محمد علي فرحات *
المؤرخ إريك هوبزباوم الذي توفي أمس في لندن متجاوزاً الخامسة والتسعين بثلاثة أشهر، بقي ذهنه يقظاً حتى اللحظة الأخيرة، وكان أصدر العام الماضي أحدث كتبه «كم تغيّر العالم – سرديات عن ماركس والماركسية»، وفيه إعادة تأكيد لانتماء هوبزباوم الخاص الذي عبّر عنه بمناهضة الستالينية وأشكال الاستبداد كافة، بما فيها الصهيونية ومعها إسرائيل، فهو أسس مع مثقفين بريطانيين، يدين معظمهم مثله باليهودية، هيئة سموها «أصوات يهودية مستقلة»، ومن بين هؤلاء هارولد بينتر الكاتب المسرحي الأشهر (حائز نوبل للآداب العام 2005)، ومع هؤلاء وغيرهم وقّع رسالة شديدة اللهجة، نشرتها «الغارديان» في 16 كانون الثاني (يناير) 2009، تدين المذابح التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة وتعتبرها استمراراً لهجوم إسرائيل على فلسطين منذ ستين عاماً.
هذه الرسالة وقعها هوبزباوم بصفته مثقفاً ومؤرخاً، فضلاً عن كونه يهودياً لا يرى في يهوديته عاراً، كما أوصته أمه، لكنه عندما زار إسرائيل قالوا له إن نفي العار عن اليهودية ليس كافياً فالمطلوب أكثر من ذلك. هذا «الأكثر» رفضه هوبزباوم مدافعاً عن حق البشر بمن فيهم اليهود في اختيار عقائدهم، ويرى في ذلك مواجهة للنازية وما قبلها وما بعدها من مناهج الاستبداد.
في برلين مطلع ثلاثينات القرن الماضي كان رفاقه في المدرسة يسمونه «الولد الإنكليزي» فلم يتعرض لاضطهاد اللاسامية، لكن العائلة رحلت مبكراً من ألمانيا (عام 1933) عائدة الى بريطانيا، الوطن الأصلي للأب. ويروي هوبزباوم في سيرته أنه ولد في الإسكندرية لأب ينتمي الى أسرة إنكليزية تمتهن النجارة وأم هي إحدى البنات الثلاث لبائع مجوهرات في فيينا. ولا يذكر من الإسكندرية التي غادرها مع العائلة في الثالثة من عمره «عدا قفصاً للعصافير الصغيرة في حديقة حيوانات نوغا وجزءاً مشوشاً من أغنية يونانية للأطفال ومشاهد ضبابية من ضاحية سبورتنغ على طول خط الترام من مركز المدينة الى الرمل. ولم يزر الإسكندرية منذ أن غادرها مع العائلة على الباخرة «حلوان» باتجاه تريسته التي كانت انتقل انتماؤها من النمسا الى إيطاليا.
مؤلفات إريك هوبزباوم كثيرة، أشهرها رباعيته «عصر الثورة»، «عصر الإمبراطورية»، «عصر رأس المال»، «عصر التطرفات»، كتب تغطي التاريخ الحديث مع عناية بالتفاصيل، فهو تأثر بشكل أو بآخر بمدرسة الحوليات الفرنسية حين اعتنى أساساً بالعناصر الثانوية ولم يكتف بالأحداث الكبرى.
ويرى البعض في «عصر التطرفات» الذي يؤرخ للقرن العشرين خلاصة الكتب الثلاثة الأولى من الرباعية (صدرت بالعربية عن «المنظمة العربية للترجمة» في بيروت)، لكنها خلاصة معان لا خلاصة أحداث، ففي القرن العشرين الذي انقضى «بتنا لا نعرف الى أين نسير، والتاريخ هو ما أوصلنا الى هذه النقطة. لم تبق أوروبا محور العالم مع ولادة القرية العالمية الواحدة وتفتت الأنماط القديمة للعلاقات الاجتماعية والإنسانية وكذلك الروابط بين الأجيال، هذه المتغيرات تبدو أوضح ما تكون في البلدان المتطورة ذات النظم الرأسمالية على الطريقة الغربية حيث تسود نزعة فردية مطلقة متفلتة من تقاليد المجتمع.
عاش هوبزباوم القرن العشرين بوعي استثنائي، وكانت فتوته في فيينا مجالاً ليلمس عظمة الحضارة الأوروبية وثراءها الثقافي قبل أن ينتقل الى لندن، قلب أوروبا الذي لا يزال يدق لأنها الأكثر صلة بالبلاد غير الأوروبية، حيث كانت إمبراطوريتها، وبقي منها الحنين وأشياء أخرى.
( الحياة )