أخوات شهرزاد في الإمارات… قصّ بملامح معاصرة




رضاب نهار

تشبه القصة النسائية الإماراتية كاتباتها إلى حدٍ كبير من حيث الشكل والمضمون، تخرج الأحداث فيها من ذواتهن لتتقاطع مع الحاضر المعيش بأسلوب دراميّ يختلف في عناصره بين قاصةٍ وأخرى. وما نلاحظه عند معظم الكاتبات الإماراتيات أنّهنّ يمزجن ما بين حياتهنّ الخاصة وحيوات من حولهن، وسط بيئة اجتماعيّة تمزج ما بين العادات والتقاليد وأشهر وأحدث الماركات العالمية مثلاً.

ويتحدّث القاصّ إسلام أبو شكير الذي كانت له الكثير من الفرص في الاطلاع على القصة النسائية الإماراتية وتقييمها، أنّ القصة الإماراتية وبعد أن تخطّت مرحلة التأسيس التي بدأت في السبعينيات، دخلت مرحلة جديدة هي مرحلة التجريب في مطلع الألفية الثالثة، تميّزت بأنّها كانت أنثوية الطابع، وأكثر تفهماً لمفاهيم الحداثة والعولمة والعلاقات الاجتماعية الجديدة، كما بدت أكثر وعياً بالعناصر الفنية كاللغة والمكان، إلى جانب الجرأة في تناول بعض القضايا والنظر إليها من زوايا غير مألوفة وأحياناً غير مستساغة اجتماعيا.

ويضيف: “وما لا ينبغي تجاهله أن القاصة الأنثى اليوم هي الأكثر حضورا في المشهد الثقافي الإماراتي، وقد استطاعت أن تطبع هذا المشهد بروحها، من خلال اقترابها من عالمها الذي ظل مغلقاً طيلة المراحل السابقة، حيث عبّرت عن هذا العالم بصدق متناه، ولامست مناطق شديدة الخصوصية فيه.

أضف إلى ذلك أنها أسست لطريقة جديدة في النظر إلى الواقع، فتخلصت من عقدة الحنين إلى الماضي، ورفض الحاضر، وبدت أكثر تصالحاً مع الحياة، وتفهماً للمستجدات التي طرأت عليها. كما أن وعي القاصة تجاوز ما هو اجتماعيّ أو سياسيّ أو إنسانيّ، إلى ما هو فنّيّ جماليّ أيضاً”.

من جهتها تقدّم الحكومة الإماراتية جهوداً فاعلة لتشجّع القاصّات الإماراتيات على الكتابة، ففي هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة نشرت مبادرة “قلم” لكثير من الكاتبات خاصةً الجديدات في عالم القصة. كذلك تمت العناية بهن في مؤسسة محمد بن راشد في مشروع “اكتب” إلى جانب جهود وزارة الثقافة ودائرة الثقافة والإعلام في الشارقة والكثير من المبادرات الخاصة.

* فاطمة حمد المزروعي تدافع عن القمر

هي واحدة من أهم الأسماء النسائية في الإمارات، أثبتت أن المرأة الإماراتية تستطيع الوصول إلى مراحل متقدمة في مجالات الفكر والأدب والبحث العلمي والقانون التشريعي. حاصلة على درجة الدكتوراه في الأدب والنقد متعمّقة وباحثةً في الأدب الجاهلي، وعمِلَت كمدرّسة في جامعة الإمارات تسهم في تطوير العملية البحثية والنقدية عند الطلاب.

وإلى جانب اعتبارها كاتبة وباحثة وأستاذة جامعية، أتمّت فاطمة حمد المزروعي في فبراير- شباط 2011 الأربع سنوات لها كعضو في المجلس الوطني الاتحادي، عمِلَت فيها على الجانب التشريعي والرقابي في المجلس وطرحت قضايا كثيرة تهمّ المرأة الإماراتية وتصون لها حقوقها القانونية والتشريعية في الدولة والمجتمع.

صدر لها عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث عبر مشروع “قلم” كتابان هما: “تمثيلات الآخر في أدب قبل الإسلام” و “المنافرات في أدب قبل الإسلام”.

كذلك نشرت مبادرة “قلم” لها مجموعة قصصية في العام 2010 بعنوان: “نهار الظباء”، جمعت فيها 12 قصة قصيرة، حكَت من خلالها عن تفاصيل كثيرة عكست إيمانها بالكتابة كما تقول هي دائماً، فضلاً عن الرغبة الكبيرة في التعبير عن النفس. ومع أنّ الشخصيات لديها قد تكون لربما متخيّلة إلا أنّها تقوم بأفعال من الواقع المعيش ضمن إطار حكائيّ تخلقه هي.

– القمر المخطوف

1

الوقت متأخر، وساحة البيت تمتلئ بالأم والأخوات والجارات، ولا أحد من الرجال معهن، تُرى أين أبوها وعمها؟

طفلة صغيرة تجلس في طرف الساحة، وقد احتضنت ركبتيها بيدها ولاح عليها الخوف والقلق من المجهول، وأختها الكبرى تدق في الهاون، وتردد كلاماً والنسوة يتطلعن إلى القمر. فلا أحد يحس بها.

وفي سماء أبوظبي الهادئة يبدو جزء من القمر مختفياً في ليلة ربيعية دافئة. وساحة البيت كماهي متسعة، وفي طرفها تبدو أشجار النخيل، وفي الجهة المقابلة يلوح المطبخ ببابه الثقيل مفتوحاً. كل شيء يبدو عادياً في عيني الطفلة عدا القمر الذي اختفى جزء منه، ونداءات النسوة التي تختلط بأصوات الهواوين المتصاعدة إلى السماء.

2

حين تخرج الخادمة الهندية راني من غرفتها تجري ميرة إليها متسائلة عما يحدث. لكنها تبتسم ولاتعلّق على كلامها..

وتسألها ميرة من جديد:
ـ هل سيكون غداً يوم القيامة؟
ـ هل في بلادكم تخافون إن خطف القمر؟
غير أنها لا ترد.
عينا راني تلمعان. وبقايا ابتسامة ما زالت عالقة بشفتيها.
ظلت ميرة تنظر بعينين متلهفتين لمعرفة ما سيحدث، لكن لا أحد يبدو مهتماً بهذه الصغيرة.

3

تقترب من أمها، لتشدها من ثوبها محاولةً لفت انتباهها، وتعيد السؤال مراراً، كأنها تمضغ شيئاً بلا طعم، تنهرها أمها بعنف، مبعدة يد الصغيرة عن ثوبها، فتقول بتبرم:
ـ اسكتي يا ميرة، هذا القمر خطفته الغيمة، لأنه مديون.
وأكملت أسئلتها:
لماذا لم يدفع القمر ديونه قبل حبسه؟
لكن أمها تندفع بين النسوة، لتعطي الهاون لإحدى العجائز.

تتلفت ميرة حولها ثم تجلس في طرف الساحة، تبدو مرتجفة من هول ما ترى كسعفة نخلة وحيدة، والنسمات الدافئة تلفها بصمت، فتلعب بأطراف ثوبها. تتأمل مشهد النسوة، وعيونهن التي لا ترى سوى القمر، في حين يتصاعد صوت الهواوين، في شكل دوامات ترتفع إلى السماء، وأصوات النسوة تناشد الغيمة إطلاق سراح القمر.

لكن سماء أبوظبي مازالت هادئة، وخلف تلك البيوت ينطلق صوت المؤذن داعياً لصلاة الخسوف.

4

في الصف تشرح المعلمة أوضاع القمر والأرض والشمس، وفي رسم سريع يمثل حدوث خسوف القمر. ومن النافذة تتأمل ميرة تلك الفتاة الجالسة في طرف الساحة، وقد احتضنت ركبتيها بيديها، في حين انشغلت عنها أمها وأخواتها بالدق في الهواوين محاولةً أن تفهم ماذا يحدث، فهؤلاء النساء القويات اللاتي يسيطرن على كل شيء في البيت نهاراً، صرن ضعيفاتٍ خائفات. وأختها الكبرى تتحرك دون وعي، في حين يطير غطاء رأسها ويرفرف في الهواء بعصبية، وهي تحاول أن تمسك به، وتوزع على النسوة مزيداً من الهواوين، ويبدو برقعها مرتفعاً قليلاً عن شفتيها، وكأنه يرفع رأسه للغيمة في توسل ورجاء.
والخادمة راني ترمقهن جميعاً في صمت.

وميرة تنظر ناحية راني متسائلة فيت تفكر هذه؟ ولماذا لاتخاف وتدق مثلهن في الهاون؟ أم أن تلك البلاد البعيدة دائمة الخضرة والمطر تتفاءل إن خطف القمر؟

نظرات قلقة تحمل ألف سؤال في تجمع نسوي لا يسمع صوتها.
ومن بعيد يجذبها صوت المعلمة المتسائل:
ـ بم تفكرين يا ميرة؟
تلعثمت الكلمات على شفتيها، واختلطت صور الأمس برسم المعلمة فقالت:
ـ بالقمر المخطوف.

لحظات مرت عليها، وهي تهم بالجلوس على مقعدها، سمعت طالبة تقول مصححة عبارتها: خسوف القمر.


* صالحة عبيد… بصمة ترفض التكرار


تؤمن الكاتبة الإماراتية الشابة صالحة عبيد، وهي عضو في رابطة أديبات الإمارات، أنّ الكاتب يجب أن يضع بصمته الخاصة على مؤلفاته الأدبية منعاً للتكرار وحفاظاً على الخصوصية. وهو ما تسعى إليه في كل مرة تكتب فيها، كما أنّها تحاول أن تجعل كل مجموعة قصصيّة تدور حول موضوع رئيسي تجمع عناصرها.

تعتمد صالحة عبيد التي دخلت عالم الكتابة بالصدفة كما تقول دائماً، على الأسلوب غير التقليدي في السرد، إذ أنها ترى تفرّدها من خلاله، معتبرةً أنّ الأسلوب التقليدي لن يضيف شيئاً إلى قصصها.

وكل من يقرأ قصصها يلاحظ أنها لا تعتمد بالضرورة على شخصيات ذات صفات واضحة من الداخل والخارج ولها حياتها اليومية العادية، إنما تذهب لتجسيد كل التفاصيل الصغيرة التي قد تهملها العين، متخذةً التجريب كمنهج أساسي.

“زهايمر” هي أول مجموعة قصصية قامت بنشرها عن مشروع “قلم” في هيئة ابوظبي للثقافة والتراث 2010 وقد ضمّت 6 قصصٍ قصيرة، والمجموعة القصصية الثانية لصالحة عبيد حملت عنوان “ساعي السعادة” متضمنةً 13 قصة قصيرة. كما نشرت بعض القصص القصيرة والنصوص النثرية في صحيفة “هماليل” التي تعنى بالثقافة والأدب الشعبي والفنون.

– حكاية الجميلة

وكان أول المساء باهتا
مضمحل الوهج.
استنشقت الصبر بهدوء.
سحبت كرسياً قريباً ووضعته في الشرفة. جلست وأخذت تطالع السكون حولها. كان كل ما تقع عليه عيناها عادياً إلى حدّ السأم.
مهلاً!!
إنها ترى وجهاً جديداً، وجهاً جديداً جميلاً لشابة يبدو أنها في الحادية والعشرين من العمر على أقصى تقدير، أنيقة، يبدو من توترها أنها تنتظر أحداً.
انتظرت معها بنظراتها إلى أن جاء وكان هو أيضاً حسن المظهر والهندام ، يبدو واثقاً جداً من نفسه.

وجلسا أسفل شرفتها يتحدثان ويتحدثان. إنهما عاشقان تحفهمها الأحلام ويغمرهما العشق ولا تدري ما الذي جعل قلبها يتراقص فرحاً معهما.
لقد أدمنت رؤيتهما. واعتادت أن تكون طرفاً ثالثاً للقاءاتهما التي توالت من دون أن يشعرا بذلك ومن دون أن تشعر هي نفسها أنهما قد تحولا لتميمة تطرد السأم من حياتها.فإذا تأخر في يوم ما، يتآكلها القلق ويتراقص التوتر أمامها..

كا ن مساءً صاخباً على غير العادة في ذلك الحي الصغير.
عيناها بهما شيء من دمع مجفف وحزن عميق، أجدّ جديد؟ تساءلت وهي ترمق الشابة،
أخيراً جاء، يبدو فرحاً. قالت في نفسها، وهو يدنو من الجميلة.
وأرهفت السمع.
ماذا؟!

كما سمعت.
ومتى؟!
غداً نغادر.
سفر سيحمل الجميلة، ورأت الدموع في مآقيها. تبادلا القلوب ثم ودعته. أحزنها ذلك كثيراً وأخذت تبكي.

وعاد السأم يطوقها وهي تجلس على شرفتها في مساء آخر مقيت كالذي سبقه.
مهلاً!!
إنه ذلك الشاب، واثقٌ كعادته ولكن ماذا عن حزن البارحة؟؟!!
رمقته باستغراب ورأته يقترب من شابة. لا ليست الشابة الجميلة، إنها واحدة أخرى،
أخرى!!

