خيري منصور *
وهمان أبديان اقترنا بالديكتاتور عبر مختلف الأزمنة، هما وهم الخلود واستثناء الذات من المصير الحتمي والعضوي للبشر الفانين، ووهم المعصومية واحتكار الصواب.
لهذا سعى الى ان يتمدد ملكوته على كل شيء ويشمل الابداع ايضا، لهذا لم يفارق شغف الكتابة زعماء وجنرالات لأن هناك من الحواشي والاتباع وأقنان السلطة من زيّنوا لهم ذلك، وربما شدّوا شعورهم وقفزوا من أماكنهم تعبيرا عن الاعجاب والافتتان بما كتب سادتهم حتى لو كان نموذجا في الرّداءة. واذا كان اسم نيرون قد ارتبط بحرق روما فإن ذلك ليس سوى مبتدأ الجملة الشيطانية في سيرة طاغية، والأنكى انه حاول الغناء، وفرض على الناس الطرب، بحيث اذا استخفّهم هذا الطرب رقصوا لكن على طريقة الطائر المذبوح والذي يترنح ولا يرقص من فرط الألم، لكن ما اثار هذه التداعيات لديّ ليس فقط صوت نيرون الاجش، بل اصرار امبراطور آخر على ان يكون شاعرا، هذا الامبراطور الذي كتب عنه الكثير وقدّمت عنه الافلام السينمائية هو كاليغولا، وقد تكون مسرحية البير كامو عنه هي الأمهر والأبرع في استبطانه واستقراء سيرته الدموية الفاحشة.
كاليغولا اراد ان يقطف القمر من نافذة القصر كالبرتقالة، وعيّن حصانه رئيسا للبرلمان، واستباح ذكورة القادة الذين عملوا تحت إمرته مثلما استباح اناثهم، لكن كل هذا يبقى في نطاق سيرة طاغية قد يكون خير من عبّر عنها اضافة الى كامو رسام روسي عندما رسم ستالين وهو يدخن غليونا محشوا بالبشر لا بالتّبغ.
كاليغولا شاعرا، تلك هي المفارقة والاطروحة المجنونة لا الفنطازية، فقد اجرى ذات يوم سباقا بين شعراء، ومن لم يعجبه منهم كان عليه ان يلقي بنفسه من مرتفع بحيث يسقط ميتا، وحين جاء دوره وضع التاج على كرسيّ العرش بدلا منه، واخذ يقرأ امامه، وقال للحضور ان التاج لم ينطق بكلمة، مما يدل على انه سعيد بما سمع، فالصمت هو علامة القبول.
* * * * * * * *
قد يكون تعريف الفيلسوف الوجودي سيرين كيركيغورد للشاعر هو ما يليق بهذا السياق، رغم وفرة تعريفات الشعر التي غالبا ما انزلق الشعر عنها وراغ من قبضتها، يقول : الشاعر هو انسان شقي قلبه مفعم بالحزن العميق، لكن شفتيه مقلوبتان على نحو يحيل انّاته وصرخاته الى موسيقى آسرة، ومصيره يشبه مصير ضحايا فالاريس داخل الثور النحاسي.. ولتوضيح هذا التعريف للشاعر والذي يحيلنا الى فالاريس علينا العودة الى جذر الحكاية، وهي عن طاغية كان يسجن الضحايا وهم غالبا من الشعراء في جوف ثور نحاسي وفي ظهيرة قائظة بحيث تلهب الحرارة ظهورهم وتجلدهم بسياطها، وكان يتلذذ بصرخاتهم واستغاثاتهم. وفالاريس بخلاف كاليغولا ونيرون لم يتنطّع لقول الشعر، واستعاض عن ذلك بتعذيب الشعراء لاعتقاده انهم يقولون افضل ما لديهم وهو يتعذبون، وبذلك يكون أعذب الشعر اصدقه وليس اكذبه كما قال العرب القدماء!
ويبدو ان الشاعر الداغستاني حمزاتوف قرأ عن علاقة الطغاة بالشعراء، وقلب المعادلة رأسا على عقب عندما روى حكاية عن طاغية قرر ان يعاقب الشعراء الذين لا يسبّحون بحمده، وبقي واحد منهم فقط على قيد تمردّه وحريّته، عندئذ أمر الطاغية بقتل هذا الشاعر، وحين همّ السيّاف بقطع عنقه صاح به الطاغية على نحو مباغت قائلا له : اترك لهذه البلاد المسكينة شاعرها الوحيد!
فأي طاغية مضاد هذا الذي صاغه حمزاتوف ؟ وهل هو تاريخي ام اسطوري، ام ان الهدف الأبعد لهذه الحكاية الآسيوية هو ان الفن هو ما يتبقى بعد كل شيء، لأنه كما وصفه هيدغر في مقالته الآسرة عن ريلكة أعزّ مقتنياتنا البشرية على الاطلاق.
* * * * * * *
بالطبع يصعب تصنيف أفلاطون كطاغية حتى بالمقياس المعرفي، لكن السؤال المزمن ومنذ اكثر من عشرين قرنا هو لماذا طرد افلاطون الشعراء من جمهوريته ؟ هل لأنهم فائضون عن حاجتها وتصريف امورها، ام لأنهم ينافسون صاحب الجمهورية على الحلم، حيث لكل منهم جمهوريته او يوتوبياه التي تفسد على الجمهورية نظامها واستقرارها وتحولها الى واقع.
الأرجح ان طرد افلاطون للشعراء من مدينته الفاضلة هو اعتراف غير مباشر بأهمية وجودهم في هذا العالم، وهذا فعلته الاديان ايضا عندما ضاقت بهم، لكن بعضها ومنها الاسلام اعاد للشاعر اعتباره بعد ان قدّم حسان بن ثابت نموذجا مبكرا للشاعر الملتزم بفكرة او مشروع او ايديولوجيا، وقبل حسان كان احد الخلفاء يقول لئن يمتلىء بطن احدكم قيحا خير من ان يمتلىء شعرا، وسمي امرىء القيس حامل لواء الشعراء الى الجحيم.
* * * * * *
انها مفارقة تاريخية بامتياز، تلك التي دفعت طغاة حمقى من طراز كاليغولا ونيرون الى ادعاء الشعر والغناء، ثم يأتي زمن يتولى فيه الحكم شعراء وكتّاب ومسرحيون من طراز ليوبولد سنغور وهافيل ثم يتخلون عن السّلطة كي يتفرغوا للكتابة، فما تفسير ذلك ؟ وكيف يكون الاحساس بالعدالة هو الفارق الجذري والحاسم بين ديكتاتور يسطو على الابداع ورئيس مثقف يرى السلطات كلها دون ابداعه ؟ ولدينا في تاريخنا العربي الحديث نماذج من طغاة سطوا على مهنة الكتابة كي لا تبقى أية هوامش محررة من طغيانهم، وعندما ذهبوا سبقتهم كتاباتهم الى القبور وهي لا تنتظر اية قيامة. وقد يكون العربي تحديدا مسكونا بهذا الشغف بسبب ما كان للشاعر العربي من نفوذ في ازمنة غابرة، بحيث يحول خجل بني انف الناقة الى زهو بين القبائل مقابل كيس نقود، اما الكوميديا الصفراء لا السوداء فقط في هذه المسألة فهي ان الطاغية اذا اراد الكتابة فعليه اولا ان يبدأ بالانقلاب على ذاته، وان يتخيل واقعا مضادا للديستوبيا او المدينة الراذلة التي يحكمها بالسيف والسوط والاعطيات، وهذا يتطلب منه ان يكون جيكل وهايد في الوقت ذاته، ومع الله والقيصر في اللحظة ذاتها.
* * * * * * *
اذا كان نيرون قد احرق روما فقد تخلقت من رمادها، لأن ما قاله محمود درويش عن نيرون يستحق الاستذكار الآن وفي كل أوان فقد قال :
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل
اما قصائد كاليغولا التي قرأها امام تاجه الملقى على المقعد فقد سخرت منها اللغة ولم يقبل بها حتى الصمت، وان كان ثور فالاريس النحاسي في ايامنا قد اتسع ليصبح بسعة كوكب
( القدس العربي )