بار أوسّو Dolce vita


منصف الوهايبي *

بارٌ ذَا أم مأوى محتضرينْ لا أحدٌ يسمع جنّيات البحر هنا لا أحدٌ..هل شَدّوا أنفسهمْ في هذا البار
إلى ساريةٍ؟هل سدّوا آذانَهمُ بالشمع إذًنْ؟
أم هل كانوا يُصغون وهم أدرى من جنّيات البحرِ بما كنّ يغنّين
البار يطلّ على البحر
ومن طابقه العلويّ نرى صيفا
أفواج المصطافينْ
ونساءً في هيئة سيقان زهور يتشمّسنَ
نرى أحيانا طفلا ينفخ في قوقعةٍ ..أحيانا بنتًا تغرز شمسيّتها بهدوءٍ
وكأنْ تحقـِن ذكرى صيف ما
***
كنت أقول لنفسي لا أحدٌ يعرفني في بارأوسّو بلباسي هذا
معطفيَ الشتويُّ وقبّعةُ القنفذ إذْ تعلو غمغمةُ البحر شتاءً أوتسمق أمواجٌ
أحيانا.. بيريه..وقميص من ناعمِ صوفٍ أو من كتّانٍ خشنٍ
ودْجينْزٌ أزرقُ أو أسودُ
إذْ يتّخذ الرمل خريفا
وربيعا لون لحاء صنوبرةٍ يوقظها مطر أو ريحٌ
أو تلمعُ في المتوسّط بقعةُ فحمٍ أو بترول

لكنْ
أحدٌ ما في هيئة نوتيٍّ..يتهيّأ لي أنّه يعرفني
بل يتهيّأ لي أنّي أعرفه
لا أذكر أين تلاقينا
يتسلّل من أعماق العتْمة وهو يحرّك أنفا كالأرنب
بين أواني فَخّارٍ لا لون لها تعبق منها رائحةُ الراتنجِ
أقول لنفسي: لو كانت لي ريشةُ خزّاف..لوْ

يدخلُ كاللصّ ويرحل كاللصّ،بقبّعة في لون القشِّ
ولا مطرٌ يتلفُ قبّعةَ النّوتيّ ولا ريحٌ
هل كانَ يصلّي إذْ يُرهفُ عينيهِ
ويجلس مقطوع الأنفاسْ؟
بل يتهيّأ لي أنْ لا نفَسٌ يصدرُ عنهُ..بلْ لا خيطٌ من نفَسٍ فيهْ
أنا لا أذكر أين تلاقينا
بل أذكرهُ..ولعلّي من ذِكْرِيهِ أكادُ إذن أنساه
أحيانا حين أكاد أهمّ به وأناديهْ
يرفع سبّابته البيضاءَ إلى شفتيه البيضاوين المطبقتين،بخفّة ندْفة ثلجٍ
ويشير إليّ أنِ اصمتْ.. فيما تلمعُ عيناهْ
***
ـ هل أدّيت الخدمةَ؟ قلْ
ـ فاتتني الفرصةُ في العسكرِ.. أو فوّتُّ الفرصةَ.. لا أدري
لم أشهدْ حربا قطّ..أنا ربّان زوارق لا غيرْ
كنت هنالك في هذا المتوسّط أدفعها في فرجاتٍ من أقواس الصخرْ
ـ حدّثني عن تونس ما بعد الثورةِ..قلْ
Dolce vita ـ
لكنْ لا تعنيني إلّا هذي الكاسْ
***
أنا أعرفُ روّاد أوسّو القارّينْ
أعني لا أعرف أيّاً منهم حقّا
وأقولُ لماذا يتناقصُ روّاد أوسّو عبر فصول العامِ
ولا يأتي بعضهمُ أبدًا؟
***
ـ نقّعْ هذا القاروص الطازَجَ.. أسرعْ
وأعدَّ لصاحبنا الطاعن صحنا من مخفوقِ بطاطا
والشيخ يقول:’ أهذا بحرٌ أم مَخلَفُ أسماك؟هل هذا قاروص بحريٌّ؟’
:والشيخ يقول لصاحبه النوتيّ بلثغة طفلٍ
تكفيني كاملَ يومي بضْعُ كُراتٍ من رُزٍّ مقليٍّ في لحمٍ مفروم
والنوتيّ يقول له:حاذرْ إذْ تتشبّثُ بالسلّم ..هذا الأملس مثل حصاة النهْرْ
***
اليومَ هنا في بار أوسّو.. في طابقه العلويّ أقول لنفسي
ـ وسحابٌ يدعك سافلة البحرِ..الأزرقُ يخضرُّ ويصفرُّـ
تُرى أضللْتُ دليلي؟البنتُ الحجليّةُ لن تمرق
سهما منخطفا في مركدِ ريحٍ
من خُفّيها
ينساب رذاذٌ من رمل وحصى ..وأقولُ كأنّي في تمبكتو حقّا
لا أحدٌ يعرفني بلباسي هذا
وأقولُ ستمطرُ بعد قليل
والنوتيُّ يقول لصاحبه
فيما قطرات زجاج تنصَل في الماء الباردِ
والبحرُ يعودُ إلى ماء سَويّتهِ.. يعلوهُ زبدٌ كالقشدةِ
ـ جرّبْ هذي الخمْرْ
( لكن..هل كانَ يُوشوشُ لي أم كان..لصاحبه؟)
كنتُ تفحّصتك مثل اللوحةِ
كنتُ هنالك في خلفيّتها
لكنّك كنت تكذّبني
وسريعا يُنسى الغائبُ مثلي
هل تتبعني؟
الأمرُ بسيطٌ جدّا
لن يستغرقَ أكثر من بسطةِ جِنْحَيْ طيرْ
***
لكأني أسمع وقع غناء
فيما كنت أيمّمُ وجهي شطر البحْرْ

 

 

*شاعر من تونس

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *