خيري منصور
|
قبل الذهاب بعيدا في استراتيجية التسمية وتأويل الاسماء، لا بد من العودة الى جذر هذه الظاهرة في ثقافتنا، فالأسماء استخدمت على نحو مضاد لدلالاتها في حالتين على الاقل، الأولى ان القبائل العربية دأبت على تسمية ابنائها من السادة بأسماء ناعمة، توحي بالرفاهية، بخلاف ما اطلق من اسماء على العبيد فهي خشنة، وذات مداليل فروسية تعني الاقدام، لهذا فهي خشنة ومعظمها مستعار من اسماء الحيوانات الضارية. والحالة الثانية هي استخدام الاسماء للدلالة على عكس ما تعنيه، فالملدوغ بسمّ الافعى هو السّليم واحيانا استخدم اسم الفاعل بديلا لاسم المفعول كما في قول الشاعر : دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك انت الطاعم الكاسي والمقصود بهذا السياق الهجائي هو الذي يبحث عمن يطعمه ويكسوه وليس العكس، وهناك حالة ثالثة لكنها تبقى في نطاق اجتماعي محدود كأن تنذر الامهات العواقر بتسمية ابنائهن اذا قدر لهن اين يحملن بأسماء لها دلالات التسّول كالشحّاذ او بأسماء ادوات واشياء تقع عليها العين فور الولادة ! * * * * * * * * * * * اول ما لفت انتباهي في التسمية ودلالاتها ما يتعلق بالسّلع او المهن الطارئة على مجتمع زراعي، واذكر ان صالون التجميل والحلاقة للنساء وهو الوحيد في المدينة المجاورة لقريتي كان اسم صاحبته جوليا، ومنذ ذلك الوقت اصبحت كل الصالونات تحمل الاسم ذاته، فكل عروس او فتاة تذهب الى الصالون تقول لذويها بأنها ذاهبة الى جوليا رغم ان جوليا رحلت عن عالمنا منذ عقود، ومن يقلن انهن ذاهبات الى صالونها هنّ حقيدات من ذهبن بالفعل الى صالون جوليا. الملاحظة الثانية هي ان اول اسماء عرفناها لصابون او معاجين اسنان وحلاقة او مساحيق غسيل او ورق الحمّام والمائدة بقيت هي ذاتها التي تطلق على مئات الاصناف، فكل ورق هو كلينكس وكل مسحوق غسيل هو تايد وكل معجون اسنان هو كولينوس وكل صابون هو نابلسي. دلالة ذلك هي نزعة الاختزال لدى الشعوب الاكثر تخلفا كما يقول د. مصطفى حجازي في كتابه عن سايكولوجيا المقهورين، وكل اختزال يقتضي بالضرورة تعميما ومن ثم تعويما للأسماء والمسميات معا. وقد تكون هذه الملاحظات هي مجرد نقطة بدء وشروع باتجاه حفريات اكثر جدية تسعى الى تفكيك مصطلحات وبالتالي بحث قابلية التسمية للتأويل اجتماعيا وميثولوجيا. ولو اخذنا تسميات لأحداث كبرى في تاريخنا المعاصر من طراز النكبة والنكسة واغتصاب الأرض اضافة الى مصطلح الفتح رغم انه يعود الى ما قبل هذا العصر بقرون، لوجدنا ان تلك التسميات تقترن بالتضليل سواء كان سياسيا او اخلاقيا، فالنكبة لها دلالة واحدة هي انها كارثة طبيعية كالزلزال او البركان او الفيضان او الاعاصير وهزيمة سبعة جيوش عربية في حرب فلسطين عام 1948 لم تكن نكبة من الطبيعة بقدر ما كانت من فعل التاريخ، وتكرر هذا ايضا في تسمية هزيمة حزيران التي انتهت باحتلال هضبة وضفة وقطاع وشبه جزيرة نكسة، رغم ان المعنى الدقيق للنكسة او الانتكاس هو ما يطرأ بعد حالة الشفاء والتعافي، ولا ندري بالضبط اين ومتى كانت تلك الحالة من العافية السياسية التي تعرّضت ذات صيف عربي الى انتكاس. حتى مصطلح الأزمة يستخدم في سياقات مُضلّلة بعيدا عن كل دلالاته، فالأزمة هي ما يطرأ على حالة الانفراج، فمتى كان هذا الانفراج الذي أعقبه أزمة ؟ اما مصطلح اغتصاب الارض، والذي اطلق على احتلال فلسطين عام 1948، فله حكاية اخرى اذ لا بد ان نعود الى حفريات اجتماعية وثقافية في بلادنا لتقصي مفهوم الاغتصاب، فهو مستعار من المعجم الجنسي، والاخطر من هذا ان ثقافتنا واعرافنا الاجتماعية كانت وما تزال تعالج الاغتصاب بالتستر عليه لكن بعد الاشتراط على المغتصب ان يتزوج من ضحيته، فهل هاجرت اعرافنا الاجتماعية والقبلية الى السياسة، وقبلنا بتزويج فلسطين المغتصبة من غاصبها، لينجب منها بضعة ملايين خلال ستة عقود ؟ * * * * * * * * * بعد حزيران عام 1967، لم تغير ادارة الاحتلال الاسرائيلي في مناهج احد الصفوف الاعدادية سوى كلمة واحدة، وردت في جملة هي عاد العربي مُنتصرا، وبعد التغيير اصبحت عاد العربي زائرا، بعد ذلك بعشرة اعوام اطلق الاعلام العربي ومنه الاعلام الفلسطيني ايضا على هبوط طائرة السادات في مطار بن غوريون اسم الزيارة، بكل ما توحي به هذه الكلمة من ألفة وحميمية وتفضّل، واذكر ان اغلفة مجلات عربية في تلك الفترة ومنها ما صدر في عواصم معارضة لما اقترفه السادات كانت تحمل عنوانا متكررا هو تلك الزيارة ! معنى ذلك ان التلميذ الفلسطيني الذي كان ينتظر عودة العربي منتصرا وجده يأتي اليه زائرا والخطورة الرمزية في تلك الجملة هي ان كلمة المنتصر المستبدلة بالزائر هي حال حسب الفقه النحوي العربي. * * * * * * * اطلق اسم الربيع في اوروبا مرّتين على شكلين مختلفين من اشكال الحراك الشعبي والسياسي الاولى عام 1848 وهو العام الذي صدر فيه البيان الشيوعي لماركس وشهدت فيه القارة الاوروبية حراكا عنيفا في معظم اجزائها، والمرة الثانية عام 1968 والذي شهد ما سمي في أدبيات الرأسمالية الاوروبية ربيع براغ، والمفارقة هنا هي ان الربيع الثاني جاء مضادا للأول، فالبيان الشيوعي تحول الى امبراطورية ايديولوجية بعد سبعة عقود من صدوره، وربيع براغ هو الحراك المضاد لتلك الامبراطورية التي حملت اسم الاتحاد السوفييتي، والمفارقة الاخرى ان لدينا مدينة عربية حملت اسم ام الربيعين مثلما حمل البلد الذي تنتمي اليه ارض السواد لفرط اخضراره… لكن ام الربيعين شأن شقيقاتها العراقيات تعيش خريفا بالغ القسوة مثلما تحول بلد ارض السواد الى بلد قال عنه السياب قبل رحيله : ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع وقد اشرت في اكثر من مناسبة ومقام الى القراءات الجديدة لروايات ونصوص تجعل من اسماء الشخوص والامكنة مفاتيح تفتض أقفالها كما حدث في اعادة قراءة روايتين لألبير كامو هما الغريب والسقطة ورواية العجوز والبحر لهمنغواي ورواية الطريق لنجيب محفوظ، ففي رواية همنغواي ثمة تأويل ميثولوجي لاسم سانتياغو او النّبي يعقوب وتأويل للماء ايضا الذي قد يكون بحيرة طبرية وكذلك اسم بطل الغريب ‘ميرسول’ الذي يزاوج بين الشمس والبحر ويوحنّا المعمدان في رواية السقطة. اما رواية الطاعون فقد كتب القس الايرلندي الفرد اوبراين مقالة لادانة مواقف مؤلفها سياسيا واخلاقيا، لأن اسماء الشخوص فيها فرنسية تماما، وما من اسم عربي لاهل مدينة وهران مسرح الرواية يرد بين الشخوص، لهذا قال اوبراين ان جرثومة الطاعون قفزت من الرواية لتصيب مؤلفها ! * * * * * * * * * التسميات والمصطلحات تقتادنا احيانا من انوفنا الى ملاعب ومسارح أخرى، ولأننا نستخف بها فقد نكون ضحايا استراتيجية التضليل التي تحركها، وقد لاحظت مؤخرا ان هناك محاولات جدية لاستبدال مصطلحي الاحتلال والاستيطان الاسرائيلي بمصطلح الاستعمار وهذا بحدّ ذاته اعادة انتاج للمسألة كلها لأن المستعمر له أرض ودولة يعود اليها اذا أرغم على ذلك، اما المستوطن فهو على النقيض من هذا، لأن مشروعه تأسس على الابادة المزدوجة للسكان الاصليين وهي عضوية تطال الجسد من خلال مجازر وقبور جماعية وثقافية تطال الهوية وتقضمها وتجرفها كما يحدث للتراب والذاكرة معا ! – عن القدس العربي- لندن
|