د. طلعت شاهين *
قبل أن أقرأ رواية “مذكرات كلب عراقي” للكاتب العراقي المقيم في منفاه في إسبانيا عبد الهادي سعدون والصادرة مؤخرا عن “دار ثقافة” في أبوظبي بالإمارات، كانت تطوف في ذهني صور الكثير من الأعمال الروائية الغربية بشكل عام والأميركية بشكل خاص التي انتشرت خلال النصف الأول من القرن العشرين والتي أطلق عليها النقاد “روايات المدرسة الطبيعية” المؤمنة بنظرية الداروينية في التطور، وكان من أبرزها رواية “الناب الأبيض” للكاتب الأميركي الشهير جاك لندن والتي عرفها القارئ العربي من خلال ترجمات ملخصة أساءت إليها إلى أن صدرت ترجمتها الكاملة من دار سنابل بالقاهرة في ترجمة رائعة للأديب المغربي عبد الهادي الإدريسي تحت عنوان “أبيض الناب”، إلا أن هذه الرواية الجديدة للكاتب العراقي عبد الهادي سعدون وان تشابهت في بعض الأوجه مع شكل الرواية الطبيعية التي يلعب بطولتها حيوانات تروي ما يجري من أحداث، إلا أنها كانت حيلة من حيل الكتابة التي لجأ إليها المؤلف ليقدم لنا الصورة القاتمة لحياة العراق والعراقيين خلال النصف قرن الأخير، ولا تزال تبعاتها تتوالى، ولا أعتقد أنها انتهت بتسجيل وقائعها في هذه الرواية، بل سوف تستمر لعقود قادمة لأن ما حدث كان تأثيره السلبي كبيرا على حياة سكان العراق، والحلول التي وضعت له كانت تكريسا لاستمرار هذه الجوانب السلبية.
يبدأ “ليدر” أو “القائد” بطل هذه الرواية بحكايته الشخصية “ولدتُ ـ كما علمت في ما بعد ـ عند حافة نهر دجلة، في بيت سيد الدار الذي كان الجميع يُطلقُ عليه لقب المعلم (…) أنجبتني أمي المدعوة “سابويسو” مع شقيق لي آخر وشقيقتين، ولم أحظ برؤية والدي “السلوقي” إلا بعد أيام ثلاثة”.
ثم يعطف الراوي الكلب “ليدر” في روايته بعد ذلك على صاحبه أو صاحب البيت الذي ولد فيه واصطفاه من بين أشقائه ليشاركه حياته ويعلمه اللغات والأشياء التي جعلته يحاول التشبه به إلى درجة تخليه عن طبيعته الوحشية، والذي يطلق عليه الجميع اسم “المعلم”، رجل وطني بالفطرة والطبيعية مثل كل الوطنيين عاشق لبلاده ويريد لها الخير، ولكن ذلك القائد (الآخر) الذي يتحدث الجميع عنه برهبة وخوف جعلت الكلب “ليدر” يخشاه عن بعد، لأنه يقف عائقا ضد تطور أفكار الآخرين في حب الوطن.
“المعلم” الذي اختار للكلب الراوي اسمه يبدو اختياره في البداية سخرية من ذلك القائد الآخر الذي يقود الوطن منفردا بلا قبول لأي رأي مختلف، ربما كان الأمر كذلك، وربما كان لا، لأن الروائي عبد الهادي سعدون لا يكشف عن هذا كثيرا، أو أراد ترك ذلك للقارئ.
ونمضي مع رواية هذا الكلب الوفي لصاحبه “المعلم” لأنه ممتن لصاحبه على تعليمه كل ما يعرفه ومشاركته له كل شيء في حياته حتى سماع الموسيقى، وأيضا مشاركته خلال هوايته الوحيدة بعد القراءة وهي هواية الصيد، بعد أن تحولت حياته إلى جحيم بسبب نشاطه السياسي المناوئ للقائد الآخر، وما ألم به من ألم نتيجة موت زوجته وإبعاده لولديه إلى أوروبا حتى لا يموتا في الحروب المتتالية التي دخلها العراق في ظل ذلك المسمى القائد الآخر، على أمل اللقاء بهما في يوم ما، ولكن حياته تمضي من سجن لآخر دون أن يتراجع عن مواقفه.
يمضي بنا الكلب “ليدر” في سرده لمذكراته/ الرواية التي تحاول أن تصف لنا حال “المعلم” التي هي حال العراق خلال فترة وجود “ذلك المسمى القائد الآخر”، وأمام عينيه شعار واحد يكمن في تغني المعلم بلازمة شهيرة “الطريق نخطه بخطواتنا، الطريق”، وهي لازمة مأخوذة عن بيت شعري شهير يغنيه بعض المطربين للشاعر الإسباني “انطونيو ماتشادو”: “أيها السائر لا طريق هناك، الطريق يصنعه المسير”.
يقص علينا الكلب “ليدر” كيف أنه لم يفهم أن يفقد “المعلم” بيته الواسع على نهر دجلة جزءا بعد الآخر لأسباب و”دواع أمنية” تصدر بها أوامر من دون شرح أو تفسير، إلى أن قررت الدولة مصادرة الدار كلها، وكان على صاحبها أن يبحث له عن مأوى. ومنذ ذلك الوقت يتعرض المعلم وكلبه لمؤامرات لا تنتهي، والناس تتبدل أحوالها بسبب ما يمر بالبلاد من أحوال وأهوال لا تفسير لها، تتغير فيها الأنفس وتتبدل بشكل غير مبرر حتى أن “المعلم” يكتشف أن سجنه الأخير تم بوشاية من صديقه الذي عرض عليه الإقامة عنده بعد أن صادرت الحكومة قصره على دجلة.
وتزداد الأمور تعقيدا في وجه “ليدر” بعد مصرع معلمه على أيدي “الغوغاء” الطامعين في ممتلكاته دون أن ينتبهوا إلى أن “المعلم” من الشرفاء المناضلين من أجلهم، لكنها الحروب التي فعلت فعلها ولم تترك في نفوس البشر سوى البحث عن مغانم شخصية واهية.
بعد موت “المعلم” وهبوب الزوابع على بغداد يتوقع القارئ أن الرواية سوف تنتهي بتلك الجملة: “كيف أني نجوت من موت مؤكد ولم ألحق بصاحبي المعلم، كنت أتساءل وحسب عن معنى حياة كلب بلا رفيق ولا أهل، في بلد خرب آيل إلى خراب أعظم؟”، إلا أن الأمر لم ينته عند ذلك المقطع.
فقد وجد الكلب “ليدر” نفسه في بلاد تحول أهلها إلى قتلة وقطاع طرق يتناحرون من أجل الحصول على مكاسب تافهة، فيقرر أن يعيش حياة الكلاب بعد أن فقد علاقته بالبشر بعد موت صاحبه، لكنه حتى في حياة الكلاب يجد نفسه في سجن خاص بالكلاب أيضا، وكأن هذا الوطن لم يقنع بسجن مواطنيه فقرر سجن كلابه، ولا يخلصه من سجنه إلا غزو أجنبي دمر كل شيء في البلاد ودفع حراس السجن إلى الهروب وترك الكلاب لمصيرها.
وتدور مغامرات أخرى يعيش فيها الكلب “ليدر” حياة مشابهة لحياة صاحبه من حب وخيانة وصداقة وعنف وقتل تغيرت فيها الطبيعة التي اكتسبها من سيده، حتى أنه يتساءل مع نفسه ككلب:
“يا إلهي ماذا يجري لي،هل تحولت إلى وحش بغمضة عين، ما الذي يحصل لي؟” فلا تنتهي مغامراته مع غيره من الكلاب التي واجهها بعد هروبه من سجنه إلا بقراره الخروج من العراق كلها وتركها لجراحها التي لا تلتئم بعد أن فقد الأهل والصاحب، وفي هذا الجزء يمكننا أن نرى الجانب الآخر الذي يأخذ رواية عبد الهادي سعدون إلى الاقتراب من عالم الرواية الطبيعية التي ذكرناها في بداية المقال.
* ناقد وأكاديمي من مصر
( عن الاتحاد الاماراتية )