كتاب “الإيمان بمحمد ” ….هل يستوي الحب و الجفاء..؟؟


د. فاطمة الصمادي *

ثقافات- لا يخرج كتاب “الإيمان بمحمد” للمفكر السوداني الشيخ النيل عبد القادر أبو القرون والصادر عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر مؤخراً ،عن مسار كتبه الأخرى ، كما لا تخرج كتبه الأخرى عن مسار هذا الكتاب،إذ يمكن القول أن الشيخ صاحب مشروع يقوم على “المحورية المحمدية” ،ويصب في سياق “أن أي ايمان يكون ناقصا دون الإيمان بالرسول العظيم المعصوم، عبر معرفته حق المعرفة، وتنزيهه عما طاله من التشويه المتعمد أو الذي عن جهل” ..

تبحث “رسائل الشيخ النيل ..مراجعات في الفكر الإسلامي” الصادرة عام 2008 ،عددا من القضايا التي تلتصق بشكل شائك بالموروث ، لكنها تسير معتصمة بالنظر إلى النبي صلى الله عليه وآله وبارك” مثلا للكمال الإنساني ، لا يدانيه أحد في العلم و الشجاعة والحلم و الكرم في خلقه وخلقه”.وبهدوء لا يخرج عن اطار المجادلة بالتي هي أحسن، يرفض صاحب الرسائل وينقض كثيرا مما جاء على لسان المفسرين فيما يتعلق بنبي الرحمة، معتقدا أن “ليس للمفسرين من عصمة ، و وقوع الزلات من المؤرخين والتحريف في التاريخ أمر لايمكن انكاره ..فضلا عن تأثير الإرادة السياسية في الأنظمة على الثقافة “. وتدعو الرسائل إلى اعادة النظر بصورة جذرية في الصورة التي وصلتنا لنبينا المرسل ، خاصة عن طريق النصوص النقلية التي يرى البعض فيها مصادر لا يأتيها الباطل ، حتى وهي تسيئ للنبي المعصوم، وتقدم بعض أصحابه عليه، وتخطئه وترجح صواب رأيهم على رأيه.

