زمــن الخفــة التــي لا تــطاق


عباس بيضون *


كنت في هذا الجمع المغلوب المبعثر الذي لم يستطع أن يملك مظهراً احتفالياً فلا شيء كان حاضراً في هذه اللحظة، لا جلال المناسبة ولا خطورة الحدث. من الواضح أن الحاضرين لم يأتوا لأداء مراسم، بل لم يخطر لهم أن يؤدوا مراسم. اجتماعهم لم يشعرهم بالاحتفال، اجتماعهم لم يطلق حتى أصواتهم، لقد اجتمعوا بدون اجتماع، اجتمعوا وظلوا أفراداً، اجتمعوا وحبسوا صرخاتهم في داخلهم، جاؤوا وانتشروا في الساحة وفي النهار لكن كل واحد بقي مع نفسه، وحين كانت تند ضجة وحين كان يعلو هتاف كان يبدو وكأنه لم يجمع أحداً ولم يستنفر شيئاً، والذين حضروا جنازة وسام الحسن ما جاؤوا لكي يحتفلوا ولا ليحشدوا ولا ليؤلفوا حشداً ولا ليشكلوا جمعاً. جاؤوا كأنما قذفت بهم قوة إلى هنا، قذفت بهم قوة من داخلهم لكنها خبت ما ان وصلوا. لقد كسر استشهاد الحسن شيئاً في داخلهم. استثار فيهم همة سرعان ما بدا عجزها. أطلق سؤالاً سرعان ما حبسته الحيرة، ما صار لا يمكن الالتفاف عليه بالاحتفال وبالحشد وبالهتاف وبالصراخ. ما صار لا يمكن تعويضه برمزية من أي نوع. القتل الذي قصف الساحة قبل يوم لا يمكن تطويقه بأي رمزية، بأي احياء رمزي، بأي احتفاء.



ما عاد ممكناً القول: وسام حي فينا، فالسؤال هل نحن أحياء فعلاً ليستمر فينا أو نستمر في أنفسنا. حلّ همود وحل عجز وحل قهر، بحيث إن حاضري الحشد كانوا يدورون حول أنفسهم. كانوا كلا مبعثراً منفرطاً، كانوا كلاً مع حيرته، مع سؤاله المحبوس، مع صرخته المخنوقة. كانوا كماً سلبياً يحتاج إلى إرادة، يحتاج إلى هدف، يحتاج إلى فعل من أي نوع، لم يكن هناك وقت ليحصوا ما بقي لهم. الشعور الأقوى هو انه لم يبق شيء. الشعور الأقوى أن ما بقي قد لا يستحق. كنا في الساحة وشعرت بأنها تتحول إلى عراء، بعد ذلك سيقال اننا بلا سقف. كنا فعلا بلا سقف. ليس غريباً أن الحشد الذي كان في العراء وبلا سقف سمع أول كلمة وصلته. شرع في أول فعل بدا أمامه، سار إلى أول هدف اقترح عليه. كانت السياسة والأمن والدولة والناس تتخبط منذ علم الخبر. منذ أن علموا بأن 40 كيلو من الـتي.أن.تي قلبت ساحة ساسين، انهم اصطادوا رجلاً آخر، أن مقتلة حدثت وأن مقتلات أخرى على الطريق. أن الصيد البشري لن ينتهي. أن الذبح لن يتوقف. وأن لا شيء في النهاية يستأهل، الدولة لكنها تترنح. البلد لكنه يتفتت، المجتمع لكنه ينحل. لا شيء يستأهل. الاستقرار وأين هو مع الذبح، الوحدة وأين هي في بلد منقسم، الاستقلال وما هو حين يعصف الصراع الإقليمي بالبلد وحين يحمل سياسيوه عبوات ناسفة، وحين يتهم رئيسه ورئيس وزرائه دولة جاراً بالكرنفال الدموي على أرضه.



لم يكن أمام الجمع أي طريق، لقد جاؤوا ليشاركوا وليعزوا وليؤبنوا لكن الحائط كان أمامهم، الحائط كان حولهم من كل الجهات. كانوا بحاجة إلى أن يحركوا أيديهم وأقدامهم، إلى أن يخطوا خطوة واحدة. كانوا بحاجة إلى أن يطلقوا أصواتهم، إلى أن يجابهوا أي أحد. كان اللامرئي يعميهم، كان الخفي يطوقهم، كانت المؤامرة حولهم، كان الهواء، حتى الهواء، مفخخاً، كان الأثير حتى الأثير مملوءاً بالخطر. لا شيء يستأهل. هكذا شعروا، لا شيء يستأهل في بلد يحمل سياسيوه، بعض سياسييه عبوات، في بلد لا تفعل دعوات الدولة والوحدة سوى تصديعه. كانوا ينتظرون أي كلمة، حين سمعوها لم يفكروا، حين وجدوا من يعين هدفاً ساروا إليه، السرايا، لماذا لا، غمر الدخان الساحة، ثار الدخان ولم يسقط أحد، لا بد من أن عيناً في السماء رعت ذلك، لا بد من أن عيون جميع الشهداء كانت هناك ورعت ذلك. في ساحة الشهداء لا بد من أن الشهداء رعوا أن لا يسقط أحد. أن لا ينزل دم لبناني، بسلاح لبناني. أن لا يسقط مشيع لقائد في الأمن بسلاح الأمن. كانت معركة صورية شفت غليلا لم يطق هموده. منحت فعلاً لمن يشعر بأن يده وقلبه ورأسه في القيد والعجز. عينت هدفاً للحظة وللحظة سار الناس إليه.



اغتيال وسام الحسن لم يعدنا فقط إلى زمن الاغتيال بل أفرغ هذا الزمن تماماً من فحواه، لقد علقنا فجأة في العجز، شعرنا بأن لا سقف لنا ولا مرتكز. كأنما وصل زمن الاغتيال إلى فراغه المسدود. كأنما فقدنا فجأة كل ما هو صلب فينا. فقدنا الثقل والوزن والهدف والرمز. لذا قلنا أول كلمة واستجبنا لأول كلمة. هيّا إلى السرايا، لذا طاش هدفنا وطاش أحيانا كلامنا، لذا استيقظنا في العراء، انه بلغة كونديرا زمن الخفة غير المحتملة، الخفة التي لا تطاق، لقد رأينا أنفسنا وسط الحطام، هذا الحطام هو كل ما اعتنقناه، هو كل ما عبدناه في يوم، ما نصبناه مثالاً. كل ما اعتنقناه بات هوائياً وأخذه الهواء. انها الخفة التي لا تطاق، كالعميان أو كالمنومين سار من سار إلى أي هدف، لكن أيضاً لهم حجتهم أولئك الذين ضجروا من انتظار دولة لم تقم. لهم حجتهم من قالوا ليكن ما يكون. ضجرنا من الحرص على استقرار لم يكن في يوم حاصلاً. لهم حجتهم من قالوا في مكان آخر. ليكن البلد بلداناً، ليتفتت إذا أرادوه أن يتفتت. انه الحطام الكبير الذي لم يحصل في يوم واحد لكننا في يوم واحد غصصنا به، في يوم واحد بتنا نتكلم على كرامة مهدورة وإذلال مقصود. الجرح يتكلم والجرح إذا تكلم تكلم دما. ليس أدعى إلى استنفار الطوائف من الشعور بأنها ممتهنة ومغبونة، وما من طائفة لا تملك هذا الكمون من الغبن والامتهان. انه الشعور بالامتهان لذا استحكم نقاش لا يناقش ولا يقبل نقاشاً. انه عندئذ دامغ جارح، تحمل الطوائف تجاه بعضها البعض تاريخاً من الغبن والامتهان قابلا كل لحظة ليتحول غلاً، ليتحول غيظاً داخليا وحقداً. انه لاوعي الطوائف وما من طائفة في هذا البلد لا تحمله في أعماقها، انه خزين متفجر، تي.أن.تي. لا نعرف متى ينفجر في صميم البلد وفي وسطه، انها الحرب. كل الـ تي.أن.تي. الداخلي، كل الديناميت المعنوي يتراكم من أجلها، الحرب التي جربناها والتي لا تزال تجرجر ولا تزال ذيولها حاضرة، انها الحرب. الأمر يستحق أن نتروى، الأمر يستحق أن نزن كلامنا، الأمر يستحق أن نصبر. نعم ثمة ما يستحق أن نحافظ عليه.
ثمة ما يستحق أن نحترس من أجله. أن نحتمل أيضاً وأيضاً، وبدون أي وعد ولا أمل، هذه الخفة غير المحتملة.



«على هذه الأرض ما يستحق الحياة» محمود درويش.


 


( السفير )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *