معن البياري – القاهرة
لمّا كان انعدامُ حرية الشعب السوري في التعبير عن نفسه، وإِغلاق الممكنات لتظهير قدراته، وللجهر بأَشواقِه إِلى الكرامة والعدالة، من مظاهر محنة هذا الشعب، طوال أَربعة عقود، فإِن تلك الحرية هي الوجهة الأَوضح لثورته التي يُواجهها النظام الحاكم بدموية. وبين ما يكتشِفه المراقبُ المتابع، لا سيّما المستجدّ، للحالة السورية في عمومِها، في غضون هذه الثورةِ وتفاصيلها، أَنَّ ثمة مغترباتٍ واسعة، تقيمُ فيها أَدمغةٌ وكفاءاتٌ سوريةٌ باهرة، ومتنوعةٌ في مناشطِها وأَعمالها، في العلوم والاقتصاد والمعرفة والصناعة والتقنية، كما في الفكر والآداب والفنون. وهي مع مثيلاتٍ لها تعملُ في أَجواءِ اختناقٍ حادّةٍ في الداخل، تمثلُ جسماً سورياً عريضاً، لديه مخزونٌ غير هيِّنٍ من إِمكانات العطاءِ لبلدِه وشعبِه. وتلك الإمكانات، المعلومةُ وغير المعلومة، للقدراتِ المهنية والفكرية السورية، في الخارج والداخل، من بعضِ ما تيسَّرت معرفتُه والوقوعُ عليه لحضور «المؤتمر التشاوري العلمي الفكري» الذي عقد الأُسبوع الجاري في القاهرة، بدعوةٍ من تيار بناء المستقبل الذي أُعلن عن إِنشائه أَخيراً، ومن طموحاتِه «تنمية الإنسان في المؤسسات العلمية»، انطلاقاً من «منظوراتٍ علميةٍ وفكريةٍ منفتحةٍ على شتى تيارات البحث والتفكير، من دون تصوراتٍ أَيدلوجيةٍ آسرةٍ للعقلِ ومحبطةٍ للخيال».
ورش جماعية
صدوراً عن هذا الطموح الذي تتبدّى خصوصيّته في مغايرتِه المشاغل السياسية وتكتلات المعارضة السياسية السورية، يصيرُ محموداً ومبعثَ إِعجابٍ جمعُ حوالى مئةِ عالمٍ وكاتبٍ ومهنيٍّ وأُستاذٍ جامعيٍّ وفنانٍ واقتصاديٍّ، سوريين، في المؤتمر الذي رعاه رئيس تيار بناة المستقبل، المهندس وليد الزعبي، وترأس جلساتِه وأَدارها الشاعر نوري الجراح، وأُريدَ منه تحضيرٌ نوعيٌّ لمؤتمريْن مقبليْن، فكريٍّ وعلمي يعقدان لاحقاً، تضع مكاتبُ علميةٌ وثقافيةٌ وإِعلامية، تحددَّت في المؤتمر التشاوري، التصوّر النهائيَّ لمحاورِهما، وتُسمّي المشاركين فيهما، بالتعاون مع «أَوسعِ طيفٍ فكريٍّ وعلمي» سوري.
وعلى ما جاءَ في البيان الختامي الذي صدر عن المجتمعين «المتشاورين»، فإِنهم يعتـــبرون أَنَّ «عملاً جماعياً كهذا من شأْنِه أَنْ يُساهم في تحرير حركةِ الثـــقافة والعـــلم مما كبَّلها من قيمٍ سلبية، فرضت عليها منذ مرحلة ما قبل الثورة، وعوَّقها، بالتالي، عن المشاركةِ المؤثرة في الأََحداث والمجريات الراهنة».
وفي ثلاثة أَيام، استمع المجتمعون إِلى بعضِهم، وإِلى كلماتٍ غير قليلةٍ من مشاركين وحضور، وبينهم ضيوفٌ عرب، وتوزَّعوا، وفق اختصاصاتهم في شتى الحقول الفكرية والأدبية والعلمية، مع حضورٍ بارز للمرأَة والأَجيال الجديدة، على تسع ورشِ عملٍ تحضيرية، عكفت على إِِعداد تصوراتٍ نظريةٍ وعمليةٍ ومشروعات، واختصَّت بالمجتمع المدني، الثقافة، الفكر والأَدب، الفنون، الإعلام، الإغاثة، الاقتصاد والتنمية، الدستور والقانون، الدراسات والبحث العلمي.
وفي كلمته في افتتاح المؤتمر، قال المهندس وليد الزعبي إِنَّ ما يُرى من فوضى في الملف السوري ليس بلا أَسباب، «… وليس لأَنَّ لدينا نظاماً قمعياً وحشياً فقط، وهو سببٌ كبيرٌ رئيسي، ولكن، لأَنَّ مجتمعنا تأَخر وتراجع، على الأَقل عما كان عليه قبل خمسين عاماً ماضية، وها هي الأَمراض المنتشرة بين الناس تمنعنا من الوصول بسرعةٍ إِلى انتصار ثورتنا، وتعرقلُ عملنا وعملكم». وأَشار إِلى أن نقص الخبرات بادٍ لدى بعض من يتناولون الملف السوري، وأَفاد بأَنَّ المكاتب التي تتشكل من المؤتمر التشاوري، سيعمل السوريون المشاركون فيها على تفعيلِها، بخبراتهم الثمينة، وبطاقاتهم وعقولهم، وقال «الآن، بدأنا نستردُّ زمامَ المبادرة، ونُحرِّر العملَ الوطنيَّ من مسرحِ السياسةِ والتجريب النظري، فإننا ننتقلُ بالعمل الإغاثي والعطاءِ من طورٍ إِلى طورٍ آخر».
وفي تقديمه المتحدثين، شدَّد الشاعر نوري الجراح على أَن المؤتمر يُعقد حراً في ظل المجتمع المدني السوري، من دون أَجنداتٍ سياسية، ومن دون رعاية أَية دولة، وبعيداً من الأَلاعيب والتقاطعات الدولية. ودعا الـــشيــخ سارية الرفاعي في الجلسة إِلى تعلم الأَمل من الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وأَوضح المثقف اللبناني الســـيد هاني فحص أَنه كعربيٍّ ومسلم ينتظر من سورية الحرة إِعادة تقديم الإسلام كنظام قيم يحمي المجتمعَ والمدنية، وينتظر من السوريين أَن يعيدوا العروبة إلى سياقها الإنساني، بعدما أَبدع النظام السوري (وغيره) في تهميشِه، وهو النظام الذي قال فحص إن لا فرقَ بينه وبين النظام الصهيوني.
وأَوضح أَنه حين تصبح سورية دولةً ديموقراطية حديثة وتعددية، فإِنه، كلبناني، يطمئن إِلى استقرارِه وإِلى الوحدة الوطنية لبلده. وأَبلغ فحص مستمعيه أَنه غيرُ مرتاحٍ لموقف النظام الإيراني من الثورة في سورية، لكنه مطمئنٌ إِلى موقف الشعب الإيراني الذي يُعاني كما الشعب السوري. وأَبهج الحاضرين أَن بينهم الأَب باولو داليوليو الذي كان النظام قد أَبعده من سورية التي يعتزُّ بانتسابِه إِليها، وإِلى ناسها الذين أَقام بينهم أَزيد من ثلاثين عاماً. وفي كلمتِه، بشاميته الوديعة، أَلحَّ الأَب باولو على وعاء سورية الحضاري الذي يجعل عروبتَها تحتوي التنوعَ فيها، وتضمُّ إِليها التركماني والشركسي والأَرمني، وأَوضح أَنَّ الجاري في سورية مقاومةٌ تستخدم القوة والعنف، كما كل المقاومات في التاريخ.
علماء وخبرات
شكَّل المؤتمر فرصةً طيبة للإنصات إِلى أَهل العلم والتقنية السوريين، ممن في الشتات خصوصاً، ومنهم عالم الذرة وصاحب الأَبحاث في «النانو» والدراسات في مشروعات علمية فرنسية، الدكتور نذير الحكيم، والذي أَكد «ذهاب الطغمة الحاكمة» في دمشق، ورائد الفضاء اللواء فارس محمد فارس، والذي شدَّد على إعادة بناء الجيش السوري، بعدما عمل النظام على تدميره مادياً وأَخلاقياً، وقال إن من الأَولويات بعد انتصار الثورة بناءُ الجيش الوطني الذي يدافع عن سورية في شكل صحيح. وشدّد أُستاذ الفيزياء النووية والجسيمية والباحث في الضوء الإلكتروني في جامعة باريس، الدكتور إِلياس وردة، على تكامل جبهات النضال السياسية والعسكرية والعلمية الثقافية من أَجل إِسقاط النظام. وتحدث رجل الصناعة والاقتصاد والإغاثة المقيم في أَلمانيا منذ 40 عاماً، وتم التعريف به بأَنه ممن نقلوا علوم النسيج الدمشقي إِليها، الدكتور عدنان وحّود، تحدث عن تجربتِه في العمل الإغاثي والتطوعي في شمال سورية في الشهور الماضية، وهو الذي منعه النظام من دخولها قبل 30 عاماً، وقال إِنه شاهد في الأثناء سوريين عظماء، بينهم أَطباءُ وكفاءاتٌ اجتماعية باهرة. وجاءَ مهماً أَنْ نعرفَ من أُستاذ الرياضيات في أَكاديمية العلوم في موسكو، الدكتور محمود الحمزة، أَنه يتعرَّض لما سماه «إِرهاباً» من وزارة الخارجية الروسية التي ضغطت لفصله من عمله، بطلبٍ من السفارة السورية، لفاعليته في نشاطِه المناهض للنظام، وأَشار إِلى وجود من سماهم «شبيحة إِعلاميين روس»، وشدَّد على حاجةِ سورية إِلى بناءِ قاعدةٍ علميةٍ وتكنولوجية، ما يتطلبُ بناءَ قاعدةٍ تربويةٍ وتعليمية. وآثر الطبيب الجراح في باريس، الروائي المعروف، خليل النعيمي، أَنْ تكون كلمتُه تأملية، وقال فيها إِنَّ السوريين في حاجةٍ إِلى الصمت، وإلى إِعادة النظر في تاريخِهم الشخصي، «… تاريخ البلادة والقمع، ووضعِه ضمن تاريخ المجتمعات الطبيعية، وتلك مهمّة الثورة». وإلى هذه الأسماء، ضمَّ المؤتمر كتاباً وفنانين وشعراءَ وناشطين، منهم، لويز عبدالكريم، مفيد نجم، عبدالحكيم قطيفان، سليمان البوطي، رشا عمران، وليد قوتلي، عزَّة البحرة، نجاتي طيارة، مها حسن، سميح شقير، علي فرزات، لينا الطيبي، إِبراهيم اليوسف، عاصم الباشا، ثائر موسى، مروان علي وموسى الخطيب، وآخرون من المشتغلين في التعليم الجامعي والنشاط الإغاثي، ومن العرب، الفلسطيني سلامة كيلة والليبي سالم الهنداوي واللبناني يوسف بزي. وقد أَلحت كلماتُهم على سورية واحدة معافاة من أَمراض الطائفية وتقسيم المجتمع إِلى أَقلياتٍ وأَكثريات، وعلى أَنْ تجد الرؤى العملية المطروحة في المؤتمر سبلها إِلى التنفيذ.
الثقافة والمال
وقال المشرف العام على لجنة المؤتمر التحضيرية، الشاعر نوري الجراح، لـ «الحياة»، إِنَّ المؤتمر أُريد منه، أَيضاً، أَنْ يُؤسس لعلاقةٍ جديدةٍ بين الثقافة والمال الأَهلي، لأَنَّ تاريخ العلاقة بينهما تسلطي، وهو تاريخُ السلطة المستبدة في علاقتِها بالثقافة من باب الهيمنة على صوت المثقف، لإخضاعِ الثقافة وتحويلها إِلى أَداة قمع الفكر والوجدان الإنسانيين. ويرى الجراح أَن ذلك التاريخ السيئ الصيت يرمي ظلال شك وريبةٍ في علاقة الثقافة بالمال الذي يرعى الأَعمال والمشروعات الثقافية، كما أَنَّ جزءاً من علاقةِ الثقافة العربية بالمال غير الرسمي، أَيضاً، مريب، لأَنَّ هذا التاريخ لم يرسم علاقةً صحيةً بين الثقافة والراعي. ووفق الجراح، فإِن المؤتمر التشاوري العلمي الفكري لبناة المستقبل، والذي رعاه مال سوري أهلي مستقل، أَراد أَنْ يُظهرَ علاقةً جديدةً لا تسمح للمال بتعدّي حدودِه في صناعة الثقافة، كأَنْ يفرض أَجندةً غير ثقافية على الثقافةِ والمثقف، واللذين تحفظ هذه العلاقة الجديدة لهما كرامتهما واستقلاليتهما وحرية الفكر والتفكير. وأَضاف الجراح الذي يُؤكد صفتَه التطوعية في إِشرافه على المؤتمر «أَتاحت لنا الثورة السورية العظيمة أَنْ نلتقي على قاعدةٍ من الشفافية والحرية، ولذلك، نحن مدينون لها بأَنْ نحافظ على استقلالية الثقافة أَمانةً في أَعناقنا، وهذا ما سيكون امتحاناً حقيقياً وعملياً لصدقية ما أَقول حول العلاقة بين الثقافة والمال في مجتمعٍ سوري جديد».
ومع اختتامِه ورشاتِه وجلساته في أَيامه الثلاثة بنشيد الحاضرين «موطني»، وبتقديم الفنان سميح شقير أُغنيته «يا حيف»، وبعرضِ فيلم وثائقي عن أَطفال مخيمات اللجوء السوري أَنجزه المخرج وليد قوتلي، فإِن مؤتمر النخب السوريّة، الأَول في تنوعه وطموحاتِه، يُخلف رهاناً صعباً على وجوبِ تنفيذ طروحاتٍ قيلت فيه، تساهم في بناءِ مستقبل آخر في سورية.
( الحياة اللندنية )