أخرى!!
كادت أن تبتلعها الدهشة وهي تتابع ما يحدث أمامها، هل تحلم؟!
وأخذ الشاب يتلو على مسامع الأخرى الحديث نفسه الذي كرره مراراً على مسامع الجميلة. كانت ازدواجيته مرعبة وتبعثرت كل تلك المثالية التي رأت وكل ذلك العشق تساقط، أصبح سراباً وتسيد الغدرعندها. شهق النهار شهقته الأخيرة ليعربد الظلام
وعادت الجميلة.

رأتها تسرع الخطوات، مشرقة،متألقة، تنشر البهجة حولها.
مسكينة، حدّثتها نفسها.
كعادته جاء. لم يتغير به شيء بل إن ثقته تزايدت أضعافاً.
لن أسمح لك، صرخت هواجسها.

وتركت الشرفة، تسارعت الخطوات تحو الأسفل، علت الخفقات،وقفت بينه وبينها،
رمقته بنظرة نارية وحولت نظراتها باتجاه الجميلة.
وللمرة الأولى تخنقها حاجتها للحديث، للكلمات.

أدركت هنا مرارة البكم ولوّحت بيديها في الهواء لتوصل ما رأت للشابة.
إلا أن الجميلة ظلّت تحدّق باستغراب يشبه الذهول، بينما حاول هو إبعادها قبل أن يتسلل الشك لعقل الشابة.
و..
ومضيا.

ابتعدا عنها كالموبوءة، كمختلة العقل ومن بعيد رمقتها الجميلة بنظرة ذهول أخرى بينما سمّرها هي العجزوالقهر فأخذت تصرخ.وتصرخ.
تجمّع أهل الحي حولها وانتزعتها والدتها من بينهم وهي تستغرب تصرفات طفلتها وما أصابها.
اختفت الشابة، لقد أدرك ما حاولت إيصاله ولم يرد أن تكشف لعبته. يبدو أنّه غيّر المكان وبدأت هي تكره المساء وشرفته. حقدت على نفسها وعجزها ولم تعد تفعل شيئاً سوى التنفس فقد انهار كل شيء، ومات كل شيء ما دام الحب قد ارتحل.
كان مساءً ثقيلاً يجثم على الأنفاس.

تك.تك. تك
ومن عساه أن يطرق بابنا في هذا المساء القاتم.
الجميلة؟!
هزّتها الصدمة.
هل هذه الجميلة، لكن ما بالها هكذا، باهتة، ذابلة الملامح، ترتدي سواد الحداد و..

اقتربت منها الجميلة وجاهدت لرسم ابتسامة، خذلتها على شفاه الحزن فغشيها الشحوب
شكراً، لقد كنت أعلم.
طبعت قبلة على جبينها وتركتها بعد أن سلّمتها للذهول.
هرعت نحو الشرفة لتتابع مسار الجميلة ورأتها تقف في المكان نفسه وفي يديها جورية بيضاء.

وضعتها، انتحبت قليلاً، ثم ابتسمت، هل جنت الجميلة؟!
إنها تلوح بأطراف مرتعشة لي!!
وسارعت الخطى حتى اختنقت عند قارعة الطريق.
ضوضاء، ضوضاء تحملها أنفاس الطريق
أرهفت السمع.

قد ألقت بنفسها أمام مركبتي، صدقوني، أنا لم..
حملها الجزع إلى هنالك، شقت طريقها بين الجموع وهي تسمع من يحوقل ومن يترحم. وصلت ليشلها الفزع.
إنها الجميلة، تغسلها الدماء ويتضرجها الموت. هل قتلته؟ ثم.
احتضنت الجميلة وأخذت تنتحب وتئن.

ويقال إنها تحدثت بعد ذلك وأخذت تروي حكاية الجميلة..
كان هذا آخر العهد بالجميلة، والمساء هناك أزلي مجنون تدق ساعات غدره أنيناً ويمضي بوقتٍ من ألم.


* ناديا بوهنّاد والهاجس النفسي

درست ناديا بوهنّاد علم النفس التربوي، حيث حصلت على الدكتوراه في هذا المجال عام 1996 من جامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأميركية. وقد عملت كباحثة مساعدة فيها في قسم العلوم الاجتماعية، فضلاً عن عملها كأستاذة مساعدة في قسم علم النفس في جامعة الإمارات من 1997 حتى يناير-كانون الثاني 2005.

في العام 2000 أسسّت الدكتورة ناديا سيكولوجيا للاستشارات، وهي أول مؤسسة في الإمارات تعنى بالاستشارات النفسية والتدريب المهني. كما أنها معدة ومقدمة برامج في التخصص النفسي والاجتماعي، مثل سيكولوجيا وحياتها 2002 ـ 2004 على قناة دبي وبنات حواء على الفضائية اللبنانية وبرنامج “لايصحّ إلا الصحيح” مع مجموعة بينونة للإعلام في أبوظبي.

نشرت بوهنّاد عدة مقالات في الصحف والمجلات الإماراتية المحليّة، وعدد من المؤلفات حول مواضيع كثيرة متخصصة بعلم النفس والحياة الاجتماعية منها: “اتجاهات” الصادر عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع في العام 2010، “الصحة والرعاية النفسية للحامل” في العام 2009.

وأما كتابها الأخير “راغبات” الذي صدر في العام 2011، فيتناول عدة مواضيع وحكايات من تجارب شخصية حدثت مع المؤلفة على وجه الخصوص، ما عدا الحكاية الأخيرة منه. إنّه يتكلّم عن علاقة الرجل بالمرأة في مجتمعٍ شرقي تحكمه عادات وتقاليد معيّنة. وفي مقدمته وجّهت الدكتورة ناديا شكراً خاصاً إلى جميع النساء اللاتي فتحن قلوبهن لها، ومن قصصهن كان كتاب “راغبات”.

– المرأة تحتاج إلى 3 رجال

في إحدى الزيارات لـ “شكسبير كافيه”، انضمت إلينا إحدى السيدات الإيطاليات ومعها امرأة إماراتية في أواخر الثلاثينيات من العمر، اسمها “حمده”، ملامحها جيدة ولكنها ناصعة البياض بشكلٍ ملفت، اعتقدت في بداية لقائنا وكأنها تعاني من مرضٍ جلديّ أفقدها الصبغة الجلدية. عندما انضمت السيدتان إلينا، كنا أنا وصديقتي نناقش موضوع الخيانات الزوجية، خصوصاً بعد الذي شاهدناه، فأحد الشخصيات المعروفة كان يُداعب الفتاة التي معه.

حاولنا أن نجد اسماً للعلاقة فلم نستطع، فهو يبدو في الخمسين من عمره وربما يكون أكبر ويتصرف كأنه شاب مراهق أمام هذه الفتاة التي يبدو أنها لم تتجاوز الخامسة والعشرين من العمر، وهو لديه ابنة تبلغ الثامنة والعشرين من العمر. المشكلة أن الكثير من الناس ينسون أنفسهم عند التنقل من إمارة إلى أخرى، فعادةً ما يعتقد الإماراتيون من أبوظبي أن لا أحد يعرفهم وهم في دبي والعكس صحيح. هناك بعض من الصحة ولكن الأمر لا يكون كذلك عندما تكون الشخصية معروفة مثل هذا الرجل.

صديقتي “سلوى” كانت مستاءة لدرجة أنها قامت بتغيير مكانها لأن المنظر الذي كانت تشاهده أمامها كان “مقززاً” كما قالت، ماذا يمكن لرجل في الخمسين أن يبحث لدى فتاة في العشرينيات؟ ربما لا يكون الجنس هو الهاجس لهذا الرجل بقدر ما هو الدخول في مرحلة مراهقة ما بعد الأربعين، فهو يريد أن يثبت لنفسه أنه مازال مرغوباً فيه من قبل الفتيات ، هي رغبة عاطفية أكثر منها جنسية.

حمده كانت تضحك وتقول باستهزاء “أتعلمون أن هنالك الكثير من الرجال ممن يعتقدون وبكل ثقة أن الزوجة لا تفكر حتى مجرد التفكير برجل غير زوجها. مثل هؤلاء أنا أضحك عليهم، قمة في الغباء”.

ردت عليها سلوى “لا، بل أعلم أن المرأة يمكن أن تخون ولكن ليس بعلانية مثل بعض الرجال كما يفعل هذا الرجل” وهي تشير إلى الرجل الخمسيني. نظرتُ إليها وقلت “لا تنسي أنه رجل، والرجل العربي لا يعتقد أن مثل هذا السلوك عيب”.

أخبرتنا حمده عن صديقة لها في حياتها 3 رجال، زوجها وعشيقها وصديقها، الزوج هو أب لأطفالها ومصدر للمال، أما العشيق فهو من ترتاح معه في العلاقة الجنسية، والصديق هو من تشتكي له تصرفات الاثنين في حياتها.

سألتها لماذا لا تطلب هذه المرأة الطلاق من زوجها بدلاً من خيانته، فما تقوم به حرام، فردت “وعندما يخون الرجل زوجته أليس ذلك إجحافاً في حق المرأة، فلماذا لا يُعامل بالمثل؟”، اعترضت وقلت لها: “عزيزتي، يأتيني العديد من حالات الخيانات الزوجية التي يكون بطلها الرجل في معظم الحالات، وبالتأكيد الأمر يمثل صدمة في حياة المرأة وتشعر بأنها مرفوضة وكأنّ شيئاً ما ينقصها وأنها ليست بأنثى، وتعلمين أن أول شيء تقوله المرأة التي تتعرض لخيانة من الزوج، إنها تريد أن تنتقم من زوجها بالخيانة حتى ولو مرة واحدة، والمشكلة أن هذا الشعور يكون مؤقتاً وما أن تقوم به المرأة حتى تبدأ بكره نفسها وتشعر بالذنب طوال حياتها، والحقيقة أن معظم النساء يفكرن هكذا في حالات الغضب ولكنهن لا يرتكبن تلك الحماقة، أنا أتكلم عن المرأة الطبيعية التي لا تعاني اضطرابات شخصية، والتي تخون ولا تشعر بالمسؤولية تجاه سلوكها فهي تعاني من مشكلة رئيسية في شخصيتها”.

قاطعتني: “وهل الرجل الذي يخون يعاني من اضطرابات في شخصيته؟”، قلت لها: “الرجل الذي يخون لا بد وأن يعاني من مشكلة ما سلوكية أو شخصية وربما ذهنية وأحياناً مشكلات عاطفية وجنسية مع زوجته، والرجل الطبيعي يعرف ما يريد، إذ كان يرى أن طاقاته الجنسية لا تشبعها زوجته فالحل يكمن في أن يصارحها ويخبرها بأنه غير مكتفٍ وأنه يريد الزواج من أخرى”.

ردّت سلوى: “لكن يا ناديا، لا توجد امرأة تقبل أن يتزوّج زوجها عليها، بل تقبل أن يخونها ولا يتزوّج عليها”. قلت لها: “أعلم لأن الموافقة تعني اعترافاً ضمنياً بأن لديها قصوراً وأن الناس سوف يتحدثون عنها وهي تعيش في حالة من الرفض المستمر، لذلك تفضّل أن يخونها ولا يتزوّج عليها. فردّت حمده: “أنا أعرف تلك المرأة جيداً، هي ليست بمريضة وهي سعيدة كما هي الآن، صدقوني” وعندما أكّدت حمده الموضوع بذلك الإصرار شعرت وكأنها تتحدّث عن نفسها لا عن صديقة لها كما ذكرت. وفي الكثير من الحالات المرأة تتحدّث عن مشكلتها بصيغة الآخر وليس مباشرةً عن نفسها، وربما أن الموضوع يمكن أن يتسبب في فضيحة فمن الطبيعي أن لا تذكر أنها هي تلك المرأة.

* فاطمة عبد الله… الأرقام مفعمة بالمشاعر

لم تمنعها دراستها المصرفية من شقّ طريقها في الأدب والفن، وكامرأة إماراتية حظيَت فاطمة عبد الله بالكثير من الأماكن المهنية والفكرية ذات الطابع الثقافي، لتتواجد فيها وبقوّة.

حصلت على دبلوم الإخراج السينمائي والتلفزيوني أخرجت أول أفلامها عن إحدى قصصها “روح” وفازت بأفضل فيلم إماراتي وأفضل فلم روائي قصير حاصلة بذلك على جائزة اللؤلؤ السوداء من مهرجان أبوظبي السينمائي 2011، وجائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي. وهي اليوم تقوم بتصوير فيلم إماراتي ناطق باللغة الفارسية من تأليفها وإخراجها.

قامت فاطمة عبد الله وهي من مواليد رأس الخيمة والقاطنة في الشارقة، بإعداد الكثير من البرامج التلفزيونية للكبار والصغار على القنوات المحلية الإماراتيّة، مثل: تلفزيون الشارقة وقناة الإمارات.

بدأت رحلتها في الكتابة القصصية والأدبيّة منذ العام 2006، وأما مؤلفاتها فهي: “الدخاب” مجموعة قصصية، وتعلّق فاطمة عبد الله بأنّ العنوان كلمة من تركيبها وتأليفها وغير موجودة من قبل. ومجموعة قصصية بحجم الجيب عنوانها: “نص دزينة دوزن دوزين” تقول المؤلّفة بأنها كتاب للعرب من المشرق والمغرب وقد تمت ترجمة هذه المجموعة إلى اللغتين الفرنسية والإنكليزية. بالإضافة إلى روايتها “مخطوطات الخواجة أنطوان”.

– الشخير

مذنب٬ غير مذنب، مذنب، غير مذنب..
هكذا انتهت القصة بعدد متساو من كلمة مذنب وكلمة غير مذنب.
أي إنني لم أفهم إذا كانت هيئة المحلفين قد أدانت “الموسيقي” أم لا، وكيف حسم القاضي القضية؟ وما هي نهاية القصة القصيرة التي قرأتها الليلة؟.
هذه الليلة شعرت بالأرق، ولم أستطع النوم، فتناولت إحدى المجلات الثقافية المرمية بالقرب من السرير، وأنا أستعرض صفحات المجلة وأقلبها بشكل عشوائي وقعت عيني على قصة بعنوان “الشخير” للقاصة فاطمة عبدالله.
فعلقت: “يارب أنام ولو بشخير”. وبدأت اقرأ القصة التي تدور أحداثها حول موسيقي كتب نوتة الشخير، أجل الشخير..

خاء مع شهيق،
و….
فاء مع زفير،
هذا الشخير الذي يعكر نوم الأصم٬ لكن الموسيقي غيّرت ترتيب الجمل الموسيقية بالنوتة، وبالتالي تغيّرت النغمة، فتغيّرت الطاقة الصادرة عنها فتبدل أثرها وتحولت طاقة الشخير الهائلة التي تبعث الحياة في الموتى إلى الطاقة التي يبثها الإله “بلوتو” قبل قبضه الأرواح.

أصبحت النغمة المبتكرة نغمة تجلب النوم إلى سامعها، وأصبحت أمهات المدينة يستخدمنها في غرف نوم أطفالهن لكي يناموا باكراً من أجل الذهاب الى المدرسة، فيستيقظون بنشاط وقدر كبير من التركيز، إذا توقف ترتيب جميع الطلاب عند الأول.

لا بل تحولت إبرة طبيب التخديرإلى سماعة توضع في أذن المريض لينام بعمق، إلى درجة لا يشعر بها بمشرط الجراحة. حتى قرر وزير الصحة نقل أخصائييَ التخدير إلى أرشيف الوزارة.

وهذان الأمران هما ما استند عليهما الموسيقي في الدفاع عن نفسه، وهو يقف أمام القاضي في قاعة المحكمة محاولا إقناعه وإقناع هيئة المحلفين بعظمة إنجازه الإبداعي، وأن ادعاء المدعي العام عليه باطل ولا ذنب له فيما حدث ويحدث.

فكما ورد في قصة “الشخير” لفاطمة عبدالله، ان النائب العام طالب بمعاقبة الموسيقي لتأليفه مقطوعته المعروفة. والتي أصبحت من الوسائل التي تستخدمها العصابات في عمليات السطو غير المسلحة على البنوك وغيرها، مما أدى إلى انتشار الجرائم بشتى أنواعها. وبالتالي يكون هو من ذلل العقبات لهم ويسر الظروف المناسبة لتكاثر الجريمة.

وعندما طلب القاضي من هيئة المحلفين سماع حكمهم، جاء كما أخبرتكم في البداية، مذنبا وغير مذنب، ولم تكمل فاطمة عبدالله كتابة القصة لمعرفة الحكم الفيصل للقاضي.

* مريم الساعدي تبحث عن الحظ السعيد

تعتبرمريم الساعدي “من مواليد 1974” من المواهب الأدبية الشابة في الإمارات والوطن العربي. درست الأدب الإنكليزي في جامعة الإمارات، وتعمل حالياً في وزارة النقل في أبوظبي جنباً إلى جنب مع تطوّر حياتها الكتابية والأدبية.

نشرت مريم ثلاث مجموعات قصصية: “مريم والحظ السعيد” صادرة عن مشروع “قلم” في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث في العام 2009، وقد ترجمت للغة الألمانية في نفس العام. ومجموعة قصصية بعنوان “أبدو ذكية” نشرتها مؤسسة محمد بن راشد كجزء من مشروع “أكتب”. والمجموعة الثالثة “نوارس تشي جيفارا”.

وقد أدرجت قصتها القصيرة “السيدة العجوز” لتنشر ضمن مجموعة دينيس جونسون- ديفيز ” In a Fertile Desert” “في صحراء خصيبة”، والقصة عبارة عن استكشاف خفي لمزاعم العالم القديم والجديد، إذ تصبح سيدة عجوز مصدرا لإزعاج أطفالها الأكثر مواكبة للتطور!

في شهر أكتوبر 2010، اشتركت مريم جنباً إلى جنب مع ستة من الكتاب العرب، في ورشة عمل أو ندوة للكتاب في أبو ظبي. وبرعاية الجائزة العالمية للرواية العربية البوكر، وتهدف ورشة العمل هذه لكتابة النسخ الأولية لروايات عربية يتم ترجمتها لاحقاً ونشرها باللغتين العربية والإنكليزية.

تؤكّد مريم الساعدي على أنّ الواقع هو ما تستمد منه القصص، فحتى لو كانت قصصاً من الخيال العلمي لا بد وأن تكون لها مرجعية واقعية. وحسب ما تقول فإن أفكار الكاتب تمتزج مع صراع الحياة الواقعية لتنتج فناً من نوعٍ ما، وبالنسبة لها فإن القصة هي محاولة لفهم الحياة أكثر منه إعادة تدوير للواقع، وليس بالضرورة أن يكون كل ما تكتبه حدث معها. واستخدامها لصيغة المتكلّم المباشرة لأنها تود الاقتراب من شخصياتها كثيراً.

– “كوكو شانيل” والسمكة الميتة في صدري

في صدري سمكه ميتة. أشعر بها، أشعر بها تتعفن، أشعر برائحتها! هل يمكنك الشعور بالرائحة؟ الشعور بالعفن؟، تتعفن في صدري، هناك بجانب القفص الصدري حيث تلك المضخة التي يسمونها قلب، أم تراها بداخل القلب؟ لا أعرف تحديد موقعها بالضبط، فكل ذلك المكان صار محتلاً برائحة عفنة، رائحة سمكة ميتة عفنة.
“مجددا، كيس محل العطور”، تُعلّق أمي حين أدخل بحصاد جولة تسوّق. “تبعثرين النقود على العطور” تقول أمي “كل هذه العطور، لمن تتعطرين!!” لا تعرف أمي، أني أتعطر لأني أخاف، أخاف أن تتطور الرائحة من مرحلة شعوري الخاص بها إلى شعور الآخرين، فيفرّون من حولي كالجراد المبثوث يوم السماء كالعهن المنفوش.

“رائع عطرك، ماهو”، يسألني زميل صغير عن الرائحة. زميل صغير،أي لا خطر منه، يبدو بريء لن تغويه رائحة عطر امرأه تكافح عفن قلبها.

“كوكو شانيل، وأيضا دهن العود”، أجيبه. فشانيل الفرنسي قد تذيبه الشمس الحارقة المرسلة إلينا خصيصا في مهمة محددة. دهن العود ابن البلد سيعرف التشبث لآخر قطرة عرق.

لكل عطر قصة وجودية. كنت في الاندرغراوند، لندن باردة، صامتة، جامدة، والاسمنت من حولي يحيلني لخراسانه. جلست أنتظر الميترو، والقلب يقاوم التحول لجثة هامدة. هَبَطَت دمعة حارّة على خدي، لا أدري من أين. ثم هبّت في لحظة رائحة عَطِرَه، تَلَفتُّ حولي، سيده خميسينية أنيقة جلست بجانبي في انتظار الميترو.

“رائحتك جميلة..” قلت لها.
ابتسمت وقالت ” إنه كوكو شانيل”.
من يومها صار صديقي.
خلطت بعدها معه أنواع أخرى مختلفة، فأحيانا تصير رائحة السمكة أقوى فيصير لا بد من تعزيز دفاع كوكو شانيل بإمدادات من عطور أخرى. كنزو القديم ذو الوردة الحمراء المتنطعة. تشانس، شانيل فايف، ديور أدكت، جادوغ، هوغو، فيرزاتشي، جيفنشي، ثم صار لابد من دهن عود مع كل ذلك.

لكن، لم يعد يقاوم حالات الموات. حتى سقطت عليها أخيراً، كنت أجرجر أذيال الخيبة مجدداً، رائحة السمكة العفنة ترتفع، كنت أسمعها، لم أعد أشعر بها فقط، صرت أسمعها، مع ضربات قلبي، أسمع رائحة سمكة عفنة. هل يمكن سماع الرائحة؟

حتى سقطت عليه، في زجاجة فضية غامقة، رائع وشامخ مثل محارب شجاع. رفعته إلى أنفي. ومن لحظتها عرفت أنه حارس حصني الجديد.

تلك الرائحة، التي أخذتني من العبير الأول. إنه اسينس من نارسيس رودريغوز. أصبح طوق نجاتي الحالي، وسلاحي الجديد ضدها، تلك السمكة الحقيرة المتعفنة. تعرف متى نبتت؟ تعرف بالطبع، حين تمنيت لي السعادة…بعيداً عنك.

* فاطمة سلطان المزروعي والتنقل بين الأجناس الأدبية

على الرغم من أنها لم تتجاوز الـ28 من العمر بعد، إلا أنها تنقّلت بين الأجناس الأدبية تاركةً وراءها في كل مرة، ما يثبت مرورها. فالرغبة في التحقق من الأشياء وشغف المعرفة والأسئلة الكثيرة التي تدور في رأسها منذ صغرها كما تقول فاطمة، كانت أسباب كافية لتمسك القلم وتبدأ بالكتابة منذ عمر الـ 17 سنة.

فالورقة الفارغة استطاعت أن تفي بالغرض وتستوعب أفكارها الحرّة وتمنحها أجوبة ولو قليلة دون أن تحدّد لها الأمور التي عليها التفكير بها دون غيرها.

لفاطمة سلطان المزروعي مجموعتان قصصيتان هما: “ليلة العيد” و “وجه أرملة فاتنة”، ومجموعة شعرية واحدة بعنوان: “بلا عزاء”. وفي المسرح كتبت قصة اسمها : “حصّة”. وأما في مجال الأدب الروائي كان لها “زاوية حادة” التي غاصت فيها بين الفلسفة وعلم النفس حيث أنها اشتغلت على عوالم الطفولة خاصةً فيما يتعلّق بالبعد الداخلي الروحي.

وفي كتابتها للقصة، تقترب فاطمة سلطان المزروعي من الرومانسية في كلماتها وفي التراكيب التي تستخدمها أثناء تكوين الجملة والحدث. تغوص في أدق تفاصيل الأشياء لترسم لنا الصورة كاملةً، فتشعر وكأنك تشاهد القصة أمام عينيك إلى جانب قراءتها.

– فن الاختفاء

اعتادا في بداية حياتهما معا أن يلعبا لعبة الاختباء، لعبة يضيِّعان فيها بعضهما ثم يبدآن في العثور على بعضهما في أرجاء الحارة، لعبة ممتعة.
ضفائرها الطويلة،أصابع قدمها السمراء، وهي تعدو في طرقات الحارة، ثوبها الفضفاض ذو الألوان الزاهية،هو أمامها، وهي في الخلف تصدر أصواتاً عالية، وتنطلق ضحكاتها، تنطلق في سعادة،وتكاد من فرطها أن تتقافز من بين شفتيها.

السير باتجاه الطرق الملتوية، لمملوءة بالحجارة، والأطفال الذين يلعبون، والشوارع حيث الجرائد الممزقة، والقمامات المملوءة بالنفايات. السير بأقدام حافية، دامية، مغبرة، والبحث عنها وسطهذه الوجوه، عملية مرهقة، لابد أنها لا تزال تظن بأن اللعبة لم تنته
.
البيتيقترب، والباب الخشبي الضخم، يلوح من بعيد، وعالمها يبتعد عنه تدريجيا، تدريجيا، وضفائرها تبتعد، ويتلون جسدها باللون الأسود، ذلك السواد الذي يتلفع بتقاسيمه.

حفيف الستارة الداخلية يثيره، يرفع رأسه، يرمقها ببرود، الهواء الحار يعبث فيالبيت بجنون، وينفذ خلال النوافذ المشرعة، تذكر بأنه أخبر والدته مراراً ألا تفتحالنوافذ في فصل الصيف، هو يكره الحر، ويكره الشمس، ويكره أموراً كثيرة فيحياته.
وقع أقدامها يثير فوضى حميمة في داخله.
رفع رأسه إلى وجه والدته الجالسة على المقعد الطويل في الصالة، اقترب منها، قبّل يديها، ثم غادرمسرعا، ولم تسأله هي عن سبب ضيقه، اكتفت بابتسامة شاحبة، ثم عادت لتكمل حديثها مع صديقتها في الهاتف، لامبالاتها الواضحة، تجاهلها لأحاسيسه، انشغالها بدورها الروتيني في الحمل والإنجاب، جعلها لا تفهم سر تلك الحالة التي يعيشها.

الغرفةالباردة، بابها العتيق، الأرضية الرخامية، الكرسي اليتيم الذي يقبع بجوار النافذةالزجاجية، رأسها يخرج من خلف الستارة تبحث عنه، يصرخ لوهلة، وهي تتعلق بثوبه.
– كفى، لقد فزت علي.

تطلق ضحكة صافية، وتعود للاختباء، يبحث عنها تحت السرير، في الخزانة الطويلة، بين ملابسه، وفي أدراج مكتبه بين صوره الماضية. بحث طويلا حتىتعب، وعفر قدميه التراب، أدماها البحث، لحظتها أدرك بأنه قد أضاعها في لعبتهما.
– هيا اخرجي، لقد تعبت من البحث عنك.
……………
– لا تنفعك، والدها سكير، وأمها تدور في البيوتوسمعتها على كل لسان.
– لكنني أريدها ياأمي.
والدته ترشف القهوة من فنجانهاالكبير وتتمتم في عصبية ممزوجة باستنكار، وهي تدق على صدرها: سوف أبحث لك عن بنت جميلة، تستحقك يا بني.
ووالده زعق في وجهه: إن تزوجتها، أقسم بأنك لست ابني ولاأعرفك..

لاتزال هي مختبئة، منتظرة أن يبحث عنها، نظرة عينيها البريئة لايمكن له أن ينساها، ..
– أريد منكِ أن تقبليني؟
أشار لشفتيه في دلال، أراد أن يتذوق طعم القبلة الأولى، ضحكت واختبأت خلف واحدة من الشجيرات، كانت تريد أن تمارس معه لعبتهما المفضلة، ولكنه اقترب منها، وقبلها، تلاصقت شفتاهما معا في إغماءة عميقة نسيا معها لعبتهما.
لم يعد فن الاختباء يثيرها، ولم يعد فن البحث عنها يروق له، أراد أن يدخلها عالما لا يمكن لها أن تجد مكانا للاختباء سوى في صدره، قبل أن يعلم بأنه لن يراها بعد ذلك أبدا، تحدثا طويلا ً عن أشياء كثيرة. كان يتأمل صوتها أكثر مما ينصت إلى المعلومة فيما تقول، وتغور عيناه بكل ما يراهمن جسدها سابحاً في عتمة مشاعره.

ـ بنت القوادة، لديها أصابع جميلة لا تمتلكها أجمل بنات الحارة.
كان الزهو في أعماقه يكبر كلما لمح أصابع قدميها، وهي تعدو خلفه في الحارة، ويتضايق كلما وجد الغبار طريقه إليهما، ويمسحهما بثوبه من فرط تعلقه بهما.

لم يصدق أن التي ظنها تتقن فن الاختباء فقط تمتلك لسانا جميلا، ومنطقا تتفوق به عليه، كان كلامها أشبه بسهام صوبتها إلى أماكن مجهولة، لكنه لم يستطع رغم ذلك أن يعدها بشيء، فاتهمته بالضعف والجبن والانضواء تحت براثن عائلته، وانسحبت بصمت ودون كثير بال من فقدانه.

تمنى أن تلتفت للخلف وتخبره برغبتها في العودة إلى اللعبة، يضيِّعان بعضهما ثم يبدآن في العثور على نفسيهما. لكنها لم تمنحه هذا الشيء، كان الضباب قد انتشر بسرعة في الحديقة التي كانا فيها معا، وكانت مشاعرهما قد تاهت وسط مقاعدها وأشجارها الكثيفة. هذه المرة أدرك بأنه قد ضيعها للأبد، وأنه لن يعود لتلك اللعبة أي زهو مماثل لما كانت عليه معها، بلبالأحرى أن اللعبة نفسها اختفت من الوجود بمجرد اختفائها هي.

* روضة البلوشي والتجريب القصصي

تعتبر روضة البلوشي من مواليد مدينة العين من الكاتبات الإماراتيات اللاتي حاولن أن يدخلن نمطاً تجريبياً جديداً إلى القصة الإماراتية، حيث قدّمت في ابريل من العام 2008 مجموعتها القصصية “باص القيامة” الذي صدر عن مبادرة “قلم” فضاءات مختلفة في الأسلوب والموضوع أظهرت فيها جرأة كبيرة، وكان فيها المكان شريكاً أساسياً في الحكاية.

وأجمع الكثير من القراء والنقاد في الساحة القصصية الإماراتية، أنّ “باص القيامة” كتبت بوجدانية وروحانية عالية، إذ تمكّنت البلوشي من خلالها بالوصول إلى شرائح مختلفة من القراء والمهتمين عبر لغة راقية وصور شعرية جميلة. ومن عناوين القصص التي احتوتها المجموعة: “يتشظى سقوطاً، حفيف المرآة، جروح صغيرة، للنخيل معها حكاية و أحميك يا وجلي”.

بدأت روضة البلوشي بالتعريف عن كتاباتها الإبداعية بنشرها عبر صحيفتي الاتحاد والخليج، فضلاً عن نشر إنتاجها على الانترنت من خلال عدة مواقع أدبية ولا زالت مستمرة حتى اليوم في عملية النشر.

تمت ترجمة أحد نصوصها وهي بعنوان “كنا وحيدتين” إلى اللغة الألمانية، بينما ترجم لها نص آخر “حكاية ابراهيم” إلى اللغة الإنجليزية.

– عجز المؤلفة

كان يقف أمامي فارداً قامته بلا اكتراث وفي يده سيجارة مارلبورو جديدة. وعلى الفور أمسكت بورقة وقلم وبدأت بكتابة الفقرة الأولى:

“الرجل حبيبي يقف أمامي بعد أن أطلق شعر رأسه الذي استطال حتى كتفيه وقد أمسك بين إصبعيه سيجارة مارلبورو جديدة”.

ثم أخرج ولاعة فضية من جيبه وقربها من إصبع المارلبورو التي تشبثت بها أسنانه فكتبت:

“ها هو ذا يخرج ولاعته الفضية التي أهديته إياها قبل عام من الآن وذلك في عيد ميلاده الثاني والثلاثين ويرفعها إلى فمه كالوردة، يشعل بها سيجارته ويدخنها على مهل بالطريقة ذاتها التي يشعل بها حواسي حينما يسحبني ويضمني بين ذراعيه”.

سعل لمرتين أو لثلاث وبصق على الجدار ولكني لم أدون ذلك لأنه لم يكن شيئاً ضرورياً يستحق التدوين.

وفي غياب القمر وبرودة الليل الطويل اتجه صوب النافذة وبدأ يدندن بصوته الأجش أغنية شعبية قديمة وأنا أدندن على الورقة التي اندلق فيها صوت فيروز:

“هالأوضة وحدا بتسهر و بيوت الأرض تنام و تحت قناديل الياسمين انت و انا مخبايين”.

عندما انتهى من نوبة التدخين والغناء شرب كأساً من البيرة الباردة وخرجت كلمة أح من فمه رخيصة وبشكل جنسي فاضح قبل أن يتجشأ ببطء، لم أدون ذلك أيضاً لأنه بدا أمراً كريهاً وغير لائق وكاد أن يسبب لي الغثيان.

تثاءب بطريقة فظة أصدر في نهايتها صوتاً مزعجاً أقرب إلى عواء طرزاني وهو يهرش رأسه وأسفل بطنه المتهدل وكان يجب أن أكتب شيئاً فدونت التالي:
“ها هو النعاس يدب في عينيه المنهكتين فيطبق جفنيه و يعيد فتحهما من جديد ليتحول بياضهما إلى لونٍ أحمر حزين”.

نهض باتجاه غرفة النوم فتبعته بهدوء وحذر كي لا يشعر بي وأنا مستغرقة في تدوين الحدث: ” حبيبي المنهك ينهض من مكانه بهدوء ويمشى باتجاه غرفة النوم التي لم تكن تبعد سوى خطوات قليلة”.

عندما دخل إلى الغرفة لكز جسداً طرياً ومستلقياً على السرير المزدوج وهو يصرخ

ـ هيا انهضي وحضري لي شيئاً آكله
فكتبت: “ورغم أنه لم يذق لقمة واحدة منذ الصباح إلا أنه لم يكن يشعر بجوع، لذا ألقى برأسه المثقل على الوسادة وحاول أن يستسلم للنوم غير أنه لم يستطع”.

لكز الجسد المستلقي للمرة الثانية قبل أن يقرص الذراع بقوة فتأوهت المرأة التي إلى جانبه ونهضت بصعوبة ليبرز انتفاخ بطنها فيما هي توبخه: آااي.. يا مجرم.

نهرها بانفعال وعصبية: انهضي وكفي عن هذا الشخير المزعج، لم أتزوج بكِ لأجل الفراش فقط، بل لتخدميني أيضاً.

غير أن المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي لم تكن تشخر في منامها جرحتها إهانته ورفضت أن تنصاع لأمره فاحتدم بينهما شجار عنيف تبادلا على إثره شتائم نابية بدأها هو بقوله الحمارة بنت الحمار، ولأن المشهد كان ممتلئاً بضجيج لا يطاق قررت أن أتجاهلهما وأنا أحاول أن أكتب:

“كان حبيبي يتقلب على سريره لكي ينام “
لكني شخبطت عليها لأكتبها بشكلٍ أكثر دقة وأنا أركز على الورقة:”

” وفي محاولة جادة منه للنوم، تقلب حبيبي على سريره ثم على الكنبة، لكن أنهارا من الأرق بدأت تتسرب من جسده مما جعله يقفز من موضعه قفزة هائلة ليتجه بعدها إلى الكوميدينو حيث وضع هاتفه المحمول وضغط على عدة أرقام بشكل سريع وحاسم”.

كان الزوجان لا يزالان يتشاجران عندما جذبها من ذراعها العارية ببطش وقسوة ليوجه إلى وجهها الجميل صفعة عنيفة أودت بها خطوة إلى الخلف حيث فشلت في التشبث بالكرسي الخشبي فارتطم رأسها به وبدا أن الدم الذي ينزف بغزارة سيلطخ ثوبها الأبيض الجميل بلونٍ أحمر بشع.

كان غاضباً جداً وبدأ بتحطيم كل ما أمامه دون أن يتوقف عن هيجانه الحيواني للحظة، قال كلاماً كثيراً عن الماضي و عن أوهام الحب وعن دبلة الخطوبة وسفالة أبيها وإخوتها وقيمة أثاث المنزل والوظيفة الحقيرة والراتب الأكثر حقارة وعن معنى الوطن وعن فاتورة الكهرباء وحذائه البالي وموبايله المسروق وزوجة صديقه المثيرة والملائكة التي تلعنها كل يوم حتى تصبح.

بدا سكراناً ولم أكن متأكدة من حقيقة سكره وإلا كنت قد دونته دون أدنى مواربة، ومع ذلك قررت أن أختبئ أسفل السرير خوفاً من أن يصيبني بأذى شبيه بالذي أصاب المرأة الشاحبة، في تلك اللحظة مرق صرصور ضخم من أمامي فذعرت بشدة وكدت أصرخ ولكني كتمت صرختي المفزوعة وتمنيت لو أغلق عيني وأفتحهما ويختفي كل هذا المشهد المريع معه.

في أسفل ذلك الظل القاتم والذي كانت تفوح منه رائحة بصل أخضر وبراز أطفالٍ رضّع كتبت:

“كان الهاتف لا يزال يرن بإصرار، يرن دون توقف، يرن بتسول وشفقة، وعندما شعر حبيبي باليأس وقرر إغلاقه استجاب الطرف الآخر للنداء لكن دون أن يصدر عنه أي صوت”.

بدا وكأن الحبر سينفد، وكأن أحرف الكتابة قد صارت باهتة فهززت القلم عدة مرات قبل أن أواصل:

“همس في أذنها بشاعرية أخاذة، همس لها بصوته الذي يسيل عذباً كالموسيقى وكالإنسانية المفرطة”.

توقفت لأفكر بالذي ينبغي أن يبوح به بعد أن رُفعت السماعة، في الوقت الذي كنت أحاول فيه تجاهل نحيب المرأة الشاحبة ذات البطن المنتفخ والتي بدأت تنزف من الأسفل أيضاً وهي تئن وتطلب النجدة لأنها ستموت إن لم يلحقوا بها، طرأ لي أن أتخيل المشهد التالي، فكتبت عبارته المتوسلة إليها:

ـ تعرفين بأني متعب. وبأني مريض عندما أفتقد عينيكِ. وبأن كل هذا يحدث لأني أحبك.

كنت سأكتب ذلك ، كنت سأكتبه قبل أن ينتهي الحبر، كنت سأكتبه لأتخلص من ألم الكتابة عنه، لكني لم أستطع أن أدون شيئاً من كلامه، ولم أستطع أن أصل إلى نقطة النهاية، خيل إلي بأني أسمع أغنية أعرفها جيداً وكانت تصدر من بقعة ما من الغرفة، كان الصوت الأجش قريباً جداً وكان لرجل يختبئ أسفل السرير إلى جانبي وهو يردد منتحباً:
“هالأوضة وحدا بتسهر وانت و أنا مخبايين.. مخبايين.. مخبايين”
كنتُ أبكي!


( العرب الدولية – لندن )


الصور على التوالي: فاطمة المزروعي، ناديا بوهناد، صالحة عبيد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *