محمد محمد الخطابي *
كان قد أعلن أواخر السنة الماضية (2011) من طرف بعض وسائل الإعلام والصحافة الإسبانية والعربية عن عودة أسود قصر الحمراء بغرناطة إلى مرابضها بعد ترميمها، إلاّ أنّه إتّضح فيما بعد أنّ أسدا واحدا فقط كان قد تمّت عملية ترميمه وهو وحده أعيد وتمّ نصبه في مكانه بالحمراء في ذلك التاريخ، وأمّا بقية الأسود فلم تعد إلى عرينها إلاّ فى27 من شهر تموز (يوليو) الأخير(2012) كما يؤكّد الموقع الإعلامي الرسمي لإدارة قصر الحمراء بغرناطة في بابه ‘ أخبار الحمراء’ – حيث إفتتح بهو الأسود بالفعل بصفة رسمية في وجه الزوّار من جديد في هذا التاريخ الأخير .
الحمراء أولى المعالم جذبا للزوّار
عادت إذن أسود قصر الحمراء لتزأر من جديد في البهو الكبير الذي يتوسّط هذه المعلمة المعمارية والحضارية الإسلامية الفريدة التي ما فتئت تبهر عيون الملايين من الزوّار، وتذهل عقولهم وألبابهم من كل الأعراق والأجناس الذين يتقاطرون عليها كل يوم بدون إنقطاع من كل صوب وحدب. حتى أصبحت هذه المعلمة تحتلّ المرتبة الأولى بين مختلف المعالم والمآثر التاريخية والعمرانية ‘ الإسبانية’ من حيث جذبها للزوّار، بل إنها أجملها وأروعهاعلى الإطلاق . وحسب نفس المصدر الإعلامي الآنف الذكر وضمن نشرته الإخبارية المؤرّخة في 13/1/2012- فإنّ كلا من’ قصر الحمراء’ وملحقته ‘جنّة العريف’ قد حققتا رقما قياسيا تاريخيا السنة المنصرمة (2011) حيث زارهما ما ينيف على مليونين ونصف مليون زائر، بزيادة نسبة 6.47 في المائة أكثر من السنة التي قبلها .وفاقت بذلك بكثير جميع المعالم التاريخية الإسبانية الأخرى. عادت هذه الأسود، وعادت إليها المياه البلّورية تتدفّق من أفواهها بخريرها المتناغم عذبة رقراقة على إيقاع أصوات موسيقية سحرية أسطورية .
رحلة إلى الماضي البهيج
عمليات الترميم كانت قد بدأت عام 2002، عشر سنوات طويلة إستغرقت إذن أشغال الترميم الدقيقة التي خضعت لها هذه الأسود لتعيد لها رونقها القديم، وإشعاعها وبهاءها الذين ليس لهما نظير.لقد أصبح المرمر الأبيض الناصع يغطّي أرضية هذا البهو البهيج، والمياه تنساب في لطف بين ‘السّواقي’ التي تملأ المكان كما كانت عليه في عهدها السابق في القرنين الرابع عشر والخامس عشر (مازالت كلمة ‘السّاقية’ تستعمل في اللغة الإسبانية إلى اليوم بنفس معناها العربي).
خضعت هذه الأسود الإثنى عشر الأصليّة لعمليات ترميم دقيقة بعد أن نزع عنها الخبراء كل ما علق بها من المواد الغريبة بفعل التآكل والتحات والرطوبة ومرور الزمن، وإكتشف المرمّمون خلال عملهم أنّ كل أسد من هذه الأسود يختلف عن الآخر، وهذه الفوارق يمكن الآن مشاهدتها بشكل أكثر وضوحا من ذي قبل في فروها، وفكاكها، وخطامها، وأذنابها، بل وحتى في تعابير وجوهها، وقد بلغت تكاليف الترميم ما ينيف على 2.24 مليون أورو .بمشاركة أزيد من مائة خبير ومتخصّص في عين المكان الذي توجد فيه الأسود.
