معتصم صالحة *
يقول رشدي في إجابته على سؤال تشارلي روز في المقابلة التي أجراها معه مؤخراً بمناسبة صدور كتابه، ‘جوزيف أنطون’ الذي هو عبارة عن مذكراته التي تروي تفاصيل عن فترة اختبائه بعد صدور الفتوى الإيرانية بقتله في 14 شباط – فبراير 1989 بسبب كتابه ‘آيات شيطانية’ الذي اعتبر مسيئاً للإسلام، لماذا قررت كتابة هذه المذكرات الآن؟ ‘ببساطة لأنني شعرت بأن مشاعري جاهزة لتدوينه وإخراجه إلى العلن. كنت أعلم بأنني سأكتب هذا الكتاب يوماً ما، ولذلك كنت أدوّن الأحداث الهامة التي تحدث لي يومياً، ولكنني لم أرد العودة إلى ذلك النفق المظلم الذي كنت فيه، يوم كنت مختبئاً إلا وأنا جاهز بكامل أحاسيسي لذلك’.
طبعاً ربما كان هذا الكلام مجرد كلام إعلامي والسبب الحقيقي في توقيت نشر الكتاب الآن، ربما كان مقصوداً في هذه الأيام بالذات التي تشهد حالة الغضب العارمة من الفيلم المسيء للإسلام ‘براءة المسلمين’، والذي كان رشدي قد وصفه بأنه عمل تافه لا يستحق ردة الفعل هذه، بالهجوم على السفارات والمظاهرات بل بالقول لمخرج الفيلم: ‘دعنا نكمل نهارنا’.
وعن رأيه في التغيير في العالم الإسلامي يقول بأنه يجب أن يأتي من داخل العالم الإسلامي لا من خارجه. وان أكثر الناس المتضررين من هذا الجمود والتصلّب ومن الحد مما يمكن مناقشته أو عدم مناقشته ومن هذا القمع والعنف، هم الناس الذين يعيشون في العالم الإسلامي. ويرى ان المشكل الرئيسي الذي يعاني منه المسلمون هو هذه الحساسية المفرطة من مجرد التساؤل عن جوهر الدين. فضلاً عن رفض مناقشة حياة الرسول والإسلام بحد ذاته. ويذكّر بأن هذه المعركة الحاصلة الآن في العالم الإسلامي شبيهة بالمعركة التي خاضها التنويريون من أمثال فولتير، مونتسكيو، روسو و ديدرو على سبيل المثال لا الحصر، أثناء النهضة الأوروبية والتي كانت ضدّ الكنيسة وليست مع الدولة.
وعن ظروف إصدار الفتوى ضده يقول: ‘أنا متأكد بأن الإمام الخميني لم ير نسخة واحدة من الكتاب فضلاً عن أن يكون قد قرأها. كان إصدار الفتوى إحدى الطرق التي اتبعها لكي يشغل الرأي العام الداخلي والخارجي عن الأزمات التي كانت تعاني منها الثورة الإسلامية في إيران، مثل الهزائم في الحرب على العراق والأزمات الداخليّة والدولية التي كانت تعاني منها من جراء هذه الحرب. ولكنه من المعروف بأن موجة الاحتجاج والغضب كانت قد بدأت في العالم قبل أن تصدر الفتوى ضده حيث قتل 7 أشخاص في اسلام اباد وكشمير أثناء تظاهرة احتجاج على صدور الكتاب. كما قتل ناشر الكتاب النرويجي في المصعد بالقرب من مكتبه بينما نجا المترجمان الياباني والإيطالي من محاولة قتلهما.
وفي وصفه للحياة التي عاشها آنذاك يقول بأن حياته تحولت إلى نوع من أنواع الأفلام المشوّقة: ‘فجأة أصبح هناك شرطة لحراستي وبوليس سرّي لمراقبة كل من يتصل أو له علاقة بحياتي. كان الكتاب فرصة لشكر كل من ساهم بشكل ما في حمايتي من جهة، ومن جهة أخرى للتعبير عن الإمتنان لكل من شارك في مساعدتي على الاستمرار في العيش شكلاً من أشكال الحياة، حتى ولو لم تكن طبيعية، في ذلك الجو البوليسي الذي كنت أعيشه. أردت أن أشكر أولاً الحكومة البريطانية التي تكفّلت بحمايتي، وأفراد الشرطة الذين قاموا بذلك وأيضاً عائلتي وأصدقائي’. ومن الجدير بالذكر ان الحكومة البريطانية تكلّفت مليون جنيه استرليني سنوياً لحماية رشدي.
ثم يتابع فيقول: ‘كانت هذه التجربة في الحياة مهينة بكل ما للكلمة من معنى. أن لا تستطيع ممارسة حياتك اليومية بشكل طبيعي هو أمر من الصعب تخيله. أن لا تكون قادراً على أن تلعب مع طفلك أو أن تتمشى معه في الشارع. أن تعيش دائماً في بيت ليس لك وأن تتنقل دائماً من مكان إلى آخر. أن لا تكون قادراً على أن تتصل بعامل الصحية لكي يصلح صنبور الماء الذي كسر وأن تختبيء عندما يأتي لإصلاحه. أو أن تمشي في أي مكان ودائماً تتلفت حولك خوفاً من أن أحد ما ربما سيهاجمك. هذه أمثلة بسيطة تحضرني الآن على سبيل المثال لا الحصر’.
وكان رشدي قد اختار الاسمين الأولين للكاتبين كونراد وتشيكوف اسماً له أثناء تلك الفترة بعد أن طلبت منه الشرطة أن يختار اسماً له ليستخدمه في المعاملات التي يجريها كاستئجار منزل أو ما شابه ذلك، وأن لا يكون ذلك الاسم اسماً هندياً لأنه ربما يكون دليلاً على هويته الأصلية. أما حرّاسه فكانوا يدعونه جو. ‘اخترت هذين الإسمين لأنني شعرت بعلاقة خاصة تربطني بهذين الكاتبين. كان تشيخوف ذلك الشاعر الحزين والمتوحد يقول بأنه (يتمنى ان يكون في مكان آخر غير ذلك الذي هو فيه). وكنت أنا نفسي قد شعرت بذلك أحياناً’، يعترف رشدي. أما بالنسبة لكونراد فيقول بأنه كان قد قرأ له هذه الجملة في إحدى رواياته، ‘يجب أن أحيا حتى أموت’، وكان هذا بالضبط ما يشغل بالي صدور الفتوى وتهديد الموت الذي بات يحلق فوق رأسي بشكل دائم’.
‘كل كتاب تكتبه يعلّمك كيف تكتبه. لم أرد كتابة هذا الكتاب كاعترافات أو ذكريات. أردت كتابته كرواية ولكنها مختلفة عن كل الروايات في انها حقيقية’ يقول رشدي. كتب الكتاب بصيغة الغائب حيث يروي فيه رشدي سيرة جوزيف أنطون، ويقول بأنه تمنى لو أنه انتقد الإسلام أكثر بعد صدور الفتوى بقتله والتي كان قد ظنّ، كما ظنّ الجميع، بأنها أزمة ستدوم بضعة أيام وتنتهي، ولكنها استمرّت لتأكل 11 عاماً من حياته كما قال. ‘كتبت الكتاب بصيغة الغائب لأنني أردت أن أقف على مسافة خطوة خارج نفسي وأكتب عنها. لقد أصبحت شخصية من شخصيّات الرواية ولذلك توجب عليّ فعل هذا لكي أكون موضوعياّ ومحايداً في التعامل مع هذه الشخصية. لقد كنت شيطاناً في نظر أعدائي ومثلاً في نظر المعجبين بي. أما أنا فأردت أن أكتب عني أنا، الإنسان، بكل تناقضاته، قوته وضعفه، حبه وكراهيته الخ… علمتني هذه التجربة الكثير عن الحياة، عن نفسي وأصدقائي. كما أنها عرفتني وقرّبتني من أصدقاء جدد وأيضاً عرفتني على حقيقة أناس كنت أعتقد بأنهم أصدقائي’.
وعن والده يقول: ‘والدي لم يرد لي أن أصبح كاتباً. كان يتمنى لي أن أصبح محامياً أو أن أدير مصنع الأقمشة الذي أسّسه. لم يتكلم عن عملي ككاتب أبداً طيلة حياته ولكنه قبل أن يموت بستة أشهر، كتب لي رسالة في عيد ميلادي الأربعين وقال فيها بأنه فخور بي وبما أفعل. مات والدي قبل أن أكتب ‘آيات شيطانية’. أما والدتي فقد كانت تحب ‘القلاقل’ وكانت تحب أن تقرأ القصص القصيرة أو المقالات التي كتبتها لأنها تستطيع أن تنهيها بسرعة’.
وفي المقابلة التي أجرتها معه ال بي بي سي موخّراً، وردّاً على سؤال عن مشاعره تجاه ذلك الكتاب الذي تسبب في كل هذه الأحداث الجسام يقول: ‘بالرغم من كل ما عانيته بسبب آيات شيطانية، أنا فخور جداً بهذه الرواية’.
صدر كتاب ‘جوزيف أنطون’ في أيلول- سبتمبر 2012 للكاتب البريطاني سلمان رشدي الذي يتحدر من أصل هندي وينتمي إلى عائلة مسلمة من كشمير. ولد في مدينة مومباي عام 1947 ولكنه يعيش في بريطانيا منذ أن قدم إليها للدراسة في مدرسة داخلية عام 1961 ومن ثم التحق بجامعة كامبردج حيث درس التاريخ وتخرج عام 1968. ويعتبر من أهم الكتاب العالميين حيث كان قد حصل على جائزة بوكر عام 1981 عن روايته ‘أطفال منتصف الليل’. أما إيران فكانت قد أوقفت ملاحقة رشدي في كانون الثاني/ يناير 1998.
عندما سئل مرة عن كيف يمكنه أن يكتب شيئاً كهذا، ‘آيات شيطانية’، ضدّ دينه وأهله، ضدّ جذوره قال، ‘عندما أنظر للأسفل لا أرى أية جذور، بل أرى قدمي’.
‘ كاتب سوري يقيم في انكلترا
( القدس العربي )