وتقدم “الرسائل ” قراءة مغايرة للفكر الإسلامي السائد فيما يتعلق بعدد من القضايا لعل أبرزها “مفهوم الإسلام كدين لكل العالمين لاينقض الرسالات الأخرى ولاينتقص منها، وأنه لا اكراه فيه ..”.
والشيخ النيل يقوم بإعادة النظر إلى الأحاديث، ويدعو إلى تنقية الصحيحين مما ورد فيهما من أحاديث قد تعارض القرآن نفسه، أو تسيئ إلى عصمة النبي ، ويدعم دعوته تلك أن ليس للبخاري ومسلم عصمة، وليس مستبعدا أن يكونا قد أخطأا في النقل أو الاجتهاد.
وفي الإتجاه ذاته يجري الشيخ النيل محاكمة لبعض عمليات التفسير للقرآن مؤكدا أن القرآن محفوظ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لكن التفاسير ليست معصومة عن الخطأ.
ومن أبرز ما يتناوله الشيخ بالنقد والهجوم تفسير سورة عبس، إذ يصر المفسرون على أن النبي صلى الله عليه هو الذي ” عبس وتولى عندما جاءه الأعمى”، أما ما يراه الشيخ النيل ، فهو أن كافرا جاء رسول الله، وجاء حينئذ رجل أعمى أيضا فانتبه الرسول إليه، فغضب الكافر وعبس وتولى.
ويدافع الشيخ النيل عن هذا التفسير ويرى أنه التفسير الأسلم إذ أن الله سبحانه مدح نبيه مقسما بخلقه العظيم، وأنه لم تكن به فظاظة ولا غلظة، كما أن الله تعالى لم يخاطب نبيه صلى الله وبارك عليه وآله بقوله : عبست وتوليت بل الخطاب له صلى لله عليه وبارك وآله عن شخص آخر عبس وتولى لسوء خلقه. و جلب هذا التفسير للشيخ الكثير من المتاعب والحصار و وصل حد التكفير، لكنه في حقيقته يليق بالمقام المحمدي ويستوي مع الصفات الجميلة للرحمة المهداة ، والحق كما يخاطب الشيخ النيل قارئه وربما من يقارعهم بالحجة : ابحث أنت عن هذا الذي عبس وتولى،ولتكن في جانب تنزيه الحبيب عن مثل هذا الخلق، الذي لا يليق إلا بكافر، أو منافق أو صاحب خلق سيء على أقل تقدير، لا يستحق صاحبه أن يكون أسوة حسنة، فإنه نجاة لك من اتهام الرسول صلى الله وبارك عليه وآله،وأسلم لعقيدتك من أن تلطخها باعتقاد خلق ذميم كالعبوس في وجه المسكين، ولن ينجيك في الآخرة اعتذارك بحديث البخاري من الجحيم، إذا سئلت عن نسبة خلق ذميم، لصاحب الخلق العظيم بنص القرآن العظيم.
أما كتاب “الإسلام والدولة “الصادر عام 2010 ،فيجادل في عدد من الأسئلة الخلافية : ما إذا كان الإسلام دولة سياسة أم دعوة إلهية للناس كافة ؟ هل يجوز إجبار الناس على الدخول في الإسلام بحد السيف، أم أن الإسلام جاء لكفالة وحماية الحريات الدينية .. ومايدافع عنه الشيخ النيل باستحكام أن القول بنشر الإسلام بالحروب دعوة باطله لايسندها الدين – لا في القرآن الكريم ولا سيرة النبي المعصوم .
والكتاب في موضوعه يطرح قضية سياسة خلافية بامتياز، وسال الكثير من الحبر و الدم بشأنها دون أن تحسم ، لكن طرح الشيخ النيل على هذا الصعيد يمر يمر من خلال “الإيمان بالرسول” ، والإيمان على هذا الصعيد يقوم على القناعة بأن المتابعة على القيام بشرائع الرسالة لاتتعدى “التذكير” ، أما “الإكراه على التنفيذ، والسيطرة على الناس من أجل دعوتهم إلى الله فهي أمور لم يشرعها الله سبحانه ولا أصل لها في رسالة محمد”، أما الحكم بما أنزل الله فلا يعني كما يقول الشيخ النيل “الدولة أو السلطة السياسية” ، بل يعني “التعامل طواعية بما شرع الله سبحانه بين الناس ، فإن لم يفعلوا خرجوا عن حكم الله، وليس لأحد الحق في التسلط عليهم بعدم التزامهم بحكم الله أي بشرعه . ويصنف الشيخ النيل الكثير مما حدث بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ب”التسلط الدنيوي” ، حيث “احتاج الحاكم لمن حوله ليجبروا الناس ويكرهوهم على مبايعته وطاعته بالسيف”، كما أن “السلطان بمعنى الإمارة و الحكم السياسي لا علاقة له بالدين ، وكما قال صلى الله عليه وسلم “إن الكتاب و السلطان سيفترقان”.
وما يراه الشيخ النيل لا يعني أن الإسلام لا يعترف بوجود دولة أو يرفض تكوينها ، لكنه يعتقد أن الإسلام لا تمثله دوله ولاتحده حدود، والمطلوب هو دولة مواطنة غير منحازة لدين.
وليس مجازفة القول أن كتاب “نبي من بلاد السودان ..قراءة مغايرة لقصة موسى وفرعون” للشيخ النيل أيضا، يسير في المسار ذاته، أي المسار المحمدي.
وعودة إلى الكتاب الذي أشرت إليه في المقدمة وهو كتاب “الإيمان بمحمد” ،فالكتاب يحوي مراجعات فكرية واشراقات تتعلق بموضوعات تبدو في عناوينها متباعدة ، لكنه يبني فيما بينها علاقة منسوجة بنسيج الشق الثاني من الشهادة “لا اله إلا الله محمدا رسول الله” ، والتي هي أصل الإيمان والتوحيد، حيث أن هناك ” خطايا وأخطاء أرتكبت بحق صاحب الرسالة ” ، منها ما ورد في بعض كتب الحديث ومنها ماذكر في البخاري عن “سحر النبي وأنه أثر على عقله حتى أنه كان يرى أنه يفعل الشيء ولايفعله!” ، والبخاري أيضا هو مصدر ما ينسب إلى الخليفة عمر رضي الله عنه من “مخالفته بل واعتراضه على رسول الله صلى الله عليه و آله في عدد من المواقف” .


وتأتي بعض موضوعات الكتاب على شكل لطائف فكرية و روحية ، ومنها “الأرض” ، فهي “ليست جزءا مقتطعا من السماء كما يظن البعض، بل هي الأساس و المركز الذي انطلق منها الوجود، وتم فتق السماء منها في شكل دخان بعد أن “كانتا رتقا”، ورفع السماء..والأرض هي مركز الكون ، وإلا لما كان هذا الاهتمام الإلهي بجعل خليفته منها وفيها، ورسله وكتبه، و وضع الميزان للحياة الأخرى التي ستقام على هذه الأرض بعد اجراء التعديل عليها” يوم تبدل الأرض غير الأرض ” و “أشرقت الأرض بنور ربها و وضع الكتاب وجيء بالنبيين..”..


ومن ذلك أيضا”القمر .. منازل القمر “، حيث للقمر تأثير عجيب على كوكب الأرض وما يحويه ، ومن العجيب أن النبات إذا زرع و القمر في زيادة النور، أسرع نموه وأكتمل وأثمر، ولا يفلح الزرع في آخر الشهر العربي. وقد يصنف الإنسان من مرضى الدم في منتصف الشهر حيث تكون قوة الدم عنده في ذروتها ، لكنه أمر عارض، ولذلك حبذ النبي المعلم صيام الأيام البيض من كل شهر،و جاء الحديث أن “الحجامة إذا كانت في السابع عشر من الشهر و وافق ذلك اليوم الثلاثاء كانت شفاء “، وهو ما يدل على على أن هناك من الأعمال ما يحبذ و ما لا يحبذ في أيام محددة ، كالأربعاء آخر الشهر فقد جاء فيها أنها “يوم نحس مستمر” ..ويرد الشيخ النيل على القول بأن “علم المنازل” لم تجيء به الشريعه، وفتاوى تحريمه و وصفه بالشعوذه ، ويقول أن من يحرمه عليه أن يصدر فتوى بتحريم “علم الأرصاد” الذي تقوم عليه الملاحة الجوية والبحرية ، وعلم الفلك الذي يحدد الخسوف و الكسوف، وهلم جرا..ويخلص إلى أن للقمر منازل ، ولكل منزلة تأثير في حياة الإنسان،جهلها من جهلها وعلمها من علمها.

وتحت عنوان “تبشير ..لا تنفير” ، نجد أن “الله سبحانه ، لم يطالب العباد بالعصمة” ، وحدوث الذنوب والأخطاء من العباد أمر لا بد منه ، والله لم يخلقهم ملائكة ، بل طالبهم بالاستغفار عند حدوث الزلل، لكن هناك من “يسؤه ذكر المغفرة و التبشير بها ، ولا يدعو إلا بالتخويف والعقاب” ، وفي الحديث من “روع مؤمنا لم يؤمن الله روعته يوم القيامة”، والدعوة بالتخويف مخالفة للنهج المحمدي “أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”، و”بشروا ولا تنفروا ويسروا ولاتعسروا”.وكانت دعوته صلى الله وبارك عليه وآله بالتحبب لا بالإكراه ،”حببوا الله إلى عباده يحببكم الله”.
ومن أكثر موضوعات الكتاب شحذا للفكر، والتي تستوقف القارىء من خلالها طرحها هو ذلك الذي يجيب على سؤال : ماهو علم الغيب ، ويقسمه الشيخ النيل استنادا إلى فهمه للنص القرآني إلى أربعه أقسام ،ثلاثة تتعلق منها بالزمن وهي: ما كان من الزمن الماضي، والثاني ما هو في الزمن الحاضر ، ولكنه صار غيبا لبعد مكانه، والثالث ما يكون في الزمن المستقبل ، أما الرابع فيتعلق بالنفع و الضر دون قيد زمني، وأشار إلى القسم الأول والذي يتعلق ب”الماضي ” بقوله تعالى “وماكنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم ..” ، وأشار إلى الثاني بقوله تعالى في سورة الروم “الم* غلبت الروم* في أدنى الأرض..”و أشار إلى الثالث في السورة نفسها “وهم من بعد غلبهم سيغلبون” و أشار أيضا إلى ذلك في قصة تزويج شعيب ابنته لموسى عليه السلام..ويخلص الشيخ النيل إلى أن العلم الذي لا يمكن معرفته يكون في حكم المعدوم ، ولامعنى له ..والقسم الرابع من علم الغيب هو “علم النفع والضر” وهو من اختصاص الحق سبحانه الذي لا يقيده الزمان ولا المكان “وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون” .

وأيا يكن من شأن موضوعات هذا الكتاب وما تفتحه من نقاش وجدل، وأخذ ورد ، وهو شأن جميع كتب الشيخ النيل وطروحاته الفكرية ، إلا أن ما يميزها أنها تقوم على أن حب محمد صلى الله عليه و آله وهو الإيمان، وهو أفضل العبادات، وبه النجاة في الآخرة، والمدقق في معرفة مابعث فيه محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي”انما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ،يجد أن الشريعة هي الحد الأدنى لما بعث به ، وهي التي جاء بها كل الرسل السابقين ، وجاء محمد صلى الله عليه وآله مصدقا لها ، و”مهيمنا بإتمامه صالح الأخلاق والتي هي الغاية من الرسالات”.
ما يكشف عنه الشيخ النيل أننا كأمة ، مارسنا – عن علم وجهل – جفاء بحق أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وآله، وهو جفاء بحق أنفسنا أيضا ، إذ نقصيها عن اصلاح البال بمعرفة مقام النبي صلى الله عليه وآله وما جاء به، لأنه الغاية. و”الايمان بالرسول” ، يكون “بالرجوع إلى المعلم يلتمس العلم ،لأنه رجوع إلى الحق والرجوع إلى الحق واجب”.
أثارت طروحات الشيخ النيل، ومازالت تثير الكثير من الجدل وتدافع الأفكار، وهي أفكار تستحق مناظرات وحلقات نقاش تلقى فيها الحجة في وجه الحجة ، دون أن تخرج عن “وجادلهم بالتي هي أحسن” ،وعندما يخرج استقبال الفكر عن ذلك ويشهر سيف التكفير و الترهيب واغتيال الشخصية، فهو جفاء آخر للحبيب لا يدانيه جفاء.

* باحثة وأكاديمية من الأردن

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *