علي السوداني
تلك هي واحدة من غيباتك الكبرى . لا سلطان بيمينك يا ولد ، ولا صولجان تهشّ به قطيع الحروف التي حرنت ، وأنت ما زلت قاعداً عند بوابة المفتتح .أكاد أشمّ عطر غواية ، أو عفن فخّ منصوب عند موضع وشاية عتيقة ، قلت مرة ، أن امسحوها بلحيتي ، وأعصبوها في رأسي والناصية ، فهي – وحقكم – آخر غيبات حكواتي المدينة . بمقدورك أن تبتني لروحك الليلة ، سلة من ثيمات مدموغات فوق جسد حول أعجف ، وإذ تنقشع ستارة المرأى ، سينفتح باب النصّ ، وستتنزل الحروف ، وتنزرع فوق ضروع أراض بور وسبخاوات. إحرثها بمحراث جلجامش المسحول بسبع سمان بائنات ، وطش عليها بذارك السومريات ، وإنطر غيمة هارون والخراج والبيدر ، واقنص إغفاءة ممكنة تحت السدرة المبروكة ، واحلم بخراج عظيم .
سيتراتب النص وينمو ويتراكب . إشرع اللحظة في سرد واقعة . دعك من خرافة المتن والهامش . إسلك طريق السهل الممتنع المتمنّع . تلك درب آمنة . دانية قطوفها ومهاويها . جسدها الطريّ ، متناغم مع أزميلك ، فخذها بقوة كما كتاب مبجّل . لديك مثلاً ، مسألة السلالم . ألسلالم التي يمقتها سوقة ” السرافيس ” لأنها تسلخ بردة الهيبة من خديعة الجغرافيا . لا تتفلسف يا ولد . سيمقتك ” الآخر ” هنا أقترح عليك أن تستبدل مفردة الآخر ، بأخيّة أقلّ قسوة ومخاتلة ومواربة وتغبيشاً . رصّع موضعها بمفردة المتلقي . هي أرحم واحلى ، وهي لا تُشعر ” الآخر ” بالمهانة وبالإذلال .
في درب السهل الممتنع ، أثّث مفتتحات السلالم ونهاياتها ، بالبساطة . إنصب فوق أول درجة ، بائع كعك مداف بالزيت وبالزعتر ، وبطقاطيق مجلوبة من صبحية العوافي . فإن وجدت أنّ هذا التشكيل المبسّط ،لا يفضي إلى حدث ، حتى وإن كان باهتاً ، زحزحه قليلاً ومر عليه مرور العميان ، وتفكّر في ثان ، وتدبّر ما تيسّر في عبّك ، من أوشال لغة تخترع العصيان .
خذ مثلاً ، إمرأة مقمّطة بسواد باذخ . ألمراة وسيم وجهها . في حضنها طفل ، يغطّس إبهامه في فمه ، كأنه تأويل رخيص للجوع . دعك من هذا الهراء المدمع . ستغويك السهولة – يا قصّاص يا حكّاء يا شيطان – وستُنتج ليلتك الدكناء ، حكاية مشاعة مبتذلة ، ولحظة يقرأها صحبك وخلّانك وجلّاسك وندمانك في حان المدينة ، سيضحكون عليك ، وربما سحلوك من أذيال لحيتك الطويلة ، وشدّوك بحبل غليظ ، وأجلسوك فوق دكّة فائضة على باب معبد ” هرقل ” القائم فوق خشم القلعة ، ثم نادوا بالرعية ، أن ارجموا هذا الدجّال الزنديق المارق ، بقاسي الحجر ، ولا تبرحوا الجبل والسفح ، حتى ناقوط أواخر قطرات دمه النجس ، فإن جاءكم صاحب الشرطة ، وعصبته المدججة بالحديد و بالبارود ، قولوا له : إنما فعلنا هذا بهذا ، لأنه خان ديننا وديدننا ، وأفسد علينا نساءنا والبنات ، وحرّض علينا أكبادنا أولادنا ، وقال ما لانقول ونفتي ونعتقد ، وتمادى في إهانتنا ، فكتب قصة قصيرة واقعية !!
طيّب يا ولد يا شاطر ، إهجر الآن ، ألمرأة الشحّاذة ، وازرع مكانها ، إمراة ، لا هي جميلة ولا هي قبيحة . تملجُ وجهها بمسحوق رخيص ، ساحت فوقه أسنّة الشمس ، فصيّرته ضربة لون عمياء . قل إنك كنت التقيت تلك المرأة في ماخور عتيق ، ينام تحت الأرض ، عشرة أقدام . غمزت لها ، فردّت عليك بأحسن منها . هنا تماماً ، ستكون بعوز بائن ، إلى ثقافة جسدية ، ودراية وخبرة وحرفة ، في حفظ وتدوين مصطلحات الجسد ، وفعل الذروة الذي يشبه فعل الإنمحاء . إركل قاموسك المتصحّر المتصخر فوراً ، وافتح خزانة الكتب ، واصطد منها : ألمنجد الوسيط ، والكامل ، ومرّر سبّابتك الحرّيفة ، على سطور مبهجات من دفتر ” عودة الشيخ الى صباه ” واستعن بالنفزاوي وبالنواسي ، وبمائة ليلة وليلة من الليالي الألف ، لكن ، مهلا عليك ياولد ياقليل الصبر وشحيح الخبرة ، إني أراك كمن مسّه الجنّ ، وتاه منه الرشد ، وزاغت عنه الحكمة ، فنسي الرقابة والرقيب ، الذي إن لم يخمشك من خشمك ، خمشتك زوجتك المسكينة ، وقفّصتك ، وحنّت ظهرك بسياط الكلام ، ورمت عليك الثلاث المثلّثات ، لأنك كنت خنتها قبل كومة أسطر ، مع إمرأة مدنسة ، وأوهمتها بأن الأمر لا يعدو كونه حكاية ، أو مقترح قصة قصيرة جداً !!
حسنا ، إركل سلالم الكتابة ، ما دام خرير الذاكرة ، لا يسعفك على مسك ثيمة زينة طازجة ، وواصل تأثيث النصّ ، بأمكنة مدينية ممكنة . أقترح عليك أن تشتغل على ما يسمى ب ” الكولاج ” أو الترقيع ، وبمقدورك العودة ثانية ، إلى أول النصّ ، فتملأ ثقوبه ، وتربط خيوطه ، وقد تزيده سلّماً على سلّم ، وما دامت القوم تسمّيك ، مشّاء المدينة وحكواتيها ، فيجوز لك ، ما لا يجوز لغيرك !!
إنزل قليلاً من عاج اللغة ، وإهبط شطر اليوميّ المتاح ، مثل هذا القطع . إرسم مفردة قطع ، في أول السطر ، أو إذهب صوب خديعة بيضاء ، من صنف الدسيسة التالية :
محاولة ثانية لترميم ثقوب الحكاية :
ولقد رأيت الناس هنا ، يدخلون في باب التفخيم والتضخيم والتأويل والتلطيف ، في الشأن المتصل بإطلاق التسميات وخلع الألقاب والخصال ، على مصانعهم ومزارعهم ودكاكينهم ومطاعمهم ومقاهيهم وحاناتهم وماناتهم ، وبمقدور الدائرالّلاف الفاتل في شوارع وساحات وحارات وحدائق المدينة ، أن يتعثّر بكشك مزجج صغير فقير ، مشمور تحت انحناءة جسرغير مأهولة ، أن يرى إلى يافطة عملاقة تتوّج هام الكشك ، وتشير إلى عنوانه الذي هو ” مطاعم ومرطبات الوادي ” فأمّا المطاعم الضخمة المتضخّمة ، فهي الكشك الذي هو بمساحة قنّ طير ، وأما الطعام ، فسلّة سندويجات باردات ، منها جبنة كيري ، وجبنة حلّوم ، وجبنة كشكوان ، وسنيورة ومارتديلا مصبوغة من أجل التشهّي . وأمّا المرطبات المنعشات الباردات ، فهي الخرّوب والسوس والليمون الملفق بالصنعة ، وأما الوادي ، فإنّ الكشك اليتيم ، ينزرع عند بوابة جبل مثقوب ، يفضي إلى وادي الحدّادة ، وهو واد فقير غير ذي زرع ، ينام فوق مفارقة بديعة رحيمة ، إذ يحمل كتفه العالي ، ألقصور الملكية التي تتوقف عند مداخلها التحتانية ، سيارات السرفيس البيض ، وسوقتها الذين يمزجون قهوة الصباح ، بهديل فيروز المذهل ، ودخان بلديّ ، أو مهرّب .
حسناً جداً . في هذه الطيّة من القصّ ، يبدو أنّ المسألة ، قد صارت أكثر تعقيداً ، بسبب من التشظّي الصوري ، والإنثيال البطر . إمسح المقطع الفائت المربوط بمسمّيات المدينة ، وعد إلى تقنية التغبيش والتضبيب والعمى اللغويّ . هذا حلّ حسنٌ مريح ، وفكّ لعقدة طارئة . ما رأيك لو عدتَ إلى المرأة حمّالة الرضيع ، التي كنتَ شتلتها في مبتدأ القصّ ؟
قل عنها ، إنها أرملة . صف وجهها وبدنها ولباسها جيداً ، وإذهب إلى التفصيل والشرح والتفهيم والحشو الذي لا يثلم من هيبة النصّ . وسّع المنظر قليلاً . إكتب أنّ ثمة رجل يكمن في شرفة طالّة ، يشفط دخان أركيلة عالية ، ويراقب المرأة الغافلة ، بشغف عظيم . ألرجل شائب ، شعره متوّج بالثلج . ألثلج – هنا – ليس الثلج الذي يلبس الجبل حلّته البيضاء ، بل هو من باب المجاز والتخييل والبديع . ألآن ، أوقعت نفسك في شباك شبكة جديدة شائكة ، لأن وصفك الرجل بالشائب ، والمرأة ، أرملة حلوة ، مقطوعة من شجرة ، بياض وجهها مسوّر بشيلة سوداء أنتجت قمراً يكاد يصيح ، والطفل لاهٍ بمصّ إصبعه الإبهام ، وغير ذلك مما أنزلك ببئر نجيب محفوظ ، وجبّ يوسف إدريس ، ودفتر إحسان عبد القدّوس ، وربما شرائط حسن الإمام .
طيّب ، ما الحلّ إذن ، يا شيطاني الجميل المعرّش فوق كتفيّ الليلة ؟
ألحلّ سهل يا قليل الخبرة ، وشحيح الصبر . إستلّ قلمك بقوة ، وإضغط على بياض السطر الأخير ، وإرسم نقطة النهاية ، يومها ، سيُقال عنك ، أنك خلقتَ نصّاً محكماً مسبوكاً ، ذيله سيصير ، حمّالة نهايات ، فتنجو بجلدك ، وتركب مركباً آمناً ، قبل طوفان النقَدَة والقارئين !!