بالإضافة إلى عمليات ترميم الأسود تمّ إصلاح وتحديث النظام الهيدروليكي أو المائي وتصفيته بعد أن كان قد إعتراه البلى وعلقت به بعض المواد المعدنية كالكلس وعوالق أخرى، كما تمّ إستخراج المياه الآسنة، وتنقية المجاري الجوفية، وتركيب نظام هندسي متطوّر خاص لمراقبة حرارة المياه لتفادي إلحاق أيّ أضرار محتملة سواء بالقنوات والمجاري المائية، أو بمجسّمات السّباع مع مرور الزمن وإنصرامه. ويشير الخبراء الذين أشرفوا على هذه العمليات (ينتمون لجامعتي إشبيلية وغرناطة وجهات علمية أخرى) أنهم قد أعادوا إستعمال الممرّات المائية الدفينة (غير المرئية) وإستغلال نفس المياه القادمة من النبع القديم الذي صمّمه وإستعمله الخبراء المسلمون في القرن الرابع عشر بأمر من السلطان الأندلسي محمد الخامس من قمّة المنحدر المعروف باسم: ‘السّبيكة’.
الأعمال الترميمية البالغة الدقّة التي أنجزت في هذا الشأن والتي تنقل الزائر الجديد للحمراء في رحلة سحرية إلى الماضي البعيد تمّت إستنادا إلى مراجع ووثائق تاريخية قديمة تعود للعصرالذي شيّد فيه قصرالحمراء، وبناء على شهادات وأوصاف العديد من المؤرخين المسلمين والأجانب. وحسب المؤرخ الألماني ‘هيرومينوس مونسير’ (1434- 1508) فإنّ أرضية البهو في زمانه: ‘كانت كلها مكسوّة بالمرمر الحرّ الأبيض، وكانت القنوات المائية التي تمخر المكان والتي تنطلق من النبع ترمز إلى الأنهارالأربعة التي تقود إلى الفردوس’. ويشير المهندس الإسباني ‘بيدرو سالمرون’ الذي أشرف على عملية وضع المرمر الجديد: ‘أنّ كل الشهادات والروايات في ذلك الوقت تؤكّد أنّ الأرضية الجديدة هي الآن تماما كما كانت عليه عندما رآها لاوّل مرّة الملكان الكاثوليكيان فرناندو وإزابيل بعد دخولهما لغرناطة، وأنه قد تمّ وضع 250 قطعة من المرمر على مساحة 400 متر مربّع ذات مقاييس وأوزان متباينة تتراوح بين 50 و400 كيلوغرام’.
وإبتداء من الآن- بعد هذه الترميمات الدقيقة – فإنّ بهو الأسود وجميع أركان قصر الحمراء وملحقاته ستخضع لمراقبة صارمة، وحراسة مشدّدة، وصيانة دورية منتظمة.
ساحة السّباع أو بهو الأ سود هي من إنجازات السلطان الأندلسي محمد الخامس الغنيّ بالله، وهي تضمّ الباحة التي تتوسّط قصر الحمراء بأسودها الإثنى عشر، والبناءات المحيطة بها مثل قاعة الأختين، وقاعة بني سراج، بالإضافة إلى قاعة الملوك، (أو قاعة العدل) وقاعة المقربصات، بالإضافة إلى النافورة التي تتّخذ شكل قصعة مستديرة بديعة الشكل كحوض من المرمر يحملها إثنى عشر ضرغاما تمجّ المياه من أفواهها وتتطاير لتسقط في لطف وإنسياب على جنبات النافورة المحيطة بها .
الحمراء ألبوم شعري على مرمرمصيص
للمستشرق الإسباني الكبيرالراحل إميليو غارسيا غوميس كتاب تحت عنوان: ‘قصائد عربية على جدران وينابيع الحمراء’: هذا الكتاب هوعصارة عمل يمتدّ لسنوات طويلة، بدأ فيه المؤلف منذ أن كان حديث العهد بالوصول إلى غرناطة عام 1930 ليشغل أستاذ كرسي في جامعتها، حيث طفق في العمل على جمع مواد هذا الكتاب ثم إنقطع عن ذلك، وفي عام 1943، ضمن الخطاب الذي ألقاه غارسيا غوميس عند قبوله عضوا في المجمع التاريخي الإسباني تحدّث عن إبن زمرك شاعر الحمراء ففاجأ الحاضرين بالمعلومات التي قدّمها سواء عن هذا الشاعر أو عن الحمراء التي تعتبر في نظره ظاهرة فريدة من نوعها في العالم. إنّ قصر بني نصر الكبير يعتبر بمثابة ‘مصنع’ إعجاب، وهو خلاصة حساسية مفرطة، وذكاء وقّاد أكثر ممّا هو مصدر ثراء ورفاهية وترف. يحتوي هذا القصر على ‘ديكور’ يكاد يشبه أرقى ديكورات المسارح العالمية، بل يفوقها جمالا وجلالا لأنّه ديكور حيّ دائم خالد وموح بالحبّ الذي ينبعث من كل جوانبه.
تضمّ الحمراء بين جوانبها خاصيّة مميّزة ومحيّرة بكونها تعتبر ‘ألبوما’ شعريا لثلاثة وثلاثين قصيدة تنتمي لشعراء معروفين أو مجهولين، كتبت أو بالأحرى نقشت أشعارهم على المرمر المصيص الخالص، أو الخشب الصلب، في جدرانها ونافوراتها وهي تكوّن بذلك في دقّة وانسجام رائعين صنفا من الأصناف الأدبية التي يمكن أن نطلق عليه بالشعر المنقوش كتابة .
إنّ نهي القرآن على تقديم أشكال مشخّصة للأحياء، قد أدّى إلى أوج إزدهار الفنّ الكتابي أو فنّ الخطاطة حيث بلغ في الإسلام مستويات فنيّة راقية لا مثيل لها في أيّ ثقافة أخرى .قال قائلهم في هذا الصدد :
تعلّم قوام الخطّ يا ذا التأدّب ولازم له التعليم في كلّ مكتب
فإن كنت ذا مال فخطّك زينة وإن كنت محتاجا فأجمل مكسب
لا تنفرد الحمراء بهذا المستوى الجمالي وحسب، بقدر ما تنفرد القصائد المسطّرة على جدرانها كذلك بنفس المستوى، إن ّتكاثف هذه الظاهرة وتدرّجها يمكن أن تلمس بشكل ملحوظ في القرن الرابع عشر. هناك ثلاثة أسماء تمثل القصيدة المنقوشة وهي: إبن الجيّاب، ابن الخطيب، وابن زمرك وهو أهمّهم وقد شغل الثلاثة جميعهم منصب الوزير الأعظم، وكانوا كتّابا كبارا للبلاط الملكي،إننا إذن أمام فنّ غنائي بلاطي بمعناه الواسع، إذ كانوا يشرفون بأنفسهم على تزويق وتنميق المباني، كما كانوا يشرفون على وضع القصائد والزيادة أوالنقص فيها أو منها حتى تتلاءم والحيّز المكاني المخصّص لها في القصر، كان عملهم ضربا من ضروب الفنّ والثقافة والشّدو والغناء واللّهو والتّسرية والتسلّي، وبهذه الرّوح كان الملك يوافق على مقترحاتهم .
إنّ تعاطي الشعراء الثلاثة للسّياسة يفسّر الأخبار الكثيرة المتداولة عنهم والتي لها صلة بهم، فإثنان منهما اغتيلا نتيجة الصراعات التي كانت تنتشر وتحتدم في القصر وهما ابن الخطيب وابن زمرك، أمّا ابن الجيّاب فقد أمكن له أن يموت في سريره ضاربا بذلك ‘رقما أوليمبيا قياسيا’ في غرناطة بني نصر .. أعماله غير معروفة جيّدا وهي مبثوثة في كتب وتآليف مختلفة وضعت في حقب متفاوتة من التاريخ .
وتحتل كل قصيدة من القصائد الثلاثة والثلاثين لهؤلاء الشعراء مساحة تتراوح بين أربعة وعشرين بيتا من حيث التركيب في عدّ تنازلي حتى تصل إلى بيت واحد. وأوسط هذه القصائد تتراوح بين أربعة وثمانية أبيات .
يتحدّث الشاعر بشكل مباشر إلى شخص الملك الباني، أو الملك المتفرّج، أو يستفهم الآثار والمعالم. أو يشخّص المكان الذي توجد فيه الخطوط المكتوبة شعرا .ويجعل التركيب برمّته مجموعا في فم المكان ذاته .
القصائد التي تنمّق الجدران والنافورات والحيطان توجد في المشور و(ساحة الأسود)، والأبراج وفي جنّة العريف .هذا التنظيم الطوبوغرافي هو الموجود في الكتاب. وبطبيعة الحال فإنّ التركيبات ليست تصوّرية في شكل واقعي ذلك أنّ الحمراء لو إختفت فرضا فإنه سيكون من غير الممكن الإقتداء بهذه القصائد لإعادة تشييدها من جديد .
لوركا وشعراء الحمراء
من القصائد التي تسترعي إنتباه الزّائر/ القارئ /المشاهد على هذه الجدران تلك التي توجد في قاعة ‘الأختين’ في (بهو الأسود). إنّ ابن زمرك هو الغسق اللمّاع الآيل للغروب للقصيدة العربية الأندلسية التي كانت ما تزال تحتفظ بجمالها ورونقها في عهده، إلّا أنّ مجموع هذه القصائد تشكّل جمالية مركّبة لا يمكن فصلها عن الإطار الذي توجد فيه.
يشير الباحث الإسباني ‘مغيل غارسيا بوسادا’ أنّ هذا العمل الأدبي يعدّ ذا قرابة بالشعر الاسباني الحديث، إذ يشير المؤلف أن ّ الشاعر الغرناطي الكبير فدريكو غارسيا لوركا كان قد قال له في خريف 1932 أنّ في نيّته وضع كتاب عن ابن زمرك الذي نشرت بعض قصائده في أحد أكبر الدواوين جمالا في العالم، والذي صدر في مستهلّ الحرب الاهلية الإسبانية حيث أجاب المستشرق غارسيا غوميس في حينه أنه بدوره كان قد أعدّ ديوانا تكريميّا لهؤلاء الشعراء الغرناطيين القدامى، ويشير الكاتب أننا نعرف أنّ هذا الديوان لم يكن مكتملا كمجموع عضوي، وأنّ أجمل محتوياته وأكثرها إثارة هي قصائد الشعراء العرب الأندلسيين الذين كان المستشرق غارسيا غوميس قد نشر بعضها في ‘ مجلة الغرب’عام 1928 وأعجب بها لوركا أيّما إعجاب.
ويشير الكاتب أنّ السّبب الذي جعله يعمل على إصدار ذلك الديوان الكبير كان هو الحوار الذي دار بين المستشرق غارسيا غوميس والشاعر غارسيا لوركا. إذعندما كان غارسيا لوركا يقدّم قصائد ديوانه عام 1935 في مدينة برشلونة سجّلت الصحافة الصادرة في ذلك الوقت بهذه المدينة ما يفهم منه إعتراف غارسيا لوركا بتفوّق سكّان الأندلس في الإبداع الشعري وإعجابه بهم، حيث قال قبيل قراءة ديوانه أمام الملأ: ‘إنّ الأشعار التي يضمّها هذا الديوان هي مهداة إلى الشعراء العرب الذين كتبوا قصائدهم على جدران غرناطة’.
يعتبر بهو الأسود من أشهر أجنحة قصر الحمراء، وهو بهو مستطيل الشكل، تحيط به من الجهات الأربع أروقة يحملها مائة وأربعون عمودا من الرخام الأبيض الناصع، وعليها أربع قباب مضلّعة. ويؤكد المؤرخون أن نافورة الأسود على حوضها المرمري المستدير إثنى عشر أسدا من الرخام الخالص كانت المياه تخرج من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل، وقيل إنّ مخارج هذه المياه تعطّلت حين حاول الإسبان التعرّف على سرّ وكيفية إنتظام تدفّق المياه بالشكل الزمني المتواتر الدقيق الذي كانت عليه. وكانت فوّارات ونافورات وحدائق وبساتين قصرالحمراء وجنّة العريف نموذجا متطوّرا ومحيّرا لما أدركته هندسة الريّ والسقي والبستنة، وبلغته الفنون المعمارية الأندلسية في هذا القبيل من أوج ورقيّ في ذلك الإبّان.
( القدس العربي )