بذاءة.. وبلاهة وماذا بعد؟


أمجد ناصر *

على عكس صبحي حديدي فقد تعمدت أن أرى، هذه المرة، ما توفر من مقاطع مما يسمّى ‘الفيلم المسيء’ على ‘اليوتيوب’ ولم أجد فيلماً (بل قد لا يكون هناك فيلم أصلاً كما قال الياس خوري)، بل مجرد نفايات متناثرة هنا وهناك على الانترنت.
لن ينجو من يشاهد هذه الكليبات ـ النفايات (بمن في ذلك غير المسلمين) من شعور عميق بالتقزّز. ليست هناك كلمة تناسب هذه الزبالة الفنية والاخلاقية، أكثر من هذه الكلمة. التقزّز فقط يليق بهذا النضح المتسرِّب من مجارير التاريخ. إنه التقزُّز ولا شيء غير ذلك.
والتقزُّز لا يدعو للغضب بل إلى أشاحة الوجه و’عصب’ الأنف. فأمام هكذا نفايات لا تملك سوى أن تسد أنفك وتتولى، سريعاً، عنها.
يليق بالنفايات التقزّز، لا الغضب، لأن مبعث الشعورين ليس واحداً، لذلك لم يكن ينبغي أن تثير هذه النفايات المسماة، زوراً وبهتاناً، ‘فيلماً’ كل هذا الغضب المهدور في شوارع عواصم عربية واسلامية. هذه النفاية التي ألقى بها بضعة رقعاء في مكبٍّ كبيرٍ يدعى ‘الانترنت’ يليق بها التقزّز والانصراف عنها، وربما السخرية منها، ولكن ليس الغضب غير المجدي، الغضب الذي في غير سياقه.
مذهلٌ كيف ننجح، دائماً، في ‘امتحانات’ مثيرة للتقزز كهذه!
مذهلٌ كيف لا نخطئ، مرة واحدة، في الاستجابة المطلوبة لتفاهات كهذه ونفشل، دائماً، في التصدي لعظائم الأمور!
هذا الغضب الأعمى، المُزْبد، المُرْغي، المختنق بحمولات قهر تاريخية فجَّرته شائعة، أو ما يشبهها، ولم تستطع أن تفجر، ربعه، وقائع الاحتلال الاسرائيلي اليومية والتهويد المتواصل، أمام انظار العالم الاسلامي لـ’أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين’!
أليس مذهلاً هذا؟
لا نرى الغضب الساطع، النبيل حيال احتلال يغتصب وطناً لشعب عربي كامل ويدنس، بفكرة الاحتلال وواقعها، البقعة الأكثر قداسة، بالنسبة للمسلمين، بعد مكة والمدينة، فيما يمكن أن تسيل أنهار من الدم لرد اساءة الى الدين ورموزه؟
أيهما أولى بالغضب والبذل؟
سيقول لكم الدين نفسه: الأولى. ليس لأنها بقعة مقدسة فقط ولكن لأنها وطن أيضاً. وليس هناك ما هو أقدس من الأوطان في أي عرف أو دين أو ايديولوجيا.
‘ ‘ ‘
لا شك عندي، كما هو عند غيري، أننا ما كنا لنرى ما جرى (ويجري) في العواصم العربية، خصوصاً عواصم الثورات، من غضب يكاد يعصف بعلاقتنا بالعالم، لولا التوظيف والاستغلال اللذان قام بهما خليط من القوى الأصولية التي ساير بعضها أنظمة الاستبداد السابقة (بل ونظَّر شيوخها لها) وأخرى أقرب الى ‘القاعدة’ ومن يفكر مثلها، وطريق هذين التيارين لا يؤدي الى فلسطين، أو أي قضية وطنية أخرى، بل قد يرى أفغانستان أقرب إليه من فلسطين!
لم تكن الغيرة على الدين، التي لا نظن أنه سينال منه فيلم أو رسم كرتوني، وراء تحريكهم للشارع والتلاعب بعواطفه الدينية، بل خلط الأوراق في بلاد ‘الربيع العربي’ وتأزيم علاقة القوى الحاكمة (خصوصاً في مصر) مع الغرب.
الذين حركوا الجموع وأشعلوا فتيل الغضب (المركَّب والمتعدِّد الأسباب) يعرفون أن الادارة الأمريكية ليست وراء هذه الرقاعة التي تسمى ‘براءة المسلمين’، كما أنهم يعرفون أن الحكومة الفرنسية الجديدة ليست وراء نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي. إنهم يعلمون ذلك علم اليقين ولكنهم يضربون صفحا عنه ويصورون لجمهورهم، بل لجمهرة المسلمين، العكس.
هناك ألف سبب للغضب مما فعلته بنا أمريكا، ولكن ليس من بينها هذا الأخير، لأنه من فعل بعض سفهائنا، ولأن لا مصلحة للمؤسسة الأمريكية بتسويد صفحتها عندنا أكثر مما هي سوداء.
هناك ألف سبب حقيقي للغضب من السياسة الأمريكية، تاريخاً وراهنا، ولكن ليس، أيضاً، على هذا النحو المثير للشفقة الذي رأيناه.
على رأس تلك الأسباب دعمها المطلق لاسرائيل غير القابل للمساءلة أو الزحزحة، ناهيك بالطبع، عن احتلالها للعراق وقتلها مئات الآلاف من أبنائه وتفتيت وحدته الوطنية.. وربما الترابية.
وأخيرا.. لعل أبلغ ما قيل في هذه الأزمة المفتعلة (القابلة للتكرار كلما أراد تافه أو سفيه أن يكرر فعلة ‘براءة المسلمين’ أو ما شابهها) هو كلام الرئيس المصري الأخواني محمد مرسي الذي اعتبرها تحويلاً للاهتمام عن المشاكل الحقيقية في بلادنا.
هذه هي الحقيقة.
فتحت غبار هذا الغضب البائس يواصل النظام السوري قصف شعبه بالمدفعية والدبابات والطائرات ولا يحرِّك هذا الاجرام غير المسبوق ساكناً في الشوارع العربية.
وقد ينجو نظام بشار الأسد بجرائمه في حق شعبه إذا استمر اللاعبون على أوتار الحساسية الدينية لعبهم المشبوه هذا، وواصلوا، عن سبق اصرار وترصد، تحويل طاقة الشارع العربي في الاتجاه الخاطئ.
لم يقم شباب العرب بالثورات من أجل أن نعود الى كهوف التاريخ.
ليس من أجل هذه اللحى، التي لا نعرف من أين طلعت، ضحى عشرات آلاف العرب بحياتهم.

 

* شاعر وإعلامي من الأردن يعيش في لندن

( القدس العربي )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *