الفيلم التركي “ثلاثة قرود”: دع الصورة تتكلم..!


آلجي حسين

فيلم تركي جميل تُدخلنا مشاهده في أجواء زمانية ومكانية غرائبية للغاية، في منزل مطلّ على محطة قطارات بإحدى المدن التركية، حيث تفضح كاميرا المخرج نوري بيلج سيلان، صاحب فيلم ‘ذات مرة في الأناضول’، أسرار هذا المنزل في بيئة مفعمة بالتعبير والتأثير.

ضمن أسرة مؤلفة من أب وأم وابن، يمضي مصيرها رويداً رويداً إلى حتفها النسبي عبر أحداث قد تبدو تراتبية في البداية، يسيطر التوتر عليها بين الفينة والأخرى لخلق ذلك القلق السينمائي لدى المشاهد، من خلال ترشيح رئيس الأب في العمل نفسه للانتخابات التشريعية، لكن قبل ذلك يدهس أحداً ما بسيارته ليضطر إلى إقناع سائقه ‘الأب’ في تثبيت التهمة عليه مقابل مبلغ من المال يأخذه بعد خروجه، باعتبار أن الوقت غير مناسب لتلطيخ سمعة العضو المقبل.

وخلال فترة السجن التي تمتد لتسعة أشهر، تسير الأحداث المركبة إلى جانب الصراعات الفرعية لتشكل بمجملها صراعاً أساسياً يبدو في غاية الدرامية، فالأم شعلة عاطفية أمام رئيس زوجها في العمل الذي يبادلها الحب، وبدوره الابن لا مبالٍ بأحد.
لا يتوانى النص في كشف النتيجة النهائية، ففي الوقت الذي يخرج فيه الأب من السجن ويلاحظ على زوجته أمارات لقاءاتها الحميمة مع غيره، يحاول كتمان ذلك من خلال ترك القدر يفعل ما يشاء، ولعل المشاهد التي تم شغلها بعناية هي التي كانت تركز على الابن الصغير الميت حين تظهر روحه بين لحظة وأخرى، ولاسيما في لحظات الوحدة والعزلة، ربما للإشارة إلى البراءة وحاجة الشخصيات إليها.
إذاً، هذه النتيجة الدرامية جاءت على لسان الأب الذي يقتل غريم أمه ليقنع الأب عامل المقهى بالاعتراف بالجريمة وقبض المال إثر خروجه من السجن عبر حوار ذكي: ‘الشتاء على الأبواب.. الجو بار جداً في الليل.. على الأقل هناك دفء وثلاث وجبات..’.

من هنا، يحقق الفيلم السينمائي التركي ‘ثلاثة قرود’ نوعاً من الكمال النسبي في عناصره الفنية. وبحكم أن الفن السابع تكون نقطة قوته بتطبيقه لهذه العناصر والقواعد ومدى دراميتها، وبغض النظر إذا تحدثنا عن مبدأ الاختزال في الفيلم الذي تميز فيه الفيلم عن سائر الأنواع الدرامية الأخرى، فهذا الاختزال قد يعتبره البعض حشواً زائداً ولحظات تأمل عديدة، لكن المسألة متعلقة بالناحية السيكولوجية للشخصية. ولأن الفيلم سيكولوجي في المقام الأول، فمن الطبيعي الاعتراف بذلك الانسجام بين الاختزال والحشو في النهاية وصولاً للفضاء الدرامي المناسب..
هذا الفضاء يتناوله المخرج بعناية مع عدم التركيز على ديكورات متنوعة، لأن العالم الواقعي كان يفرض وجوده في كل لحظة وسط الزيف الحياتي القائم، لكن السؤال: هل غلبت الشخصيات على المكان أم أن المكان كان له دور البطولة؟
لا أعتقد أن الجواب سينصف الفيلم وخصوصاً إذا لمسنا ذلك التناسق بين الزمان والمكان في الجانب الآخر؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الإضاءة قاتمة في أغلبية المشاهد، لم يمنع ذلك من القول من أن الساعات الدرامية المختارة وسط هذه الأزمنة قلّبها المخرج لمصلحة البيئة الدرامية، فجاءت الأضواء معبرة عن الحالة النفسية للشخصيات مثلاً.
كما لم يمضِ المخرج هكذا على النص إلا بعد أن منحه حقه الإخراجي المناسب، وجاء ذلك من خلال دراسة كافية لفترات الصمت داخل البنية، هذا الصمت الذي يتجاهله بعض المخرجين، علماً أنه لغة ينظم الجدلية بين الصوت والصورة.
والأمر الملاحظ الذي يصبّ في مصلحة المخرج كان عدم الاستعانة بالموسيقى التصويرية والاكتفاء بالمؤثرات الصوتية الحية، وتلك أحسبها نقطة قوية في الفيلم، لأن بعض الأفلام لا تستطيع الاستغناء عن الموسيقى باعتبارها أحد العناصر المهمة، لكن المقدرة السينمائية والبراعة تكمنان في فقدان أحد العناصر، ورغم ذلك تبلغ أعلى درجات الكمال والجمال، وهذا المبدأ مُلاحظٌ بشدة، فكان صفير القطار يخترق الصمت مشيراً للهجرة وأن الحياة دائمة الانتقال من منحى لآخر، ربما لأن المنزل مطلٌ على المحطة، لكن القطار بدلالاته الكثيرة كان من أهم الأبطال مجسداً لغة حوارية مدهشة.
هذا الشيء يقودنا إلى تبيان نوعية الفيلم والحديث عن تفاصيله وإلى أي مدى حقق التناسق بين الجزئيات الصغيرة لتشكل بمجملها عملاً متماسكاً.
ولاشك أن النظرة الأحادية الجانب لن تكون مجدية في هذا المضمار، لكن بالطبع سنختلف إذا تلمسنا تلك التفاصيل المشهدية التي سجلتها الكاميرا بدقتها، هذا إذا تحدثنا عن الجانب السيكولوجي كما أسلفت، فمن الطبيعي التركيز على اللقطات القريبة والقريبة جداً أو تصوير الأنفاس في حالتيْ الشهيق والزفير ومدى العرق المتصبب وشعر الوجه، فكل هذه الحالات كانت كفيلة بخلق الجو السينمائي المناسب للفيلم وإعطائه ذلك البعد.

يعيب البعض على الفيلم في كونه رمزياً وغامضاً في حالات عدة، لكن لا أعتقد ذلك خصوصاً إذا كانت السينما فناً اختزالياً في الأصل، إذ لا يكفي أن يكون خط الفيلم مستقيماً لكي لا نكشف عن المقدمة قبل بدايتها وليس من تشويق فيها كما يُقال، لكن اكتفى الفيلم بتمرير حالة الزمن ضمن الجو المكاني عبر فلاشات وتقنيات إخراجية ومونتاجية غير تقليدية.
الفيلم السينمائي ثلاثة قرود يذكرنا بمقولة ‘لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم..’؛ المقولة الصينية المشهورة، فالجميع يتستر على عيوب الآخر، والأب يعلم بالعلاقة التي تربط زوجته ورئيسه في العمل والابن كذلك، وهم بالتالي محافظون على صحتهم لجعل الأحداث تسير، لكن المخرج يسيّرها هو الآخر بطريقته الخاصة ومذهبه العبثي الخاص وتبيان عدم الوصول إلى الحقيقة المطلقة وغلبة الشك عليه.
فيلم ‘ثلاثة قرود’ أُنتج عام 2008 لمدة 109 دقيقة من سيناريو إيبرو سيلان وأركان كيسال، وإنتاج زينب أوزباتور، وتمثيل يافوز بينغول وهاتيس أصلان وأحمد رفعت سانغز وأركان كيسال وكافر كوسي وفوركان أيدن.
 

 

– عن القدس العربي

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *