صانع الناي أم العازف؟


موسى حوامدة

هل من واجب الشاعر والشعر، أن يزين الانكسارات، ويتوهم بامتلاك الحرية، فيما يرزح تحت طائلة الخواء والخراب؟
هل للشعر وظيفة أو مهمة تقتضي أن يكون ساحرا خفيفا، باعثا على البهجة والمرح، فيما تتحطم القيم والكائنات وتضيع العبارة من شدة الحرج لا من اتساع الرؤيا، صحيح ان أعذب الشعر أكذبه، ولكن هذا ما قاله الأصمعي في تكريس التنصل من بهاء الشعر، تأكيداً للموقف المعادي للشعراء (الذين يتبعهم الغاوون)، وكلها محاولات لتفريغ الشعر من حقه في أن يكون شعرا، ومن رغبته في الطيران إلى جوف الكلمات، ومقبرة التقاليد.
وإذا كان البعض يرى في الشعر تطريبا، او امتاعا ومؤانسة للمستمعين، أو مبارزة في سوق عكاظ، فهذا تحقير للمعنى الأخلاقي البعيد للكتابة عموما، وللشعر على وجه الجنون.
***
كل ما يتحول يذهب إلى موته، الأب بداية، الأم تاليا، الوطن يتلاشى، الغربة تتعمق، خسارات تربح كل يوم، لا شيء يطلع من لا شيء، العدم سيد، والكلمات تبحث عن فنائها، وفيما تنجح الغربان في تجميل الهزائم والانكسارات، لا أجد لدي الشجاعة، لتجريب مقولات الأجداد، ومراوغة الحقيقة بأبعد مما تحتمل القصيدة. 
أحيانا لا تحتاج الزوبعة إلى من يذكرها بأكوام الحطام التي تخلفها وراءها، لكنها تتوقع دائما رؤوسا تقف في مواجهتها، تريد المزيد من الضحايا والركام، وحينما تمر دون أن يعترض سبيلها أحد، فلن تحزن كثيرا، لكن الحطام قد يحاول إحياء عمورة، وقد تطلق عناة الكنعانية شقائق النعمان، وتحارب آلهة الموتى بحثا عن ذكرها وابنها وحبيبها، وإذا نجحت الأسطورة في إحياء الموتى، وزرع الحياة في الأرض العطشى، ونفخ الروح في الأعضاء المتناثرة، فذلك بعيد عن مدار القصيدة، التي لا تركن على حتمية انتصار الخيال الأسطوري.
من هنا؛ أعلن للزوبعة عن نيتي في التعريف بها لا أكثر، وكل هذه (المشاغبات) التي قد تصفني بالبطولة، لم تعرف أني أمارس الخجل لا الثورة، وكل ما يراه البعض مني اصطداما أو صدما أو معارضة ما هو إلا تعبير عادي، مجرد تعبير في وجه العاصفة أو محاولة بسيطة للتعريف بآثارها المحتملة. والقصيدة دائما تهرب إلى حياة متخيلة، وحين يفشل المرء في الحفاظ على المرأة التي يحب سوف يطلق اسمها على نساء كثيرات، وقد يراها في وجوههن، ويتصورها في مناماته وأحلامه، وكلما أدرك أن خسارته حقيقية، تخفى أكثر بحثا عنها، تماما كمن يفقد الناي الذي يجيد العزف عليه، فيمضي للغابة يبحث عن قصب يكون صالحا لصنع ناي جديد، المعضلة هنا أن العازف يختلف عن صانع الناي، كما أنه لا يملك أدوات حادة تستخدم في استنطاق الأشجار عن حزنها العتيق، ولا إرغام الغابات على دفع تعويضات موسيقية، بدل الناي المفقود، وكل ما يقال ويثار يمضي في التيه، يبحث في جدوى التعويض وضرورة الإصغاء لأنامل العازف والحفاظ عليها، ولا يأخذ بعين القبرات مأخذ الجد.
هذا حال الزوابع والعواصف والأعاصير، لكني لا أجيد الإتكاء كثيراً على الآخرين، لقد رميت من يدي حتى تلك العصا التاريخية، فلم يعد لي فيها مآرب، بل ألقيتها في حومة النار، التي لا تجدد مجد السلام على الحطب، لأني واثق أن الناي الذي ضاع أعذب من كل العصي، كما أن تشبثي بعصا مجرد عصا لن يغنيني عن أغصان الأشجار الخضراء، ولا بحة القصب المجروح.
 * موسى حوامدة
@qaseedah 
musa.hawamdeh@gmail.com

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *