فخري صالح *
هذا الاستنقاع الثقافي في بلاد العرب متوقع على خلفية ما جرى ويجري خلال السنوات العشرين أو الثلاثين الأخيرة. فقد عاد العرب، بسبب انهيار الأفكار الكبرى: أحلام الوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم والازدهار، إلى البنى السياسية والاجتماعية والإثنية الصغرى التي تشكل مجتمعاتهم؛ عادوا إلى الطائفة والمذهب والجهة والقبيلة والعائلة. وفي هذه الوحدات المجتمعية الصغرى لا تزدهر الثقافة ولا تنمو الأفكار، لكونها بيئات مغلقة تعتنق رؤى للعالم تقوم على مفاهيم الأصل والقرابة المذهبية والطائفية أو الجهوية أو العشائرية. وهذه رؤى تدفع الفرد إلى التحصن داخل شرنقته وعدم القبول بالآخر. لقد ضعفت الروابط الوطنية والقومية والإنسانية لصالح روابط ثانوية موروثة لا يد لوارثها فيها، فهو يولد مسلما أو مسيحيا، سنيا أو شيعيا، أرثوذكسيا أو بروتستانتيا؛ من هذه القبيلة أو تلك، من هذه العائلة أو تلك، وهو في ذلك مجبر لا مختار، وعليه أن يقرر بعد الولادة أن يكون جزءا من المنظومة القيمية الثقافية الضيقة أو من المنظومة الأوسع التي تقوم على أساس المواطنة، والانتماء إلى الإنسانية بمعناها العميق لا بمعناها الإثني أو المذهبي أو الجهوي أو القبلي أو العائلي، بحيث تتحول البيئة التي يتحرك في إطارها إلى بيئة خانقة قاتلة للأفكار.
المؤسف أن ما أسميناه «الربيع العربي» لم يجلب معه، حتى هذه اللحظة، سوى تجذر العصبيات الضيقة وهروب الطائفة أو المذهب أو الجهة أو القبيلة في اتجاه الداخل، وكأن قرنا من الدولة العربية الحديثة لم يكن كافيا لصهر الولاءات والانتماءات الصغيرة في بوتقة مواطنة منفتحة ديموقراطية. وهذا شيء مفهوم على خلفية استشراس الاستبداد وفساد الدولة العربية الحديثة التي أعادت إحياء تلك الولاءات الضيقة واستعانت بها للبقاء في السلطة ومنع التحول الديموقراطي في المجتمعات العربية. وها نحن نحصد الآن ما زرعته الدولة العربية التسلطية الفاسدة التي فشلت فشلا ذريعا في إرساء قيم الدولة العصرية الحديثة، فجلبت الكارثة على نفسها وعلينا.
من هنا يبدو ما نشهده من اهتزاز للأسس التي تقوم عليها السياسة والمجتمع، في العالم العربي هذه الأيام، نتيجة منطقية لما زرعته الدولة العربية خلال نصف القرن الماضي. إن الدولة العربية مهددة بالحروب الأهلية، والانقسام والتذرر، والفوضى. صحيح أن ثورات «الربيع العربي» رفعت شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي جميعا تشكل مثلث المواطنة الذي تقوم عليه الدولة العصرية الحديثة. لكن يبدو أن قيم الطائفة والمذهب والجهة والقبيلة أقوى وأعمق جذورا من هذه الأفكار والأحلام الكبرى.
على هذه الخلفية الكئيبة من تراجع العرب، وما يتهدد مستقبلهم من تفتت وانقسام وحروب تأكل الأخضر واليابس، يتضاءل الحوار العقلاني المنطقي وتشحب الأفكار ونسمع كلاما فئويا ضيقا إقصائيا تستبعد فيه الطائفة الطوائف الأخرى في المجتمع، وأصحاب المذاهب كل مذهب آخر، كما تزدهر العصبيات من كل جنس ولون. فهل هذه بيئة حاضنة للثقافة والتفكير، أم أنها بيئة طاردة مدمرة تنذر بالخراب؟ هل يمكن للثقافة والمعرفة النمو في مجتمعات تقصي على أساس الهويات الفرعية الضيقة وتوغل في الانسجان داخل شرانقها التي لا تربي سوى الانعزالية، ولا تطلق غير دعوات الإقصاء والاستبعاد ومحو الآخر وعدم الاعتراف به؟
إن الاستنقاع الثقافي الذي نشهده في العالم العربي الآن هو نتاج لميراث الاستبداد والفساد الذي تعاظم وتعاظم حتى سدّ الأفق على العرب المعاصرين، فهم يبحثون الآن عن مخرج ولكنهم يتعثرون بهذا الميراث المسموم الذي خلّفته الدولة العربية التي فشلت في أن تكون حديثة، فعادت بنا عشرات، بل مئات السنوات إلى الوراء.
( الدستور )