علا الشيخ
«اش قد اتغيرت حلب» جملة باللهجة الحلبية قالتها ايمان عاشقة أغاني أم كلثوم (لعبت دورها الفنانة السورية سلوى جميل)، لزوجها عدنان (أسامة السيد يوسف)، غير المبالي الا بنشرات الأخبار في فيلم «باب المقام» للمخرج السوري محمد ملص، الذي عرض فيلمه في أكثر من مهرجان سينمائي، قبل ست سنوات، لينتهي الفيلم بمشهد المنغولي (المستمع الوحيد لإيمان وهي تشدو بالكلثوميات) وهو يركض وراء القتلة ويصرخ «قوصوا الغنيّة»، أي أطلَقوا النار على الأغنية.
تناول ملص قصة حقيقية حدثت في مدينة حلب ونشرت تفاصيلها وسائل الصحافة والإعلام السورية، حول عم قتل ابنة اخيه لشكوكه في أنها على علاقة غرامية مع أحد غير زوجها، إذ يظن عمها أن عشقها لأغاني أم كلثوم دليل على خيانتها، فقتل جزءاً من لحمه ودمه بدم بارد.
هذه الجريمة التي وقعت في مدينة الغناء الأصيل قبل 11 عاماً، يمكن ربطها بما يحدث الآن في كل سورية التي هب شعبها من أجل الحرية والكرامة. كم تشبه تلك القصة الحقيقية الواقع الحالي الذي تعيشه حلب التي أصبح اسمها من أكثر الأسماء تداولاً في الأشهر الماضية، أثناء الثورة السورية. لكن هذه المرة ليس بسبب عاشقة أغاني أم كلثوم التي قتلها عمها بناء على شكوكه، بل بسبب الهتاف الشعبي «سورية بدها حرية».
يبدو من المبالغ فيه اسقاط فيلم تم انتاجه قبل الثورة السورية ببضع سنوات على ما يجري حالياً، لكن الربط ليس في التفاصيل بقدر ما هو بجرائم القتل بدم بارد والمجازر التي يرتكبها النظام.
صرخة
حلب، تلك المدينة التي من لم يعش فيها يعرف على الأقل أنها ولاّدة الطرب الأصيل، فكيف لهذه الولاّدة أن تسمح بارتكاب جريمة بحق امرأة عشقت صوتا تم الترحيب به من سلاطنة الطرب في حلب، عندما قدمت أم كلثوم للغناء أمامهم وهي تعلم أنها أمام اختبار صعب. وتبقى تلك الجملة الصرخة في الفيلم «اش قد اتغيرت حلب» تلح الآن بقوة في وقت «نزع الحناجر» والموت اليومي في حلب وغيرها من المدن والقرى السورية الثائرة ضد القهر. وهذا ما يؤكد ما قاله مخرج الفيلم ملص الذي يحضّر حالياً لفيلمه الجديد «نامو سينما» الذي يحكي فيه قصصاً حقيقية عن الثورة السورية، «للفنان غاية لا ينكشف سرها الا في وقت ما، وقصص الظلم متشابهة دوماً، وحساسية الفنان تجعله يلتقط الحدث كي يبني عليه اسقاطه، وحينها كانت قصة ايمان قصة ظلم آخر».
أحداث
أحداث قتل الأم ايمان بـدم بارد بيـد عمها تـدور في عام 2003 في الفيلم، مع أن القصة الحقيقية كانت في عام ،2001 لكن أراد ملص أن يقرن القصة بعام الحرب على العراق والانتفاضة في فلسطين في حضرة الحملات الانتـخابية لمجلس الشعب السـوري مع لافتات في كل مكان، ووعود بحـياة أفضل للجمـيع. ومع كل هذا يقرر العم قتل ابنة أخيه بتهمة الخيانة الزوجية بناء على شكوكه الشخصية، ومن دون دليل، وهذا حدث أمام زوجها الذي يعرف تماما أنها بريئة.
وكتب الناقد السينمائي الفلسطيني بشار ابراهيم عن الفيلم «نعم، لا يتخلى المخرج محمد ملص هنا عن أسلوبيته التي اتبعها في فيلميه الأولين، من ناحية توفير الخلفية السياسية الاجتماعية للأحداث، ومنحها الدلالات المعبرة عن حالة الخواء الذي يشهده المجتمع العربي، على الأقل منذ مطلع القرن العشرين، وطيلته، والربط بين المصائر السوداء للأفراد، بالمتحوّل العام، بدءاً من ديب ووالدته في (أحلام المدينة)، وعلي ووصال وابنهما في فيلم (الليل)، وصولاً إلى إيمان وعدنان والأطفال في (باب المقام)».
وأوضح أن البناء الدرامي للشخصيات فيه نوع من الإسقاطات، إذ إن «إيمان» ربة منزل، من أسرة محافظة، تعيش حياة الكفاف مع زوجها «عدنان»، الذي يعمل سائقاً لسيارة أجرة. وتعكف «إيمان» على رعاية ابنها الصغير عبدالناصر، وابني شقيقها «رشيد» المعتقل السياسي، الطفلين جمانة ومالك. اما «عدنان» المهتم كثيراً بمتابعة نشرات الأخبار السياسية، التي لا تنفك ترافقه في دورانه في شوارع حلب باحثاً عن راكب ينقله، من هنا إلى هناك، ترافقه الأخبار إلى البيت الصغير الحميم، المغسول بالمحبة والألفة، على الرغم من المأساة المتوارية خلف قسمات الوجوه، كما خلف الآتي من الأيام.
وأضاف ابراهيم «ظهر منذ البداية، أن ثمة إصراراً على أن يكون للمرأة المُشرعة للقتل، شقيق هو معتقل سياسي، وعمّ هو ضابط سابق، وأبناء عمومة ملأهم الغلظة والجهل. وأن يكون لها في المقابل زوج رخو إلى حدّ السلبية، وشقيق أصغر على طريق الأصولية، وأب غاية في الوهن، وأم قليلة الحيلة. وعلى أن تجري مباحثات القتل على طاولة عامرة بالطعام، وأثناء طقوس التهام بشع للطعام. وقبل ذلك أن يكون العم وأبناؤه يعملون في ذبح الدجاج».
تقنية رقمية
استخدم ملص في تصوير الفيلم التقنية الرقمية «ديجيتال» ليحولها بعد ذلك إلى النمط السينمائي، في تصوير تفاصيل حياة كاملة في «باب المقام»، فيها الأم التي تهتم بنظافة بيتها في وجود ابن وأبناء شقيقها ومحاولة خلق حوار مع زوج غير مبالٍ، وشارع، وموسيقى تصويرية اعتمدت على أغان عشوائية لكوكب الشرق ام كلثوم.
وفي مشهدية اسقاطية، يظهر صوت السكاكين وهي تذبح الدجاج ولون الدم الملطخ في كل مكان، وشوارع مزدحمة في كل وقت باستثناء وقت انتخابات مجلس الشعب. وفي حضرة كل هذا جار «منغولي» ينتظر دخول هذه الأم الى الحمام او الى غرفتها ليطرب بصوتها المتناغم مع صوت أم كلثوم. حلم ربما صنعه في مخيلته، ومخيلتها في اللحظة نفسها، فالغناء ايضا حرية، لذلك ركض باًكيا وصارخاً «قوصوا الغنية» أي قتلوا الحرية.
فهل كان ملص يعتمد كل هذه الاسقاطات؟ هل كان يرى بعيني زرقاء اليمامة ما يحدث اليوم؟
وقال المخرج محمد ملص لـ«الإمارات اليوم» عبر الهاتف عن مدى امكانية الربط بين حلب في فيلمه وحلب اليوم، «بعد كل هذه السنوات، برأيكم، اش قد اتغيرت حلب؟»، ليترك الإجابة معلقة لتحفيز من لم يشاهد فيلم «باب المقام» على مشاهدته الآن في حضرة قصف حلب وبقية المدن بشكل يومي.
( الإمارات اليوم )