محمد بديوي *
( ثقافات )
حبات من الهال لا زالت تقرع في ذاكرتي جرسا كبيرا ، شهوتها ورائحتها ، من كف امتدت الى كفي ، تهز قلبي وتروي للعشق . قصة لم تكن طويلة ، حبات من الهال ، ايقظت في ذاتي نشوة وكيف يولد الممكن من المحال، ونبضي اسرع من عجلات المركبة التي حملتنا، وجمعتنا ، والشتاء يرقص بحباته على سقفها ، نرسم واقعا حيا ، وهمسنا الخجل وصوت الرعد يطرد من دفئنا سطوة الخيال .
حبات من الهال ، لا تزال في صمتها المطبق على صدري كالجبال ، وذكرياتها العفوية ، وذاكرتها ، الشتوية ، ورائحتها تلك التي عششت في الطريق ، والبال . برد ينخر بعظامي , وهواء اشعر انه يمزق وجهي وكثب السحب السوداء القادمة من الغرب تكاد تسرب مني الامل باني ساحظى بما اتمنى والانتظار كان يزيد من احساسي بالبرد والخوف ، بذلت جهدا اضافيا لاشعل سيجارة لم يكن لها أي طعم ، سائقو السيارات كانت انظارهم تتجه صوبي فقد كنت الوحيد الذي يقف متسمرا بينما الكل يمر بسرعة او يركب المركبة المخصصة للمكان الذي يريد
كنت احاول ان لا اجعل نظري يلتقي انظارهم . صاح احدهم وهو ينظر الي : البقعة ؟ ابتسمت : لا يا سيدي فوجئت باحدهم من خلفي : الزرقاء اخر راكب – كلا شكرا ازحت بوجهي لجهة اخرى الا ان الاصوات كلها انطلقت مرة واحدة : اربد ، الرصيفة ، الزرقاء ، كل ذلك دفعني ان امشي باتجاه الاكشاك وانا احدث نفسي ماذا لو ابتعدت قليلا وحظيت بفنجان قهوة
مسائي رديء . طلبت من البائع فنجان القهوة وانا اراقب هاتفي بدقة ، كنت ارجو ان يظهر الرقم الذي اريد او اشارة لرسالة قصيرة . الشمس سقطت في عشها الاخير ، دورت ببصري افتش بين المارقين ، لمت نفسي كثيرا لماذا لم اسأل عن لون الملابس مثلا او عن الجهة التي ستأتي منها ، وابتسمت وانا اجيب بنفسي على سؤالي : وهل سيكون للون أي معنى مع انتشار هذه العتمة وهذا الفيض من الناس ، واوقف تساؤلي البائع وهو يعطيني كأسا كرتونيا بداخله شرابا ساخنا يحمل بذاكرته طعم القهوة ، وحبات المطر الصغيرة بدأت تتساقط ، نظرت باتجاه عامود يحمل بقية مصباح يعمل بهدوء ، كانت حبات المطر كأنها العاب ورقية ، بقية الضوء تكشف عن حجم فراغ بسيط بينها ، ابقيت وجهي ممدودا الى السماء وشعرت بسعادة والماء يقفز على وجهي ، ازداد حجم حبات المطر وبدأت اشعر ان الفراغ الذي بينها بدأ يضيق ، ولم اعد قادرا على فتح عينيُّ على اتساعهما
. وجاء صوت هاتفي وكأنه ساعة منبه وانا نائم في فراشي . – اين انت ؟! انا تحت المظلة عند موقف الباصات الكبيرة استدرت كانت تبدو مثل عصفور بلله المطر ، تضاءل حجمها من شدة البرد ، مشيت مسرعا باتجاهها ، وقفت امامها وانا اقول : تأخرت ؟ – انت مبللة ! اردت ان اخلع سترتي لتلبسها لكنها رفضت ، وهي تعتذر عن تاخرها ، بعفوية حاولت ان اضع يدي على كتفها لنبدأ مشوارنا لكنها ابتعدت ، توقفنا لم اعتذر ولم تغضب . اضطراب كان يلفنا ، ومطر يغسلنا ، برد يمر من عظامنا ودفء يفور من افئدتنا ، فاجأنا صوت سائق وكانه قرأ عنوان محطتنا : اربد ؟ قلت له : نريد المقعد الخلفي كاملا لنا ؟ ابتسم وهو يقول : اهلا وسهلا ، لننطلق اذن فالمقعد الامامي مليء .
تصاعد صوت المطر في الخارج ودفء كان يغمر المركبة ، السائق شغل مذياعه ، رفع صوته بخبث واخذ يتجول بين المحطات وعجلات مركبته ترشق الارصفة ، مر عن صوت محطة القرآن مسرعا ، واستقر اخيرا عند اغنية قديمة . كان فراغا في المقعد بيني وبينها وهذا هو موعدنا الاول ، والمسافة الى اربد لن تاخذ اكثر من ساعة وربما يسعفني ان المطر سيجبر السائق الى تخفيف السرعة لاحظى بربع ساعة اخرى . انعكاس ضوء المركبات الاخرى يكشف عن فراغ في المقعد ظل بيني وبينها ، حدثتها عن المطر في بدايته وكيف تضاءل فراغه فابتسمت ، سمع بعض همسنا السائق فطلبت منه ان يرفع من صوت المذياع فرفع مرآته الى الأعلى وهو يقول للذي يجلس بجانبه : اين تعمل ؟ وكان شوقنا قد كبر حجمه فضاع الفراغ ، ومن تحت الشال الذي غطى تلاقي كفينا شعرت ببرد تمكن من كفها ، انطفأ صمتنا مع صوت الرعد وضوء البرق ، وجنون الشتاء ، وحديث مرتفع في المقدمة ، واظن السائق كذب اكثر من مرة وهو يروي للذي بجانبه بعض بطولاته الخرافية
شعرت ان كل شئ في هذا الوقت يريد منا ان نقترب ، وشاع بيننا عشق غرد في قلبينا انه لن ينتهي . أخرجت من حقيبتها الصغيرة حبات من الهال وهي تقول : كيف هي اسنانك ؟! قلت : بخير فابتسمت وهي تضعها بكفي ، وضعت واحدة بفمي طعمها كان كافيا لانسى رداءة طعم القهوة التي شربت ، ووضعت الباقي في جيبي ، حرارة الحديث ترتفع حتى نسينا ان احدا يشاركنا هذه الرحلة ، ورغم الفرح الذي ساد الا ان بعض الحزن كان يتسرب ، كالبرد المتسرب من شقوق ابواب المركبة ! ان تحكي في ساعة واحدة كل عمرك ! لوكان كله فرح لاحزنك ! كم نحتاج الى زمن اضافي لنقول كل شئ . دخلت المركبة الى اربد والرحلة تلفظ اخر دقائقها ولم يسعفني الوقت لاسرد كامل مشاعري ونزلنا من المركبة وهي لم تقل بعد احبك بضع خطوات ونفترق ، وكفي لا زالت عالقة بكفها ، والمطر كانه يحتفل ، منعنا ان نصمد اكثر ، اعاد الفراغ الى جسدينا ، وقلبي لا زال يحدث قلبها ، ودعتها وانا اوصيها خيرا بنفسها ، وهي تذكرني بموعدنا ، وابتعدت حتى تضاءلت وابتلعت العتمة ظلها ، تحسست نفسي كنت اقطر ماء وحزنا ، اخرجت حبة هال وضعتها في جوفي وركبت الى رحلتي الاخرى . بالامس وانا افصل ما بين ملابسي الصيفية والشتوية عثرت كفي في جيب قديم على حبات من الهال كانت قد اقتربت كثيرا حتى تماسكت لم تترك أي فراغ بينها وضعت واحدة بجوفي لتنطق ذاكرتي بكل لحظة مرت ، استعدت ذلك المطر القديم ، وكيف مر كل هذا الزمان .
الرقم لم يظهر ولو مرة واحدة على هاتفي ، وكيف انقطعت كل الرسائل القصيرة ! وكم انتظرت في ذلك المكان ولم تأتي ! حين اضطربت وصار لا بد من ان اعرف ، قال احدهم : انها في ليلة ماطرة دخلت الحي مبللة فرحة ، كانت تضحك وتركض في شوارع الحي وكأن مسا اصابها .. لم تنتبه الى سيارة كانت تأتي من الشارع الاخر باقصى سرعة لتصدمها ، بحادث سير قتلت !
وعندما فقدت صوابي اراد اخر ان يخفف عني وقال مكذبا رواية الاول : انها تزوجت والى خارج البلاد هاجرت . – ببساطة هي هاجرت مضيت وانا اراها مخضبة بدمائها وصوت الوجع الذي دق عظامها يفرم قلبي ، وما زالت روحي تقول لي كلما صفوت مع نفسي : انت من قتلها موعدك هو ما أخرها ، هو من بللها وافقدها قدرتها على التماسك لتغفل عينها عن الرؤية . ما زلت أرى جثتها مخضبة بدماءها ، وما زلت اقنع روحي أنها خارج البلاد وأنها هاجرت ، وقلبي يقول : ما بقي الهال ، سيبقى طعمها اينما رحلت….!
* قاص من الأردن