأرض. محطَّمة تماماً. هناك بناية مجاورة لها تحترق. الدخان والغبار يلفّان المنطقة. كانت عربات الاسعاف قد سبقتنا. هناك صحافيون ومصورون يحومون حول البناية المفروشة على الأرض. هناك جثث مطمورة تحت الردم الذي تصعب إزالته. هناك أشلاء. حديد واسمنت وأغراض عائلية ولحم بشري. حملت سيارات الاسعاف ما استطاعت أن تنقله من الجرحى الأحياء وهناك من قام بلملمة الأشلاء. البناية كبيرة. سألنا عن الخسائر البشرية فلم نعرف. لاحقاً عرفنا أن هناك نحو 84 قتيلاً و150 جريحاً. لماذا هذه البناية بالذات؟ قيل إن نائب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية ‘أبو العباس’ يقطن فيها. لكن ‘أبو العباس’ لم يكن موجوداً عندما وقعت الغارة. أنا لا أصدِّق ذلك. ربما كان هناك اجتماع للقيادة الفلسطينية سيعقد فيها وليس لأن ‘أبو العباس’ يسكن في البناية المنكوبة.
ذهبت لرؤية ‘زكريا’ (محمد) في بيت ‘فيصل’ الذي يقيم فيه مؤقتاً. كان القصف لا يزال مستمراً وقد اشتدَّ بعد الساعة الرابعة. جنَّ جنون الاسرائيليين في الساعة الخامسة. لا ندري ما الذي حدث. توقعت أن يكونوا قد اصيبوا اصابات مباشرة وهم يقومون بعملية انتقام واسعة. بعد قليل أفادت الأنباء عن مقتل رائدين اسرائيليين وبضعة جنود. هذا هو السبب إذن.
انضمَّ إلينا ‘علي خلف’ عند ‘زكريا’. تحدثنا عما يجري عموماً وعن نوبة الجنون الاسرائيلية اليوم، غمز ‘علي’ من قناة المثقفين الذين فرّوا من بيروت، ولكنَّ ذلك لم يعجب ‘زكريا’ الذي قال إن علينا أن نكون أكثر تفهماً لقدرات البشر على تحمّل ما يجري. اتفقت مع ما قاله ‘زكريا’ وابتسمت في سريّ عندما تذكرت حادثة الشاي بالنعناع التي رواها لي ‘غسان’. عدت ليلاً إلى الإذاعة تحت هدير القصف ووجدت معظم الزملاء هناك. كان ‘رشاد’ (أبو شاور) يروي لهم حكاية بطريقته المدهشة في الكلام لم أعرف عمَّ كانت ولكني سمعت ضحكاً عارماً كأنَّ شيئاً لم يكن يحدث في الخارج. هذا هو جو الإذاعة الرائع، وبطله المتوَّج، من دون شك، ‘رشاد’.
’30 تموز
تمَّ نسف الاتفاق اللبناني الفلسطيني الذي حصل في السعودية بكمية هائلة من غارات الطيران التي لم تستثن حياً في بيروت الغربية إلا ودكَّته دكّاً. واضح أن هذا هو الرد الاسرائيلي العملي على الاتفاق الذي يقضي بتنظيم الوجود الفلسطيني مع الدولة اللبنانية. إنهم لا يريدون أي شكل من الوجود الفلسطيني الفاعل في لبنان، ولم يأتوا بجيشهم من أجل اعادة صياغة ‘اتفاق القاهرة’. إنهم يريدون مسح الوجود الفلسطيني. جعل الشعب الفلسطيني بلا شوكة ولا قوة ولا قيادة قادرة على النهوض بالبرنامج الوطني. أي تهجير المهجرين مرة أخرى وجعل الشتات هو المكان الطبيعي لهم. هل هذا في صلب العقلية الاسرائيلية التي قامت على اسطورة الشتات؟ هذه الكلمة التي احتكروها لهم وجعلوا منها أسطورة أقاموا وفقها كيانهم الاغتصابي على حساب شعب آخر. ما جرى بدءاً من بعد ظهر اليوم يرقى الى مستوى الإجرام التام والاستقواء بالحديد والنار اللذين يملكون منهما الكثير. كتبت اليوم مقالي للإذاعة عن هذا الموضوع. عن موضوع الشتات وكيف صار اسطورة لشعب قام على أساس الدين. ما دخل الدين بالقومية والعرق؟
فوجئت اليوم بمقال لمحمود درويش عن الشعر. الغريب أن هذا هو فهمي للشعر، بل هذا ما حصل معي حيث لا أستطيع الكتابة تحت الضغط ولا في صلب الحدث الجاري. أحتاج الى فسحة كي أكتب. إلى مسافة فاصلة. وجه الغرابة في الموضوع أن درويش شاعر مقاومة بل هو شاعر الثورة الفلسطينية وقد سجَّل في شعره مراحل من النضال الفلسطيني وتفاعل مع أحداثه الكبرى في استجابة سريعة، ولكنَّه غير قادر على كتابة الشعر في ظل الحصار. هذا ما يقوله بطريقة غير مباشرة وكأنَّه يردُّ على منتقديه حول غيابه عن الأحداث ويصف هؤلاء بأنهم ‘قناصة’! أي يقتنصون غياب الشاعر عن مواكبة الحدث ويشهّرون به. هناك شيء من ذلك. كان هذا، أيضاً، رأي ‘غسان’ الذي قال إنَّ نبرة المقال غاضبة وتعكس ضيق ‘درويش’ بالذين يطالبونه بحضور أكبر على الصعيدين الشعري والإعلامي.
الناس المغمورون هم أبطال الحروب، وهذه الحرب يشارك فيها الجميع. من يقاتل، من يكتب، من يفتح فرناً، من يوزّع جريدة، من يبيع خضاراً، بل من بقي في بيته ولم يغادر. هذه الحرب التي لا توازن فيها فرضت علينا جميعاً ولن نفرَّ من المواجهة. إنها قضية كرامة وطنية وشخصية، ووقفة عزٍّ، على رأي انطوان سعادة، قبل أيّ شيء آخر.
‘إن كان الموت دائماً
فهو يأتي ثانياً.
الحرّية، أبداً، هي الأولى’.
* شاعر وصحفي من الأردن يعيش في لندن