“شبيه الخنزير” … رواية المسخ العراقية


موسى أبو رياش *

نوبة من اللهاث تُصيبُ قارئ رواية “شبيه الخنزير” للشاعر والروائي وارد بدر السالم (دار فضاءات، 2009)، وهو يتابع القراءة بمتعة وإثارة؛ فالأحداث متتابعة متسارعة متصاعدة. وحالات من التوتر والقلق والخوف من المجهول تسيطر على جميع سكان القرية، بانتظار معجزة من مكان ما، تعيد الخنزير كما كان من قبل بشراً سوياً. يتبعها يأس واستسلام وقنوط. ثمَّ صراع خفي وتربص وتوجس، يحيلُ المكان إلى بركان برسم الانفجار بين لحظة وأخرى، فشبوط يُهدد بقتل لازم الخنزير، وعصبة لازم تحذر أنَّ وراءه رجال لن يسلموه ولن يتخلوا عنه، وويل لمن يعبث بالنار!
فشلت جهود القرية في علاج لازم بعد أن مُسخ خنزيراً. لجأوا إلى العرافين والمشعوذين والأطباء والشيوخ والأولياء وكل من عنده دواء أو أمل يُرتجى، فلم يفلح أي منهم في التخفيف مما ألمَّ بلازم، وانعكس خوفاً ورعباً على أهل قريته ومن جاورهم، حتى ليخاف أحدهم أن يُصبح وقد تحول إلى خنزير أو ذئب أو كلب، وتتحسس كل زوجة زوجها ليلاً لتتأكد أنه ما زال رجلاً لا شيئاً آخر، وأبقوا القناديل مضاءه؛ لتبدد الظلام وتطرد الأرواح الشريرة التي تتربص بالقرية وأهلها، فما حلَّ بلازم قد يحل بهم، وما يدريهم أنَّ لازماً هو البداية ثم تكر مسبحة المسخ والتحول!
عندما حلَّ اليأس والقنوط من شفاء لازم، طفت على السطح حالة من الصراع والتوجس بين سليمه زوجة لازم وشيخ القرية شبوط، ولكل أتباعه وأنصاره، وتحولت إلى نوع من المكاسرة الشرسة، نبأت أنَّ هناك سراً خطيراً وراء كل ما يحدث، واتجهت الأنظار إلى أم شبوط، متهمة إياها بسحر لازم خنزيراً بعد مرض طويل لم يتعافى منه. ومالت كفة الحق إلى جانب سليمه، وكفة القوة إلى جانب شبوط. وأدرك الجميع أنَّ كارثة تلوح في الأفق، وخاصة بعد أن هدد شبوط بقتل لازم.
أدرك لازم في حالته الخنزيرية أن شبوط يتربص به، ويتحين الفرص للتخلص منه، لطي صفحة من الأسرار قد تفضح شبوط وتنهي زعامته للقرية. ويوم أن أرسل شبوط رجاله للبحث عن لازم وقتله، هاجم لازم القرية برفاقه من الخنازير الحقيقية، وكانت مقتلة ومحرقة، دمرت القرية، وقتلت كثيراً من رجالها، وأنهى لازم حياة شبوط انتقاماً وثأراً. وعندما ذهب الخوف من شبوط وسطوته، تقدمت بشه (مولدة نساء القرية) واستخرجت السحر، ليعود لازم إلى حالته البشرية من جديد ويعود إلى سليمه وإلى أولاده وإلى قريته.
الشيخ شبوط استخدم أمه العجوز الشمطاء لتسحر لازم زينة رجال القرية وأطيبهم، لتبتعد عنه سليمه وتهجره، فتخلو له طريق الزواج منها بعد أن رفضته من قبل وفضلت عليه لازماً. ولكن خطة شبوط لم تنجح، وهاله أن سليمه تمسكت بزوجها الخنزير، وعاهدته أن تبقى معه إلى الأبد، فجن جنون شبوط بعد أن فشلت خطته، ولو عقل لسحر سليمه حتى تقبل به وتترك لازماً، ولكنه قصر النظر، وتسرع قطف الثمرة، وعدم معرفته بمعادن النساء والرجال على حد سواء، فقليل الأصل يظن أنَّ الجميع على شاكلته!
ومن اللافت الراسخ في العقائد المجتمعية العربية أن تعرض الإنسان لأي طارئ أو مرض أو مصيبة أو مسخ، فهو الملوم أولاً، وما أُصيبَ إلا بما كسبت يداه أو ذنب أذنبه أو كبيرة من الكبائر اقترفها. وهم بذلك يعاقبون الضحية مرَّتان: مرَّة بما أُصيب به، وأخرى بتحميله المسؤولية. ولم يحاولوا أن يبحثوا أو حتى يفكروا عن المجرم أو الفاعل الحقيقي، وما أسهل أن يركنوا إلى ربط ما حدث بالله سبحانه، فكله من عند الله. نعم كل شيء حدث بعلمه، ولكن من المسبب، ومن اقترف هذا الجرم الأثيم؟!
عندما بحث أهل لازم خارج الدائرة، ومزقوا شرنقة الأوهام، اتجهت أنظارهم نحو العجوز والدة شبوط، فكل الأصابع تشير إلى أنها وراء ما حدث للازم، وأنها سحرته خدمة لأهواء ابنها وشهواته. عندها فقط تغيرت موازين القوى، وتغيرت الظروف، وحدث التغيير، وقامت الثورة التي قضت على شبوط وأزلامه!
الحكاية رمزية بالتأكيد، تتحدث عن العراق قديماً وحاضراً ومستقبلاً دون تحديد زمن معين، فالعراق هو العراق، كان ولم يزل وطناً جريحاً معذباً. لازم الذي مُسخ إلى خنزير يرمز إلى العراق الوطن المعذب على مدار التاريخ، المبتلى بقيادات مسخته أو لا ترى فيه إلا مسخاً لا يستحق الاحترام، ناهيك عن التضحية والانتماء. وقد اختار وراد السالم أن يمسخ لازماً خنزيراً للإشارة إلى بشاعة ما يتعرض له العراق أرضاً وسكاناً، من ظلم وإهمال وفساد، وأهل لازم هم أهل العراق الذين ما تخلوا عنه أو خذلوه يوماً رغم المحن والمصائب والويلات. ويمثل شبوط الطبقة الحاكمة الفاسدة التي لا تبحث إلا عن شهواتها ومصالحها، ولا يخلو زمان ممن يتخلى عن وطنه ويبيعه بأرخص الأثمان، هذا إن كانت الأوطان تثمن أصلاً أو تعرض للبيع في سوق النخاسة!
إنَّ علاج الأوطان لن يكون يوماً بالخزعبلات أو الغيبيات أو اللجوء إلى السحرة والجن والعرافين والكذابين والمشعوذين، فهؤلاء من أعراض المرض، أو هم جزء من المرض، ولن يكونوا يوماً قادرين على تقديم أي نفع أو فائدة، بل يزيدون الطين بلّة. إنَّ علاج الأوطان لا يكون إلا بوحدة كل أهله واتفاقهم عليه، وأنه لهم جميعاً دون تمييز، بوجود قيادة صادقة أمينة قوية، لا تبحث عن شهوات أو ملذات.
رواية “شبيه الخنزير” تتقاطع مع رواية “المسخ” لفرانز كافكا في مسخ كلا الرجلين، في “المسخ” إلى حشرة كبيرة بشعة، وفي “شبيه الخنزير” إلى خنزير، وفي أن كلا الرجلين طيب محبوب حسن الخلق والسلوك ورب أسرة أو معيل أسرة. وتختلف في أن أسرة مسخ كافكا كانت تتمنى موته والخلاص منه، بينما تمسك أهل لازم به، ولم يتخلوا عنه أبداً، وخاصة زوجته سليمه. خاتمة كافكا انتهت بموت الحشرة تعبيراً عن اليأس والظلام المطبق، وفقدان الأمل، بينما خاتمة وارد السالم مبشرة بمستقبل مشرق وإن يكن بعيداً، فقد مات الماسخ، وانتصر الممسوخ، وعاد إلى طبيعته الأولى. وواضح تأثر وارد السالم بمسخ كافكا، ولكنه أبدع وأجاد، حيث وظف فكرة المسخ في بيئة عراقية مسحوقة تعاني ظلماً وإهمالاً، ونجح في تصوير بيئة الأهوار بشكل دقيق مدهش، ولا عجب فهو ابن الأهوار، ولعله تفوق على كافكا في النهاية، فحتى الخنازير عندما تتحد تفعل الأعاجيب، وتحقق ما تصبو إليه، وبلداننا العربية –للأسف- مُسخت كلها بفعل فاعل أشر، ولا نجاة لأهلها إلا أن يدركوا أولاً أنهم مسوخ، وأن لا خلاص إلا باتحادهم ووقوفهم صفاً واحداً في وجهة السحرة المكرة، أبناء القردة والشياطين، وإن تكلموا بألستنا، وتظاهروا بمودتنا!
تتميز الرواية بقدرتها الفائقة على الوصف التفصيلي للأشياء والأحداث والمكان، بلغة مكثفة مقتصدة جميلة، لكأن القارئ يشاهد مشهداً سينمائياً، وهذه القدرة لا تتأتى إلا لمن أخلص للمكان وعاشه بروحه وجوارحه وقلبه، نقرأ مثلاً: “وفي أقصى الصوباط المظلل قبعت سليمه منحسرة الثوب كاشفة عن ساقين لم تلمسهما الشمس بعد وهي تسوي كرات العجين بين كفيها وتصفها على طبق من الخوص؛ فتبدو كأثداء ممتلئة تُركت عنوة على الطبق الأخضر. وعندما تذهبت حافة الصريفة بضوء الشمس اخضرَّ الشط أمامها ونبتت الأشجار العالية على صفحته الساكنة.”(79)
وقد نجح وارد بدر السالم في نقل روح المكان إلى القارئ، حتى ليشعر أنه يعيش هناك كأي من سكان الأهوار، يعاني مثلما يعانون، ويخاف كما يخافون، ويحلم كما يحلمون. فالأهوار مريضة عليلة، تنتظر طبيباً بارعاً، لا مشعوذاً أو ساحراً.
ويدهش القارئ من قدرة الروائي على التعداد كنوع من الثراء اللغوي في أكثر من موقع في الرواية، لكأنه يمتح من بئر، أو ينهل من نبع، ومن أمثلة ذلك، وهي كثيرة: “كانت القرية فضاء من دخان أسود منشطر.. كانت قبل وقت قصير، هو بمسافة إغماضة عين نعسانة، مكتظة بالبيوت والنخل والبط والدجاج والجواميس والسواقي والحنطة والكلاب والنساء والرجال والصبيان والأطفال والأشجار.. كان هنا كل شيء قبل لحظات، الماء والمشاحيف والعشب والتمر والرطب والخبز والشعير وموج الشط والعصافير واللقالق والنجوم..”(135-136)
ومما يحسب للرواية قاموسها الذي يوضح بعض المفردات التي قد تُشكل على القارئ غير العراقي، فلكل بيئة خصوصيتها ومفرداتها التي لا تُؤلف في غيرها.
مما يُؤخذ على الرواية طول فقراتها، حتى إن بعضها يصل إلى ثلاث صفحات، مما يرهق القارئ، ويقطع أنفاسه، لا سيما مع تتابع الأحداث وتدفقها، مما لا يسمح للقارئ بالتوقف والتقاط الأنفاس. وهذا مستغرب من شاعر يتعامل مع الكلمة الواحدة أحياناً كشطر مستقل!
وحسب الرواية والروائي شهادة عبدالستار ناصر التي قال فيها: “منذ وقت بعيد، لم أقرأ عملاً روائياً عربياً بمستوي (شبيه الخنزير) ولو كان مؤلفها وارد بدر السالم في بلد أوروبي أو أمريكي، لصار اليوم من أصحاب الملايين، كما حدث مع فرانسوا ساغان ودان براون وغيرهما ممن حصل علي المجد والمال من أول كتاب نشروه، لكن حظ الكاتب العربي (والعراقي بخاصة) لا يزال في أدني حدود المقبول.”(5)
وبعد، فرواية “شبيه الخنزير” متفردة في موضوعها، تحتمل كثيراً من التأويلات، وذات مستويات متعددة، ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه قادر بمفرده على فك طلاسمها وحل ألغازها، فهي من الروايات التي لا تعطي سرها لأحد بسهولة!

 

* ناقد من الأردن

 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *