القمع الأخرس


الياس خوري *


‘فـــي كــــــــل مئــــذنــةٍ



 حـــــــــــــاوٍ ومغتصــــــــبُ
  يــبـــــــكـي لأنـــدلـــــــــــسٍ
 إنْ حــــــوصرتْ حلـــــبُ’.

كتب محمود درويش هذا المقطع الشعري كي يروي مأساة بيروت خلال الحصار الاسرائيلي الطويل الذي هدّم اجزاء من المدينة عام 1982.
كانت حلب في القصيدة رمزا يستعين بالماضي كي يحكي عن حاضر ذلك الشعور الرهيب بالوحدة خلال الحصار، حيث كان الفلسطينيون واللبنانيون يشعرون ان التخلي عنهم وتركهم لمصيرهم كان علامة العجز العربي المتواطيء مع المحتل الاسرائيلي.
حلب التي استعادها محمود درويش اكثر من مرة في قصائده كانت مدينة المتنبي، الشاعر الذي قاوم الانحطاط الذي رأى علاماته الأولى، بملحمية كانت آخر الملاحم، قبل ان يخيم الظلامان الافرنجي والمغولي، على ارض العرب.

‘كلما رحبت بنا الروض قلنا
حلبٌ قصدُنا وانتَ السبيلُ
وسوى الرومِ خلف ظهرك رومٌ
فعلى أيِّ جانبيكَ تميلُ’

جاءت ملحمية شعر المتنبي قبل الانهيار الكبير، وكانت اشبه بتنظيم اخير للّغة والشعر ، حمت اللغة والمعاني من الدمار الشامل الذي اصاب كل شيء على ايدي جحافل الفرنجة والتتار الهمجية. الفرنجة دمروا مدن الساحل من طرابلس الى عكا الى بيروت وصيدا وصور، اما المغول فوصلوا الى قلب بغداد وملأوا دجلة بدماء الناس وحبر الكتب.
محمود درويش ايضا، كان وهــو يكتب آخر ملاحم العرب الكبرى في زمننا، يطلّ من شرفة الشعر والمأساة على الخراب الآتي: من خراب بغداد على ايدي بربرية الاحتلال الامريكي الى خراب القدس على ايدي خلفاء الفرنجة من البرابرة الاسرائيليين.
لكن درويش، وهو يستلهم شاعر العرب الأكبر، جعل من حلب رمزا للمدن، ومن شاعرها اسما للشعر الذي يعيش على قلق دائم:

‘على قلقٍ كأنَ الريحَ تحتي
اسيِّرُها يميناً او شمالا’.

نحن الذين ذقنا مرارات الوحدة في بيروت، وخصوصا بعد الاحتلال الاسرائيلي، حين صار دمنا مباحا ومستباحا، وصرخنا بظلالنا المنكسرة على الدماء اننا صرنا وحدنا من حمل اخطاءنا وخطايا العرب، لم يخطر في بالنا ان وحدتنا في عزلة الموت وصمود الارادة سوف تنتقل الى مدينة ذاكرتنا الشعرية على شكل هذا الدمار الوحشي، والحرائق في اجمل مدينة في بلاد الشام.
هذا السفّاح الذي يحرق حلب ويدمرها وسط ما يشبه الصمت والتواطؤ يحرق اليوم البشر والذاكرة، الحاضر والتاريخ، كي يترك بعد رحيله الحتمي ذاكرة اللعنة والأسى.
انا لا اتكلم اليوم في السياسة، ولا اعتقد ان هناك جدوى من الكلام السياسي في ظل انسداد المعاني. فالسياسة في سورية الأسدية خرجت من اللعبة.
السياسة صراع متعدد الجوانب. حتى وسط اعتى الحروب واشدها فتكا وهولا، بقي هناك حيز لصراع فكري بين خيارات اجتماعية وثقافية ورؤيوية. اما في هذا الصراع الهمجي الذي يخوضه النظام الاستبدادي في سورية ضد الشعب، فلقد اسقط النظام كل المعاني من حساباته، وانكشف ان كل الايديولوجية البعثية لم تكن الا حجابا يمنعنا من رؤية الفاشية المختبئة خلف الشعارات والادعاءات. لا مجال هنا كي يحتكم الشعب والنظام الى مرجعية اخلاقية مشتركة. فالنظام الاستبدادي لا يملك اي حس اخلاقي، بل هو لا يملك اي شعور بالانتماء الى الوطن. وطنه الوحيد سلطته، وسلطته النهب، ونهبه قائم على اذلال الناس وامتهانهم، والاذلال نابع من الخوف، والمخيف خائف من الجميع.
حلقة مقفلة من العته والجريمة، تمنع اي بحث عقلاني عن مخرج من الخراب والدم.
لم يسبق ان رأينا وحشية تعادل هذه الوحشية المنفلتة من عقالها الا في الغزوات التي قام بها البرابرة، حتى الحرب الوحشية البوسنية كانت تجد مبررها في عنصرية قومية ممجوجة وسفيهة، اما هذه الحرب التي يخوضها آل الأسد ومن لف لفهم فلا تجد لنفسها اي مسوّغ، ولا تستطيع الاستناد الى اي شرعة او فكرة، انها قتل للقتل وتدمير للتدمير، انها جنون المستبد وبطانته وحاشيته وهو يرى النهاية، فيتصرف وكأن نهايته المحتمة يجب ان تعني نهاية البلاد والعباد معه.
مشهد حلب بعد مشاهد حمص وحماه ودير الزور وريف دمشق وغيرها وغيرها من المدن والقرى والدساكر التي سوتها الطائرات بالأرض، يلخص كل شيء، ويجعل من كل الكلام التبريري السياسي للنظام مجرد تغطية للجريمة ومشاركة فيها.
حين كان الجواب على المظاهرات السلمية هو دوس الناس وقتلهم، وبعدما صار الجواب على رفض الشعب الخضوع وتأليه الديكتاتور هو القصف بالبراميل المحملة متفجرات من الطائرات، دخل النظام في خرس الجريمة.
هذه جريمة خرساء، لا لغة لها، لذا لا مبرر لاضاعة الوقت في الدخول في دهاليز لغوها الذي صار لغتها. اما حلفاء النظام من روسيا التي استفاقت على ماضيها الكولولنيالي البائد، الى ايران التي تريد سورية رأس جسر في منظومة تحولها الى قوة عظمى معزولة عن شعبها، وغارقة في خطاب متطيّف، الى حزب الله الذي يتناسى ان المقاومة صفة وليست اسم علم يمكن احتكاره، وان توظيف الصفة في سياق دهاليز الطوائف اللبنانية في صراعها على فتات سلطة لا سلطة لها، هو انتحار. هؤلاء الحلفاء يمتطون النظام السوري الذي وصل في تراجعه الى الهاوية كي يحققوا مكاسبهم الصغيرة، من خلال استثمار الدم.
لم يعد الكلام عن حصار حلب رمــــزيا، النار تلتــــهم كل شيء، وانتم وحدكم، بلا دعم حقيقـــي من احــد، وحدكم وضد كل النظام العربي القديم، وحدكم في حلب وحمص ودمشق تصنعون ثورة طالعة من اعماق رفض الاذلال وصولا الى تغيير يتجاوز اليأس الى ما بعده، حيث يختبىء امل غامض منسوج  بإبَرالألم.


* روائي وإعلامي من لبنان


( القدس العربي )

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *