مقتطف من كتابي: لبنان والبحر وهمسات الريح


ديالا بشارة

                       

كنتُ المُلِمّ خلجات قلبي في هذه اللحظات. لحظات الرحيل القاطعة بين حدين، الوطن والغربة. احبس دموعي المنهمرة من عيوني. احاول ان اضحك، اتعامل مع الأصدقاء والمعارف الذين جاؤوا لوداعي بهدوء ورباطة جأش، كأني أراهم لأول مرة وآخر مرة . أبتسم لهم بشكل لاشعوري، لكن قلبي في مكان آخر:

ـ وجه أمي السّاكن بين دقات قلبي، وحدتها أثناء غيابي بعد جفاء إخوتي الشّباب، وتبرّمهم عنها. لأوّل مرّة ستبقى من دوني. كنت أراقبها كيف تحاول ان تكون طبيعيّة، ترمّم جراحها المسكونة بالهموم والغمّ.
كان ليل النبطية لطيفاً، يضفي على روحي بعض الرّاحة. أمدّ نظري إلى بيوتها النائمة فوق التلال القريبة من بيتنا الممتدّ إلى المنحدر المجاور، فأحبس شهقة عميقة تريد ان تخرج من صدري. كانت صديقتي كاتيا إلى جواري، سندي في الحياة، طاقة القوّة والأمل.عيناها الجميلتان لا تفارق عينيّ، تشدّ على يدي كأنها تقول بأناملها: كوني قويّة.

السيّارة واقفة عند مدخل العمارة تنتظرني. لم يتركني الهاتف في دروب الشّرود كثيراً. كانت صديقتي فاليا على الخطّ، اسمع بعض الشّهقات الصّامتة تخرج من صدرها مردّدة بألم: ديري بالك على نفسك.
فاتن، الصديقة العزيزة بجانبي في كامل اناقتها وجمالها؛ عيناها تحدقان بي، كأنها تخاف ألاّ تراني بعد اليوم.
دخلت كاتيا المطبخ، وراحت تحضر القهوة وبعض المعجنات التي صنعتها لمثل هذا اليوم. بقيت مع الأصدقاء والأقرباء والمعارف نتبادل أطراف الحديث. جاءت كاتيا حاملة الصينية وعليها الركوة والفناجين الفارغة. راحت تسكب القهوة العربية بيديها. شممت رائحة الهال المخلوط بالقهوة، فتناثرالأريج الفواح على كامل محيط البيت والأطراف. رائحة القهوة ايقظتني من شرودي ومضت بي إلى ملاعب الطفولة، حضن المرحوم أبي الدّافئ، صوت شهقات أنفاسه المختلطة برائحة الحطب المحترق في المدفأة الخشبية. سجادة الصلاة وخشوعه وتضرعه في مضافة الله. مضيت بعيداً في طقوس الزمن وتناثرات الحياة.

ايقظتني يد كاتيا من هذا الشرود الذي لفني، قربت الفنجان من عيني في حركة تنذر بأنني في مضافة زمن بعيد. بقي الوجوم صديقي لا يفارقني، جزء من جدلية روحي والمكان.

الليلة الماضية اجتمعنا مع بعضنا، انا والكثير من صديقاتي، تحدثنا وبكينا ورحنا في ضحك طويل.تكلمنا عن حياتنا وسهراتنا، افراحنا واشجاننا، عن الماضي بحلوه ومره.تناولنا الحكايات والطرائف في إشارات لا تخلو من الغمز واللّمز، تمسّ كلّ واحدة على حدة، نروي النكت ونحكي قصصنا، النّهفات التي فعلناها.

صوت ريما عبر الهاتف جاء شجياً مملوءًا بالكلمات الدّافئة. صوت خالد من موقع عمله في السّعودية، العزيزة فاطمة، الصديق شارمن الذي تعرّفت به في موقع العمل عندما كنا نعمل في حقل الالغام مع الخبير البريطاني مارك. الأوقات الصعبة التي قضيناها في تنقيب الأرض عن الألغام العالقة بها. الكثيرالكثيرمن هؤلاء الأصدقاء الأعزاء،وقفوا إلى جانبي، راحوا يشجّعونني ويطمئنّون علي. الجميع يعرف مقدار تعلّقي بوالدتي:

ـ لا تخافي، سنكون إلى جانبها، نزورها، نطمئن عليها.
تحدثنا في الكثيرمن القضايا الهامشية حتى نبعد عن انفسنا مرارة الفراق. فهولاء الأصدقاء عاشوا معي أجمل سني عمري. كانوا شهوداً على مرارة الزمن وقسوته عليّ من جهة، وكرمه ورقته ولباقته من جهة ثانية. نثر ورده وأحلامه عليّ مرّات، وعلقمه مرات أخرى. فهذا الزمن الذي يسري علي يسري على غيري. الزمن، مثل الريح في حالة تغيّر وتبدل، ينتقل من حالة إلى أخرى تبعاً لتبدّل فصوله ومراميه، مرّة يكون لطيفاً ومرّات كثيرة يكون مزمجراً، وبعض المرات يرمينا فوق صخوره القاسية.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *